اعتمدت روسيا في منظومتها على الحضارة النصرانية وعلى العقيدة الأرثوذكسية بوجه الخصوص، كما اتخذت من مواجهة الانحطاط الإنساني الذي وصل إليه الغرب مثل الشذوذ وحق الإجهاض وغيرها من القضايا التي صادم فيها الغربُ المركوزَ الفطري الذي فطر الله الناس عليه
في الاجتماع الفصلي مع الرؤساء التنفيذيين الذي تعقده الطاولة المستديرة للأعمال،
والذي ضم عدداً من قادة الشركات والمؤسسات الكبرى في الولايات المتحدة من أمثلة
(جنرال موتورز) و (أبل) و (أمازون)، في منتصف شهر مارس الحالي؛ صرَّح الرئيس
الأمريكي جو بادين بأن العالم يقف على أعتاب نظام عالمي جديد بعد الحرب الروسية
الأوكرانية؛ وعليه فإن على الولايات المتحدة أن تتولَّى قيادته. وأن توحد بقية
العالم الحر.
تبدو عبارة (نظام عالمي جديد) مألوفة فقد استخدمت كثيراً من قبل العديد من المحللين
والمفكرين السياسيين، ربما منذ عهد ونستون تشرشل الذي استخدمها عقب الحرب العالمية
الثانية، ولم يكن الرئيس بايدن أول رئيس أمريكي يطرح هذا المصطلح فقد سبقه إليه
الرئيس الأمريكي بوش الأب معنوناً كلمته التي ألقاها أمام جلسة مشتركة لمجلسَي
الكونغرس بـ (نحو نظام عالمي جديد)؛ فهل نحن على موعد حقاً مع تغيير في النظام
العالمي شبيه بما أحدثته الولايات المتحدة في العالم خلال العقود الأخيرة السابقة.
لا تبدو الولايات المتحدة وحدَها التي تسعى إلى نظام عالمي جديد، فثمة قوَّتان
صاعدتان تحاولان إحداث خرق في المنظومة الدولية: الروس بما يمتلكون من قوة عسكرية
ضخمة ورثوها من الإمبراطورية السوفييتية السابقة. والصين بما راكمته من صعود
اقتصادي لافت غزا أسواق العالم أجمع خلال العقدين السابقين.
ورغم أن الحرب الخشنة أو الحروب العسكرية هي إحدى أهم أدوات التغيير التي تُحدث في
الساحة الدولية الأثر المطلوب؛ إلا أن القوى الناعمة تظل حاضرة كنقوش زخرفية تستر
عورات تلك المحاولات التغييرية.
لقد كان مصطلح (الحلم الأمريكي) أداة الولايات المتحدة التي غزت بها العالم مبشِّرة
بنموذجها الذي يعتمد على العدالة والديمقراطية وتداول السلطة ونمط الحياة الذي
يعتمد على تقديس الحرية الشخصية، والارتقاء الاقتصادي وحرية حركة رأس المال وتوفير
فرص العمل حتى صار هذا النموذج جاذباً لقِطاعات متزايدة من شعوب العالم التي باتت
تسعى للانضمام إلى الركب الأمريكي. لقد مرَّ الحلم الأمريكي بمراحل متتالية كانت
ذروتها إبَّان الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي ثم أخذت عوراته تنكشف أمام
العالم شيئاً فشيئاً.
منذ الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان والانهيارات في منظومة (الحلم الأمريكي)
تتوالى. لقد كانت الصور المسرَّبة من سجن (أبو غريب) في العراق، وسجن (غوانتنامو)
من قَبْلُ، ثم من بعد الموقف من المسلمين وصعود الإسلاموفوبيا، والتصريحات العنصرية
تجاه اللاجئين من غير البيض وغير النصارى، والقبول بفِرَق المتطوعين لمدافعة
الاحتلال وتسميتها في جانبهم مقاومة، ومن المسلمين إرهاباً... كل تلك الأمور وغيرها
أسقطت ورقة التوت عن منظومة النظام العالمي الذي يقوده الغرب.
على جانب القوى الصاعدة رأت روسيا أن الحضارة الغربية حانت ساعتها، ولم تعد تحمل
النموذج الملهم للشعوب، فسعت إلى تدشين منظومة القيم الناعمة التي تدعم من خلالها
محاولة صعودها. اعتمدت روسيا في منظومتها على الحضارة النصرانية وعلى العقيدة
الأرثوذكسية بوجه الخصوص، كما اتخذت من مواجهة الانحطاط الإنساني الذي وصل إليه
الغرب مثل الشذوذ وحق الإجهاض وغيرها من القضايا التي صادم فيها الغربُ المركوزَ
الفطري الذي فطر الله الناس عليه، اتخذت من كل ذلك أداة في بناء (حلم روسي) جديد
يكون أداتها الناعمة بالتوازي مع قواها الخشنة. فروسيا الجديدة التي نهضت من تحت
ركام الشيوعية المنكوسة العائدة إلى أرثوذوكسيتها تمدُّ يدها إلى الكاثوليكية
المحافِظة في أوروبا وتحاول مداعبة مشاعر المسلمين الذين يتوافقون معها في مواجهة
هذه الظواهر غير الإنسانية.
ففي الخطاب السنوي أمام مجلس الاتحاد (المجلس الأعلى في البرلمان) في ديسمبر 2013م
انتقد الرئيس فلاديمير بوتين النزعة نحو ما وصفه بتدمير القيم التقليدية باسم حرية
الفكر والآراء رغم أن غالبية الناس ترفض هذه الاتجاهات، وذكر أن هناك تأييداً
لتوجهات روسيا لحماية القيم التقليدية التي تعدُّ الأساس الروحي والأخلاقي
للحضارات. وقال في خطابه: (نحن نقدِّر الأسرة التقليدية والحياة البشرية الحقيقية،
بما في ذلك الحياة الدينية لشخص مَّا وليس فقط وجوده المادي، ونقدِّر أيضاً القيم
الروحية الإنسانية والتنوع في العالم).
وعلى النسق نفسه سار وزير خارجيته سيرغي لافروف؛ ففي حديث له أمام مجلس سياسات
الدفاع والخارجية الروسي في نوفمبر 2014م وبعد تأكيده أن النظام الدولي يجب أن يكون
متعدد الأقطاب ويعكس التعددية الثقافية والحضارية في العالم وجَّه انتقاداً حادّاً
للدول الأوروبية لتجنُّبها الحديث عن حقوق النصارى في الشرق الأوسط رغم اهتمامها
المكثف بظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا. واتهم لافروف الأوروبيين بالخجل من تضمين
دستور الاتحاد الأوروبي نصاً يؤكد الجذور النصرانية لأوروبا.
وخلال احتفال مماثل في عام 2009م كرر الوزير لافروف ثنائه على دور الكنيسة
الأرثوذكسية في الدفاع عن القيم الروحية داخل روسيا وخارجها، وأكد عدم إمكانية
مواجهة التحديات في العالم المعاصر دون تعزيز القيم الأخلاقية؛ وهو ما يستدعي
المواءمة بين قضايا السياسة الخارجية وقيم الأديان العالمية من أجل ضمان محافظة
النظام الدولي على تنوعه الثقافي والحضاري ضد مساعي فرض الثقافة الغربية.
وكأن لسان حال روسيا يقول: إن الحضارة الغربية ابتعدت كثيراً عن القيم النصرانية،
وإن روسيا اليوم هي الوريثة الشرعية التي تدافع عن النصرانية والأقليات النصرانيـة
في العالم والقيـم الإنسـانية التقليدية، وعلى أوروبا العجوز والكاو بوي الأمريكي
أن يفسح لها مجال القيادة.
الخلاصة: تبدو روسيا اليوم شارعةً في لعب دور أكبر في العالم، وتعي أن هذا الدور
يتطلب أكثر من امتلاك قدرات عسكرية أو اقتصادية فقط؛ فهي في حاجة إلى تقديم نموذج
جديد و (حلم روسي) يمنح تحركاتها في العالم جاذبية لدى مختلف الشعوب التي ضجَّت من
انحطاط النموذج الحضاري الغربي.
والعجب أن تخلو الساحة من محاولة نهوض حضاري يتخذ من الإسلام ملهماً لقيادة العالم،
ويزداد العجب ممن يتبعون أذيال حضارة آخذة في الأفول لا محالة، وآن أوان زوالها!