مراكز الحضارة العربية الإسلامية بين التاريخ والحاضر

من يقرأ التاريخ الإسلامي، فسيجد أنه في كل هجمة على عواصم الحضارة العربية الإسلامية، يتجه المعتدي إلى النَّيل من مراكز العلم والثقافة،


لا يمكن الحديث عن الحضارة العالمية التي نعاصرها بما وصلت إليه من رَفاه وتقدُّم لافت في كافة الميادين، دون التوقف عند الإسهامات التي قدمتها الحضارة العربية الإسلامية للفكر الإنساني في التاريخ والجغرافيا والطب والفلسفة والرياضيات والكيمياء والفلك... إلخ؛ من أجل أن تثمر وتينع هذه الحضارة الإنسانية اليوم.

وإذا كان للحضارة العربية الإسلامية عواصم شتى، تناوبت على قيادتها بصفتها منارات للعلم والثقافة العربية الإسلامية، فقد ظل اسمها لصيقاً بهذه الحضارة، ومعروفاً عند القاصي والداني من المسلمين والأجانب؛ فهي - أي العواصم - تشكل نقطة التقاطع بين دارس التاريخ الإسلامي، ودارس الأدب العربي، ثم الباحث في الفقه الإسلامي، لأنها ذاكرة كلِّ ذلك. بَيْد أننا - ولدوافع موضوعية مرتبطة بمعطيات الوضع الراهن - سنقتصر في هذه الورقة على الحاضرتين دمشق وبغداد، نموذجان للدراسة.

فإذا كان شرف عاصمة الحضارة العربية الإسلامية، قد منح هاتين الحاضرتين مكانةً خاصة ومتميزة في التراث الإسلامي وإشعاعاً تعدَّى الحدود الجغرافية لبلاد الإسلام، فإن تلك الرمزية جعلت هاتين الحاضرتين أكثر عرضة للهجمـات الهمجية ولعبث الأيادي الآثمة في التاريخ كما في الحاضر.

أولاً: لحظة التألق والازدهار

حينما نذكر دمشق، فإننا نتحدث عن عاصمة الدولة الأموية، التي واصلت الفتوحات الإسلامية بحماسة دون تعب أو كلل، وهو ما ساهم في توسيع رقعة بلاد الإسلام التي امتدت حدودها من الصين شرقاً حتى المحيط الأطلسي غرباً، كما خاضت الدولة الأموية معارك ضد البيزنطيين بهدف فتح القسطنطينية. أما من الناحية الحضارية، فقد استغنت هذه الدولة عن الدنانير البيزنطية والدراهم الفارسية، فسكَّت لذاتها سكة إسلامية صحيحة، كما خصَّت الجيش باهتمام بالغ؛ سواء على مستوى التنظيم أو التسليح أو العدد، وشهدت الثقافة ازدهاراً كبيراً خاصة في الأدب والفن الإسلامي، وهو ما جعل دمشق محجّاً للأدباء والعلماء، وعُدَّت أكبر المدن الإسلامية في ذلك الوقت، بما حازته من أُبَّهة وفخامة في العمارة، فضلاً عن وفرة الأنهار وينابيع المياه. ويعدُّ مسجد دمشق الذي أمر الوليد بن عبد الملك ببنائه سنة 88 هجرية، مفخرة الحضارة العربية الإسلامية، برونقه وجماليته الأخَّادة.

أما الحاضرة بغداد، فكانت عاصمة للدولة العباسية التي أتت بعد انهيار الدولة الأموية، ومن المعروف أن الحضارة العربية الإسلامية بلغت أقصى رُقيِّها ومجدها في عهد هذه الدولة، إذ شهدت كل جوانب الحياة تطوراً وازدهاراً عظيمين، بدءاً بالاقتصاد ومروراً بالتجارة إلى العمران؛ إذ تمكن العباسيون من تشييد مدن عظيمة كبغداد وسامراء، وانتهاء بالثقافة. وهنا نقف لنقول: إن التعليم انتشر في كل الأقاليم، وازدهر (البحث العلمي)، إذ ظهرت مراكز علمية عديدة كالمدينة المنورة في علوم الشريعة، والبصرة والكوفة في النحو واللغة والآدب، وبغداد في فنون أخرى متنوعة، علاوة عن الترجمة، التي تم من خلالها نقل كثير من الآثار الأجنبية إلى اللغة العربية... ولعلنا نستحضر في هذا الباب مكتبة (بيت الحكمة) التي أسسها المأمون في مسعىً لتجذير الفعل الثقافي في الحضارة الإسلامية. فكان أن ازدهر النشاط العلمي وأزهر في ميادين مختلفة، فهناك العلوم الدينية بكافة أقسامها، والآداب بفنونها، والتاريخ والجغرافيا، ثم العلوم الطبيعية بفروعها العديدة.

ثانياً: لحظة التواري والأفول

من يقرأ التاريخ الإسلامي، فسيجد أنه في كل هجمة على عواصم الحضارة العربية الإسلامية، يتجه المعتدي إلى النَّيل من مراكز العلم والثقافة، من منطلق أنها عماد الحضارة الإسلامية. فخلال الهجوم التتري بقيادة هولاكو على بغداد سنة 1258م، الذي عُدَّ أعظمَ كارثة في التاريخ الإسلامي، تعرضت هذه الحاضرة لأبشع صنوف الفساد من تخريب وترهيب وتدمير وفتك ونهب للبلاد والعباد، وانتهاء بقتل الخليفة المستعصم، وأفول نجم العباسيين من الخريطة السياسية في ذلك الوقت. ولعل أهم ما يشد الانتباه هنا، هو الإتلاف الذي تعرضت له مكتبة بغداد إثر الغزو التتاري، حتى قيل إن هولاكو صنع من الكتب والمخطوطات التي ألقاها في نهر  دجلة قنطرة للعبور. يقول ابن الأثير في هذا السياق ما نصه: «ولقد جرى لهؤلاء التتار ما لم يُسمَع بمثله من قديم الزمان وحديثه؛ طائفة تخرج من حدود بلاد الصين لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية من الناحية ويجاوزون العراق من ناحية همذان، وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة، ينكرها ويستبعدها والحق بيده».

دمشق هي الأخرى لم تسلم من مخططات الغزو التتاري، الذي كاد يأتي على العالم الإسلامي برمَّته، لولا أن تصدت له قوة (إقليمية)، هي دولة المماليك التي أوقفت هذا الخطر الداهم، في معركة عين جالوت سنة 1261م.

من يتأمل حال هاتين الحاضرتين، يختلط عليه التاريخ بالحاضر، نظراً لتشابه الأوضاع والأحوال. فما قلناه آنفاً نستعيده ثانيةً للتأكيد على هذه الخلطة السحرية إن صح التعبير؛ فها هي بغداد منذ عام 2003م تاريخ الغزو الأمريكي للعراق، تتساءل عن ماهية الجريمة التي ارتكبتها؟ لقد دُمرت جامعاتها ومكتباتها الطافحة وهُدَّت مراكزها العلمية، كما تتعرض ذاكرتها وتراثها، الذي يصون تاريخها المشرِق، للسرقة والتدمير من لدن أعداء الدين والقانون والحضارة بل أعداء الإنسانية عامة، ويمكن هنا أن نذكر ما لحق الآثار التاريخية والتحف من تدمير وسرقة أثناء وجود التنظيم الإرهابي (داعش).

أما دمشق التي ما إن نتلفظ بهذا الاسم حتى تقفز إلى أذهاننا صور التاريخ والثقافة والجمال والطبيعة... فيؤَرَّخ لانطلاق عمليات التدمير بها بعام 2011م، فمنذ ذلك الحين استرسلت حلقات تدمير عمران ومعالم الثقافة والحضارة بهذه البلاد، منزل الأنبياء، ومسرح المعارك الفاصلة في تاريخ الأمة الإسلامية. لذلك نقول: عجباً لحال الدنيا! فبعد أن كان الشخص زمن العظمة الإسلامية، يتنقل بين أقاليم العالم الإسلامي بحرية وأمان واطمئنان، ها هي اليوم بغداد ودمشق تستيقظان من حين لآخر على دوي تفجيرات إرهابية تزرع الرعب في قلوب القاصي والداني! وبعد أن كانت دمشق في الزمن الجميل - إن صح التعبير - تضيء شوارعها المصابيح، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا ترتع في ظلمات الجهل والتردي والتخلف في كافة المجالات، دمشق اليوم، وغيرها من بؤر التوتر، يغطي سماءها دخان المدافع والقنابل وغبار التفجيرات. لعل هذا النوع من الخلاصات أو (القوانين) المستقاة من الماضي المسمى تاريخاً، ومن الحاضر باعتباره امتداداً للتاريخ، هي التي سبق للشاعر الأندلسي أن نظمها في بيت شعري مأثور قائلاً:

لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ

فلا يغرَّ بطيبِ العيشِ إنسانُ

لو عقدنا مقارنة بسيطة بين الوضع المأساوي الذي صارت إليه مدينة بغداد في العراق وحاضرة دمشق في بلاد الشام في الزمن الراهن، وبين هجمات وضربات العدو التي حاقت بهاتين العاصمتين عبر تاريخهما، وقمنا بتجميع مختلف لقطات وصور ومشاهد الاعتداء والتدمير والتخريب... لتمكَّنـا في نهاية المطاف من إخراج مسلسل دراماتيكي، يمزج بين ماضٍ يتداخل فيه العلم بالسيف وحاضر قاتم وكئيب، ليحكي قصةً محبوكة تتبادل فيها الشخوص الأدوار حسب الأزمنة والأمكنة لتؤدي سيناريو الازدهار والدمار! كما لنا بعد ذلك أن نتساءل: هل تحالف التاريخ والحاضر للتنكيل بعواصم الحضارة العربية الإسلامية لمحو آثارها وشواهدها من على وجه البسيطة؟ هل يُعدُّ ذلك ثمناً تؤديه هاتان العاصمتان نظير تقلُّدهما منصب عاصمة الحضارة الإسلامية؟

 

 


أعلى