تدبر القرآن الدلالات والمقاصد

على أنَّ المؤمن الكيِّس الفَطِن هو الذي يجمع بين الحفظ والتلاوة والترتيل بتعلِّم أحكام القراءة الصحيحة، وبين الفهم والتدبُّر والعمل.


لقد امتن الله -جلَّ ذِكْره- على الأمة الإسلامية بأن أنزل عليها هذا الكتاب العظيم، الذي يتلوه عليها خيرُ رسول صلى الله عليه وسلم  بُعِثَ إلى البشرية: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة: ٢].

كما أن الله -تقدَّست أسماؤه- حمد نفسه المقدسة على إنزال هذا الكتاب المجيد؛ لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور، كما في قول الله -تعالى-: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا} [الكهف: ١]، ووصف هذا القرآن الحكيم بقوله: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: ٩].

على أن الله -جلَّت عظمته- إنما يَحمد نفسه على أمرٍ مُهمّ وعظيم، وعلى إفضالٍ كبيرٍ تفضَّل به على العرب، وهو إنزال هذا القرآن الكريم على نبيِّه صلى الله عليه وسلم  خير الأنبياء والمرسلين. بل إن الأمر لا يقتصر على العرب وحدهم -وهم مادة الإسلام-، وإنما يشمل البشرية جمعاء إلى قيام الساعة؛ فقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: ١]؛ وذلك لإخراج الناس جميعًا من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام، ومِن ضِيق الدنيا إلى سعتها، ومِن جَوْر الأديان الباطلة إلى عدل الإسلام.

إن القرآن الكريم هو هادي البشرية، ومُرشدها لحياةٍ طيبةٍ في الدنيا، وسعادةٍ أبديةٍ في الآخرة. وهو نور الحياة، ودستور الأمة لما يُصلحها في الدارين. وكل كلمة فيه ميزان للمعرفة البشرية في شؤون دنياهم وأمور معادهم. فما من شيء يحتاجه البشر إلا وبيَّنه الله -عز وجل- في القرآن العظيم نصًّا أو إشارةً أو إيماءً، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِله.

ولأجل ذلك؛ اعتنى بهذا القرآنِ المجيدِ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم  وتابعوهم تلاوةً وحفظًا وفَهمًا وتدبُّرًا وعملًا. وعلى ذلك النهج سار الأئمة الصالحون والعلماء الربانيون في القرون الماضية.

ومع ضعف الأمة في عصورها المتأخرة؛ تراجَع الاهتمام بالقرآن، وانحسر حتى اقتصر الأمر عند غالب المسلمين على حِفْظه وتلاوته وتجويده فقط، بلا تدبُّر وبلا فَهْم لمعانيه ومقاصده ومُراداته.

فترتب على ذلك هَجْر القرآن الكريم، وترك العمل به، أو التقصير في ذلك، بينما أنزل الله -جلَّ ثناؤه- القرآن لتدبُّره والعمل به، فانشغل معظم المسلمين بحِفْظه وتلاوته فقط، دون فَهْم معانيه وتدبُّره والعمل به.

على أنَّ المؤمن الكيِّس الفَطِن هو الذي يجمع بين الحفظ والتلاوة والترتيل بتعلِّم أحكام القراءة الصحيحة، وبين الفهم والتدبُّر والعمل.

وتجدر الإشارة هاهنا إلى أن الانتفاع بالقرآن الحكيم، وتحقيق الغاية من إنزاله، لا يتحقق بمجرد القراءة، وإنما بإعمال النظر والفكر في آياته، وتدبُّر معانيها، وبذلك يَنال المؤمن ثمرة قراءة القرآن. ذلك أن التدبُّر يُعِين على معرفة طرق الخير والشر، وتجلية معالمها، وإدراك أسبابها، وفَهْم مقاصدها وغاياتها، والنظر والعبرة في مآلات سالكيها.

كما أن التَّدبُّر فِعْلٌ سامٍ لا يتعلق بمجرد النظر لتحصيل المعارف والعلوم، وإنما هو تفكير شامل، ونظر ثاقب في الآيات الكريمات؛ للتوصُّل إلى مراميها ومقاصدها الحقيقية، الأمر الذي يجعل المسلم قادرًا على العمل بما عَلمه؛ ليكون من الناجحين المفلحين في الآخرة؛ فإن الذين يَعْمَلون بما يَعْلَمون يهديهم الله -جلَّ شأنه- لما لا يعلمون، قال الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّـمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: ٢٨٢].

والقرآن العظيم إنما أُنزل ليكون منهاجًا لحركة الناس في هذه الحياة، يُطبَّق وتُنفَّذ أحكامه، ويسير المسلمون على دَرْبه في كل شؤونهم. وقد حثَّ الله -عزَّ ذِكْره- على فَهْمه والنَّظر في معانيه وتدبُّره؛ لكي يكون هذا وسيلة إلى العمل به. قال الله -تعالى-: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].

وليُعْلَم بذلك أن القرآن لم يُنَزَّل من أجل تلاوته فقط، والتبرُّك به، وافتتاح الحفلات والمناسبات به، وتعليق آياته على الجدران، وإنما أُنْزِلَ من أجل مقصد أسمى، وهو: {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}؛ فهذا الكتاب المبين نزل ليُنْذِر كل حيّ على وجه الأرض، وتقوم به الحُجَّة على الكافرين.

ومن التنبيه بمكان، أن تدبُّر القرآن والعمل به فيه شفاء للفرد والمجتمع، وفيه شفاء للأُمَّة من أمراضها الحسية والمعنوية، وتلبية لحاجاتها الدنيوية والأخروية. قال الله -تعالى-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].

فمن عرف فضل القرآن؛ تلهَّف إليه تلهُّف الظمآن إلى الماء، والزرع إلى السماء، والمريض إلى الدواء، والغريق إلى الهواء، والمسجون إلى الحرية والفضاء.

على أن الذي يعيش بدون القرآن وتدبُّره والعمل به، والاستنارة بهديه؛ فإنه يعيش حياة شاقة عسيرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]. بل إنَّ حياته كلها مظلمة لا يرى فيها نورًا؛ بسبب ظلمات الشهوات والشبهات والأهواء: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 40].

وينبغي التنبيه هاهنا إلى أن الغرض من التَّدبُّر ليس مُجرّد التَّرف العلمي، والافتخار بتحصيل المعرفة، وإنما الغرض منه التذكر والعظة، والعمل بموجب العلم. وهذا الأمر لا يَحْظَى به إلا أصحاب العزائم والهِمَم العالية، وهم أولو الألباب؛ أهل العقول الحصيفة، والأذهان النظيفة، والقلوب الواعية.

ذلك أن المُتدبِّر للقرآن المجيد في قلبه حاجة ماسَّة وطاقة متوقدة لغاية لا يجدها إلا في القرآن؛ فهو يقرأ القرآن لمقصدٍ وغايةٍ؛ فلا يَقَرّ له قرار، ولا يَهدأ له بال، ولا تَستقيم له قراءة حتى يظفر بها.

ولنا في السلف الصالح قدوة حسنة؛ إذ لم يكن التَّدبُّر عندهم درسًا يُسْمَع أو كتابًا يُتْلَى، بقدر ما كان ثمرة يَقصدها تالي الآيات، وموردًا يَنْهَل منه القلبُ للوصول إلى حقائق القرآن، ودلالاته السامقة، ومقاصده الكبرى التي تُنير الطريق للسير إلى الله -تبارك وتعالى-.

وعلى العموم؛ فإن أهل القرآن هم أهل الله -تعالى- وخاصّته، وهم الذين وجدوا في القرآن شفاءَ قلوبهم، ودواءَ نفوسهم، ومنهلًا عذبًا تُروَى به أبدانُهم، فلا إلى غيره يَرِدُون، ولا مِن سواه يأخذون، ولا بدونه يَنعمون، فهو قُرَّة عيونهم، ورِيُّ ظمئهم، وغاية طلبهم.

 


أعلى