الاستمرار على المعصية يُبلِّد القلب ويُزيِّن المنكر حتى يفقد قُبحه، فتختل المعايير ويضعف الإيمان. والحل في العلم، ومجاهدة النفس، والأمر بالمعروف، والدعاء؛ لحفظ يقظة الضمير وثبات القيم الشرعية.
إن مِن صفات النفس المؤمنة أن جعل الله لها
«جرس
إنذار»
يقرع بشدة عند ارتكاب الذنب أو الخطأ، وهو ما نُسمِّيه
«الندم»
أو
«النفس
اللوامة»،
أو في الإطلاق المعاصر
«وَخْز
الضمير».
ولكن، ثمة قانون نفسي وشرعي خطير يَحْكُم هذه النفس، مفاده أن
«العوائد
المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها يزول قُبْحها عن النفوس».
هذه المقولة ليست مجرد وَصْف لحالة عابرة، بل هي تشخيص دقيق لمرض القلب وتَبلُّد
الإحساس؛ حيث يتحوَّل المُنْكَر في عين فاعله أو مَن ينظر إليه إلى معروف، أو على
الأقل إلى أمرٍ مألوف لا يَستوجب الإنكار.
وهذا المعنى قد أشار إليه الشيخ السعدي ضمن استنباطاته العميقة عند تفسيره لقوله
تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ
أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 37]؛
حيث ذكَر من فوائد الآية
«أن
العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها، يزول قُبْحها عن النفوس، وربما ظنّ
أنها عوائد حسنة، فحصل من الغلط والضلال ما حصل، ولهذا قال: ﴿يُضَلُّ بِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا
عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾؛ أي: ليُوافقوها في العدد، فيُحِلّوا ما حرَّم
اللّه؛ ﴿زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ﴾؛ أي: زيّنت لهم الشياطين
الأعمال السيئة، فرأوها حسنة، بسبب العقيدة المُزَيَّنَة في قلوبهم[1].
فالعادة السيئة تُعيد تشكيل بوصلة القِيَم والأخلاق لدى الفرد والمجتمع. فما كان
بالأمس عيبًا ونقصًا، يُصْبح اليوم شيئًا
«عصريًّا»
أو
«شخصيًّا»،
لا يصحُّ نقده. ويبدأ الناس بالاعتذار عن المنكر، ثم يمارسونه، وربما يتباهون به.
وفي التربية، عندما يرى الأبناءُ الآباءَ والقدوات يمارسون مخالفة شرعية بصفة
مستمرة (كالتساهل في الصلاة أو مشاهدة المحرمات)، لا يزول قُبْح المعصية عند الآباء
فقط، بل ينشأ جيل لا يَعرف أصلًا أن هذا الفعل قبيح! هنا تتحوَّل المعصية إلى
«عُرف
عائلي»
أو
«ثقافة
مجتمعية».
والعادة المخالفة للشرع تُضْعِف الغيرة على محارم الله، والتي هي من علامات الإيمان
الصادق. فالمؤمن الحقيقي هو مَن يغضب إذا انتُهِكَت حُرمات الله. لكن عندما تستمر
المخالفة، يتحوَّل المُنْكَر إلى
«مُباح
عملي»
في نظر فاعله، وربما وصل الأمر إلى الجهر بالمعصية أو الاستهزاء بالناصحين، والعياذ
بالله.
ومِن أخطر ما يَنتج عن الاعتياد: الاستخفاف بالمعصية الصغيرة (المُحقَّرات). وهذا
ما حذَّر منه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
«إِيَّاكُمْ
وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ
قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى
جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى
يُؤْخَذُ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكُهُ»[2].
وعندما تستمر النفس في مخالفة الشرع، يحدث صراع داخلي مُؤلِم بين
«المُعتقد»
و«السلوك».
ولحلّ هذا الصراع، ولأن النفس لا تريد الإقلاع عن الشهوة، تبدأ بتغيير
«المعتقد»
ليتوافق مع
«السلوك».
فتبدأ النفس باختلاق الأعذار:
«الزمن
تغيَّر»،
«النية
طيبة»،
«الجميع
يفعل ذلك»...
حتى يزول القُبْح تمامًا، وتستريح النفس للباطل.
ومن المقرر شرعًا أن أحكام الله تعالى ثابتة لا تتغير بتغيُّر الأزمان أو الأمكنة
أو العادات. فما حرَّمه الله فهو حرام إلى يوم القيامة، وما أحلَّه فهو حلال. قال
تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}
[الأحزاب: 36]؛ فالفعل لا يصبح حلالًا لمجرد انتشاره وتكراره، بل يبقى حرامًا في
ذاته، وإن تغيَّرت نظرة النفوس إليه لضعف إيمانها.
ومن هنا، فلا بد مِن الاستحضار الدائم لأضرار المعصية على الفرد والمجتمع وثمارها
الرديئة في الدنيا والآخرة حتى وأنت تفعلها!
وإن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الاستطاعة والدرجة، من أعظم ما
يَحفظ الفرد والمجتمع مِن التمادي في الغيّ واعتياده. وهو واجب شرعي يُسْهِم في
كَسْر حاجز
«الأُلفة»
مع المنكر.
ويتأكَّد طلب العلم الشرعي؛ فهو النور الذي يُميِّز به المسلم بين الحق والباطل،
والمعروف والمنكر، مهما تشابهت الأمور، والجهل هو الذي يجعل الإنسان يتأثر بالواقع
أكثر من تأثره بالنص الشرعي.
ومن الضرورة ملازمة الدعاء والمناجاة والإلحاح على الله بأن يُثبِّت القلب على
دينه، وأن لا يُزيغه بعد إذ هداه.
إنها دعوة مُلِحَّة لكلّ مؤمن أن يُحافظ على
«حساسية
القلب»
تجاه المُنْكَر، وأن يُبْقِي جدار الغيرة الإيمانية صامدًا، وأن يلزم الصبر ومجاهدة
النفس، والله تعالى هو المستعان، وهو القائل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
[العنكبوت: ٦٩].
[1] تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن، عبد الرحمن السعدي: ١/٣٣٦.
[2] أخرجه أحمد (٢٢٨٠٨)، والطبراني (٦/١٦٦) (٥٨٧٢)، والبيهقي في ((شعب الإيمان))
(٧٢٦٧)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (٢٤٧١).