• - الموافق2025/06/26م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مفهوم النصر في الإسلام  في ضوء صلح الحديبية

إن الإيمان بالله يتجاوز كونه اعتقادًا نظريًّا إلى كونه قوة مُحرِّكة تسهم في تعزيز الصمود والثقة بوعد الله، فهو الدافع الذي يُشعل جذوة الأمل في أحلك الظروف، وكذلك لا يمكن تحقيق النصر إلا بتجديد الإيمان المستمر الذي يظهر في أفعال المؤمنين، ويُترجَم في صور م


مفهوم النصر في الإسلام ليس مجرد مفهوم مادي يتعلق بالانتصار العسكري أو السيطرة الجغرافية، بل هو منظومة متكاملة تستند إلى مقاييس إلهية؛ تشمل: تحقيق الغايات الربانية، وإقامة العدل، ونشر الخير، حتى وإن بدا في ظاهره أنه لا يتماشى مع الفهم التقليدي للنصر.

هذا المفهوم العميق يتجلى بوضوح في صلح الحديبية، والذي مثَّل نقطة تحوُّل إستراتيجية في تاريخ الدعوة الإسلامية، وأظهر كيف أن النصر قد يكون كامنًا في أبعاد غير مباشرة.

يُعرف النصر في الإسلام بتحقيق إرادة الله في الأرض، ورفع راية التوحيد، وإزالة العقبات أمام حرية اختيار الدين الحق. إنه مفهوم يتجاوز الانتصارات المادية ليشمل الانتصارات الروحية والمعنوية؛ قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7]، مما يُبيِّن أن النصر مرتبط بنصرة الدين والالتزام بشرع الله تعالى.

شروط النصر في الإسلام

للنصر في الإسلام شروط وضعَها الله -عز وجل- في كتابه الكريم، وبيَّنتها سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتتمثل فيما يلي:

1- الإيمان بالله والتوكل عليه

يبدأ النصر من الإيمان العميق بالله -عز وجل-، والتوكل الصادق عليه؛ قال الله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [الأنفال: 10]؛ فالإيمان هو الوقود الذي يمنح الأمة الإسلامية القدرة على مواجهة الصعاب والتغلُّب عليها.

إن الإيمان بالله يتجاوز كونه اعتقادًا نظريًّا إلى كونه قوة مُحرِّكة تسهم في تعزيز الصمود والثقة بوعد الله، فهو الدافع الذي يُشعل جذوة الأمل في أحلك الظروف، وكذلك لا يمكن تحقيق النصر إلا بتجديد الإيمان المستمر الذي يظهر في أفعال المؤمنين، ويُترجَم في صور من الالتزام والصبر في مواجهة الشدائد.

2- الطاعة والعمل الصالح

لا يتحقق النصر إلا بطاعة الله ورسوله؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا﴾ [الحجرات: 14]، فتشمل الطاعة الجوانب الفردية والجماعية، كإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهي دعوة للالتزام بالمبادئ الأخلاقية التي تُشكِّل حجر الأساس للنصر الحقيقي.

فالعمل الصالح هو التعبير العملي عن الإيمان، وهو ما يجعل المجتمع الإسلامي قادرًا على الصمود أمام المِحَن، وكذلك لا ينفصل العمل الصالح عن الطاعة، فكلاهما يُشكِّلان منظومة متكاملة تضمن بقاء الأمة على الطريق المستقيم، وتجعلها قادرة على تحقيق الانتصارات الكبرى التي تؤدي إلى نشر الخير والعدل.

3- الوحدة والاعتصام بحبل الله تعالى

من أهم شروط النصر: وحدة الأمة واتحاد أفرادها؛ قال الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]، وتمثل التفرقة والفتنة عائقًا أمام تحقيق النصر؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٦].

والوحدة ليست مجرد شعار يُرْفَع، بل هي ممارسة عملية تستند إلى أُسس دينية وأخلاقية. إذ إن الوحدة الحقيقية بين المسلمين تُزيل الخلافات الصغيرة، وتجعل الهدف المشترك هو نصرة الإسلام وتحقيق رضوان الله تعالى. وبدون هذه الوحدة يصبح من الصعب جدًّا تحقيق أيّ إنجاز حقيقي؛ فالوحدة تعني أن تقف الأمة كالجسد الواحد؛ حيث يتحمّل كلّ فرد مسؤوليته تجاه الآخر، مما يؤدي إلى قوة لا تُقهَر أمام التحديات.

4- الإعداد الجيد

الإعداد المعنوي والمادي شرط أساسي للنصر، كما قال الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: 60]؛ فالإعداد لا يشمل فقط التسليح، بل يشمل التدريب، والخطط الإستراتيجية، والتأهيل الفكري.

كما أنّ الأمة التي تهتم بالإعداد الجيد تكون قادرة على مواجهة كافة التحديات. وأيضًا يشمل الإعداد بناء الأجيال القادمة على العلم والمعرفة؛ بحيث يكون لديهم الوعي الكامل بمسؤولياتهم تجاه الأمة.

5- الصبر والثبات

الصبر هو مفتاح النصر؛ قال الله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِاْئَتَيْنِ﴾ [الأنفال: 65]؛ فالثبات أمام التحديات يعكس قوة العقيدة ورسوخ الإيمان، كما أن الصبر هنا يعني التحمُّل والمثابرة في سبيل الله، وعدم التراجع أمام الضغوط.

والصبر هو الفضيلة التي تجعل الأمة قادرة على التعامل مع المِحَن بثقةٍ وثباتٍ، ولا يعني الصبر الاستسلام؛ بل يعني مواجهة الظروف بروح من التحدّي والعمل المستمر لتحقيق النصر.

6- تحقيق العدل والإحسان

لا يتحقق النصر إلا في ظل عدل وإحسان مطلق وإحسان؛ فالظلم يُفْقِد الأُمَّة بركة النصر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ»[1]؛ فالعدل هو الأساس الذي يبني عليه الإسلام مجتمعه المثالي، وبدون عدل لا يمكن لأيّ أُمّة أن تحقق الاستقرار أو النصر.

وكذلك الإحسان يُعَزز هذا العدل، ويجعله أكثر إنسانيةً ورُقيًّا، فالأُمَّة التي تلتزم بتحقيق العدل في كلّ مستوياتها تصبح قدوة للعالم، وتجذب الناس للإسلام كدين يُحقّق التوازن بين الروح والمادة، فالإحسان هو العطاء دون مقابل، وهو الذي يرفع الأُمَّة إلى مصافّ الأمم العظيمة.

مقاييس النصر في الإسلام

تختلف مقاييس النصر في الإسلام عن المقاييس المادية التقليدية؛ حيث تستند إلى أُسس دينية وأخلاقية ترتكز على تحقيق الغايات الربانية والقِيَم الإنسانية. ومن أبرز هذه المقاييس ما يلي:

1- تحقيق مقاصد الشريعة

يتحقق النصر الحقيقي في الإسلام حين تُصان حقوق الإنسان، وتُحفظ الحريات، وتُقام العدالة؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251]، ويعني هذا أن حماية المبادئ والقِيَم الأساسية التي جاء بها الإسلام تتصدّر الأولويات؛ حيث يُعدّ النصر مرتبطًا بمدى تحقيق هذه المقاصد، فتحقيق مقاصد الشريعة يتطلب جهودًا مستمرة في إقامة العدل، وردع الظلم، والعمل على تعزيز الخير بين الناس، وكذلك فإن النصر لا يُقاس بعدد المعارك التي حقَّقت أهدافها، بل بمدى دوام وانتشار القِيَم الإسلامية في حياة الأفراد والمجتمعات.

2- نشر الهداية والدعوة

من المقاييس المُهِمَّة للنصر في الإسلام: إبلاغ الدعوة وانتشار علامات الهداية؛ حيث يُنظَر إلى كل عمل يُسهم في هداية الناس إلى الإسلام على أنه جزء من تحقيق النصر؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»[2]؛ فنشر الهداية ليس مقتصرًا على الكلمة فقط؛ بل يتطلب أفعالًا وسلوكيات تُجسِّد القِيَم الإسلامية، مما يجعل الدعوة وسيلةً فعَّالةً للتأثير في الآخرين.

ومن هذا المنطلق، يُعتبر انتشار الإسلام في نفوس الناس وانضمامهم إليه مقياسًا مُهمًّا للنصر.

3- استمرارية الدعوة

النصر في الإسلام ليس مجرد حدث عابر أو نتيجة فورية، بل هو عملية مستمرة تهدف إلى إبقاء الدعوة قائمة وقادرة على مواجهة التحديات، وحتى في ظل الظروف الصعبة، يجب أن تبقى الدعوة حيَّة في القلوب والعقول؛ وذلك لأن استمرارية الدعوة تتطلب صبرًا وإصرارًا؛ إذ إن العمل الدعويّ لا يخلو من العقبات والمِحَن، ومع ذلك فإن المثابرة على نشر رسالة الإسلام تضمن تحقيق نصر حقيقي يتجاوز الحدود الزمنية والجغرافية.

4- تحقيق الأمن والسلام

قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]؛ فالأمن والسلام هما من أهم مقاييس النصر؛ حيث يعكس استتباب الأمن تحقيق الاستقرار الذي يسمح بازدهار القِيَم الإسلامية وانتشارها، فدين الإسلام يدعو إلى السلام الداخلي والخارجي، والنصر يتحقق حين تنعم الأمة بالأمان الذي يُعزّز القدرة على العطاء والعمل لصالح الإنسانية.

نموذج لمقاييس النصر في صلح الحديبية

كان صلح الحديبية حدثًا مفصليًّا في تاريخ الدعوة الإسلامية؛ إذ مثّل نموذجًا عمليًّا لتطبيق مقاييس النصر التي تعتمد على الحكمة والرؤية بعيدة المدى، بدلًا من الاكتفاء بالمكاسب الفورية. وعلى الرغم من أنه بدا تنازلًا في الظاهر، إلا أنه كان نصرًا إستراتيجيًّا غير مسبوق.

خلفية صلح الحديبية

في السنة السادسة للهجرة، قرَّر النبي صلى الله عليه وسلم  وأصحابه أداء العمرة في مكة؛ إلا أن قريشًا رفضت السماح لهم بالدخول، وبعد مفاوضات شاقَّة، توصَّل الطرفان إلى اتفاق تضمّن بنودًا بدت وكأنها لصالح قريش، مثل:

-عدم دخول المسلمين مكة هذا العام.

-هدنة لمدة عشر سنوات.

-إعادة المسلمين الفارّين من قريش.

المكاسب الإستراتيجية لصلح الحديبية

1- حرية الدعوة:

وفَّرت الهدنة للمسلمين فرصة ذهبية للتركيز على نشر الإسلام دون الانشغال بالحروب، وفي خلال العامين التاليين، شهد الإسلام انتشارًا كبيرًا؛ إذ دخل في الإسلام أعدادٌ هائلة من الناس، مما يُبرز أهمية الاستقرار في تحقيق النصر.

2- اعتراف قريش بالدولة الإسلامية:

لأول مرة اعترفت قريش بالدولة الإسلامية ككيان مستقل، مما منَح المسلمين مكانة سياسية مرموقة، وأظهر قوة الإسلام في مواجهة أعدائه.

3- التفرُّغ للعدو الخارجي:

 مكَّن الصلح المسلمين من مواجهة القبائل اليهودية التي كانت تُمثّل تهديدًا للدولة الإسلامية، وكان هذا التركيز على ترتيب الأولويات من أبرز الدروس الإستراتيجية المستفادة.

4- اختبار الثقة والصبر:

أظهر صلح الحديبية قيمة الصبر والثقة بوعد الله، فقال الله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾ [الفتح: 1]، مما يُبرز أن النصر قد لا يكون فوريًّا، ولكنه يأتي نتيجة الثبات والثقة بالخطة الإلهية.

دروس مستفادة من صلح الحديبية

1- النصر ليس آنيًّا:

 قد لا يُقاس النصر بالمكاسب اللحظية؛ بل بمدى تحقيق الأهداف بعيدة المدى التي تخدم مصلحة الأمة والدعوة الإسلامية.

2- الحكمة في القيادة:

 أظهرت قيادة النبي صلى الله عليه وسلم  بُعْد النظر؛ حيث فضَّل المصالح الإستراتيجية للأمة على المكاسب الشخصية، مما يُبرز أهمية القيادة الرشيدة في تحقيق النصر.

3- التضحية بالمكاسب الصغيرة:

 التنازل عن بعض المكاسب اللحظية، مثل عدم دخول مكة ذلك العام، كان خطوة إستراتيجية مهَّدت الطريق لتحقيق مكاسب أكبر في المستقبل، مثل فتح مكة.

*    *    *

إنّ قضية النصر في الإسلام مفهوم شامل، يتجاوز حدود المكاسب المادية المباشرة، ليرتبط بتحقيق القِيَم والمبادئ الإلهية التي تدعو إلى العدل، والسلام، ونشر الهداية.

وفي صلح الحديبية نجد النموذج الحي الذي يُظْهِر كيف أن الحكمة والصبر يمكن أن يقودا إلى نَصْر عظيم يتجاوز توقُّعات البشر.

في عالم اليوم، تحتاج الأُمَّة الإسلامية إلى إعادة فَهْم مقاييس النصر، وتطبيقها على نحوٍ يُحقّق لها مكانةً قويةً بين الأُمَم، كما أن استلهام هذه القِيَم والعمل بها هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل مشرق يعكس روح الإسلام ومبادئه.

 


 


[1] أخرجه البخاري (٢٤٤٧)، ومسلم (٢٥٧٩).

[2] أخرجه البخاري (٢٩٤٢)، ومسلم (٢٤٠٦).

 

  

أعلى