• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عاصمة الظلام والدماء أيضا!

كثيرة هي المجازر والانتهاكات الفرنسية في إفريقيا لكل شعوبها المقهورة سواء كانت إسلامية عربية أم إفريقية جنوبَ الصحراء.


يقولون إنها عاصمة النور، ذلك أنها ربما كانت من أوائل عواصم أوروبا إضاءة، أو أنها حازت رموز التنوير، لكن مداد النور لم يكن من جنسه بل كان دماء المظلومين والمقهورين من كافة البقاع التي وطئتها قدم الجندي الفرنسي. إنها باريس التي تقبع على ضفة نهر السين، الذي ارتوى من دماء الجزائريين منذ ما يقارب ستة عقود فتلوَّن باللون الأحمر حين خرج الجزائريون في 17 أكتوبر 1961م في العاصمة الفرنسية يطالبون باستقلالهم. لكن الشرطة الفرنسية رأت أن الأنوار الفرنسية لن تستمرَّ في إشعاعها إلا بأن يُقتَل هؤلاء المطالبون بحريتهم ويُلقَون مكبَّلين في نهر السين. واليوم يستطيع المارُّ فوق جسر سان ميشال في فرنسا أن يقرأ لافتة كُتب عليها: «من هنا كانت الشرطة ترمي الجزائريين في نهر السين في 17 أكتوبر 1961م».

وفي الآونة الأخيرة أشارت تقارير دولية إلى تورط عاصمة النور في المجازر التي تعرضت لها أقلية التوتسي في رواندا، والتي راح ضحيتها ما يقارب 800 ألف قتيل قضت على 75% من تلك الأقلية، وقالت الحكومة الرواندية - بعد الكشف عن تلك التقارير - إنها تحمِّل فرنسا مسؤولية السماح بوقوع الإبادة الجماعية لشعب التوتسي في رواندا. وأن فرنسا كانت على علم مباشر بالتحضير لإبادة جماعية في البلاد، وتتحمل «مسؤولية كبيرة» عن السماح بحدوثها.

الإعلان الرواندي جاء بعد تقرير ممـاثل صادر عن لجنة مؤرخين فرنسية في مارس الماضي 2021م، قال: إن فرنسا غضَّت الطرف عن الأحداث التي أدت إلى الإبادة الجماعية بسبب موقفها الاستعماري من إفريقيا ومن ثَمَّ تتحمل مسؤولية جسيمة. وبحسب التقرير الذي سُلِّم إلى الرئيس إيمانويل ماكرون، فإن فرنسا التي تدخلت بقوة في رواندا منذ تسعينيات القرن الماضي و «تحالفت» مع نظام الهوتو في البلاد، تتحمل «مسؤولية كبرى وجسيمة» في الأحداث التي أدت إلى الإبادة الجماعية التي تعرضت لها أقلية التوتسي عام 1994م. وأشارت التقارير إلى أن الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران (1981 - 1995م) الذي كانت لديه «علاقة قوية وشخصية ومباشرة» مع الرئيس الرواندي آنذاك جوفينال هابياريمانا، لعب دوراً مركزياً في السياسة الفرنسية في رواندا بين عامي 1990 - 1994م. وذكر المؤرخون الذين قاموا بفحص عشرات الآلاف من الأرشيفات الفرنسية لمدة عامين؛ أن باريس استثمرت طويلاً جنباً إلى جنب مع نظامٍ شجع على المذابح العنصرية.

وتعليقاً على التقرير، قال قصر الإليزيه: إن ردة فعل كيجالي، تفتح «مجالاً سياسياً جديداً لتصور مستقبل مشترك». ورحبت فرنسا باستبعاد السلطات الرواندية ملاحقات قضائية على لسان وزير خارجيتها فينسان بيروتا في مقابلة مع صحيفة (لوموند) الفرنسية.

ما هي الآثار السياسية المترتبة على أمثال تلك التقارير أو الاعترافات التي تضطر لها فرنسا؟

في الحقيقة، لا شيء من الممكن أن يحرك المياه الساكنة في إفريقيا تجاه الظلام الفرنسي القابع فوق أراضيها حتى بعد استقلالها، فعُمُلات دول المستعمرات السابقة لفرنسا في إفريقيا ما زالت مرتبطة بالفرانك الفرنسي واقتصاداتها لا تنفك عن فرنسا، فالفرنك الإفريقي (CFA) هو اسم العملة الموحَّدة لـ 14 دولة إفريقية عضوٍ في منطقة الفرنك الإفريقي، (12) دولة منها كانت سابقاً مستعمرات فرنسية بالإضافة إلى غينيا بيساو (مستعمرة برتغالية سابقة) وغينيا الاستوائية (مستعمرة إسبانية سابقة). يعتمد نظام الفرنك الإفريقي على أربعة مبادئ رئيسية، هي: مركزية احتياطي النقد الأجنبي في الخزانة الفرنسية، وثبات قيمة الفرنك مقابل اليورو، وقابلية التحويل المجاني من الفرنك إلى اليورو، وحرية حركة رأس المال بين فرنسا والبلدان الإفريقية في منطقة الفرنك، بالإضافة إلى مشاركة فرنسا في هيئات إدارة البنوك المركزية لهذه المنطقة. ويشترَط على كل بنك مركزي في منطقة الفرنك أن يكـون لديه حساب تشغيل لدى الخزانة الفرنسية المركزية ويجب عليه إيداع جزء من احتياطي العملات هناك، لذلك يوجد حاليّاً ما يقارب 8000 مليار فرنك إفريقي موضوعة في الخزانة الفرنسية.

ونخبة هذه الدول السياسةُ أيضاً ما زالت مرتهنة لساكن الإليزاله؛ فلا يستطيع أن يستمر نظام حكم من مستعمراتها القديمة في السلطة إن باشر سياسة استقلالية بعيداً عن الهيمنة الفرنسية.

كثيرة هي المجازر والانتهاكات الفرنسية في إفريقيا لكل شعوبها المقهورة سواء كانت إسلامية عربية أم إفريقية جنوبَ الصحراء. لكن فرنسا اليوم أصبحت في تناقض مع ذاتها وجزء من مكوناتها وانتقلت المعارك إلى داخل أراضيها. فأضحت تحارب بعضَ مكوناتها وتحاول الضغط على مسلميها؛ فإما أن يتخلوا عن إسلامهم وإما أن يرحلوا... ولكن هيهات هيهات!

فالمسلمون في فرنسا أصبحوا مكوِّناً رئيسياً مواطنين كاملين وليسوا مهاجرين، وهم إن كانوا كذلك فما زالت فرنسا في حاجة شديدة لهؤلاء المهاجرين؛ فالأوضاع الديموغرافية داخل فرنسا غاية في السوء، وأعدادُ السكان تتناقص عاماً بعد عام؛ فقد أظهرت آخر مراجعة ديموغرافية أصدرها المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية (Insee) عام 2020م استمرار تراجع عدد المواليد في فرنسا. كما تراجع عدد المواليد في عام 2019م بنسبة طفيفة عن عام 2018م بلغت 0.7%؛ إذ وُلد 753 ألف طفل في عام 2019م؛ أي أقل بمقدار 6 آلاف من عام 2018م، وأشار تقرير المعهد إلى أنه في عام 2015م كان الانخفاض في عدد المواليد بنسبة 2.4%، وفي عام 2016م تراجع إلى 1.9٪، ثم 1.8% في عام 2017م، و 1.4% في عام 2018م.

وذكرت صحيفة (لوموند) أنه على الرغم من هذا الانخفاض الحاد في المواليد، إلا أن فرنسا ظلت البلد الأكثر خصوبة في الاتحاد الأوروبي، وَفْقاً لآخر إحصائية أصدرتها مديرية (يوروستات) عام 2017م.

من جهة أخرى، ربطت صحيفة (لوفيجارو) الفرنسية بين تلك الإحصائيات التي وصفتها بـ (الخطيرة) وأزمة قانون التقاعد التي تشهدها البلاد؛ إذ ترغب الحكومة الفرنسية في رفع سن التقاعد إلى 64 عاماً.

كان المهاجرون هم الحلَّ المتاحَ لكثير من دول أوروبا - وعلى رأسها فرنسا - لسد نقص عدد السكان. ورغم التخوفات من التأثير الثقافي والقيمي للمهاجرين إلا أن التعويل كان على قدرة الأنوار الفرنسية في استقطاب عقول الأجيال الجديدة التي تنشأ على القيم الفرنسية فينصهرون في البوتقة الفرنسية.

إن أنوار الإسلام كانت أقوى من ظلام فرنسا، وأصبح ثمة اضطراد في ظاهرة التمسك بالإسلام، ولكن الحرية الفرنسية برمت بهذه الحالة فتعاقبت القوانين التي تهدف إلى صهر المسلمين قصراً بعيداً عن الإسلام.

ومن التناقضات العجيبة أن القوانين الفرنسية لا تعاقب من يمارسون الجنس بالتراضي، إلا إذا كان اغتصاباً أو تحرشاً! لكن في حال كان أحد الأطراف دون الخامسة عشرة من عمره كانت تعدُّه جرماً، وفي الأيام الأخيرة رأى مجلس الشيوخ الفرنسي أن عمر 15 عاماً كبير نسبياً فجرى تخفيضه ليصبح 13 عاماً. ولا ينظر لصغر سن الطفل أو أنه تم التغرير به، بل للفتاة كامل الحرية في ذلك.

وفي الوقت نفسه تضيق فرنسا ذرعاً بحجاب الفتاة ذات 18 عاماً فتسن القوانين التي تمنع الفتاة المسلمة أن تخرج بالحجاب، وأن تتجول في شوارع عاصمة الأنوار حتى برفقة والدتها المحجبة. ولا يحق للمسلمين أن يَطعَموا ما يشاؤون، وغلَّقت مساجدهم، وجمعياتهم، وضيقت عليهم العيش وضغطت على أئمة المساجد للاعتراف بزواج المثليين؛ فقـد دعت الوزيرة المفوضة بوزارة الداخلية المكلفـة بالمواطنة مارلين شيابا الأئمة المسلمين لتزكية زواج المثليين بناء على ميثاق مبادئ الإسلام في فرنسا.

لا بالدماء استطاعت فرنسا الإبقاء على احتلالها للجزائريين، ولا بالقوانين تستطيع فرنسا اليوم إزالة الإسلام من قلوب المسلمين في فرنسا، وفضائحها كلَّ يوم تزداد وإن كان الأثر الاقتصادي والسياسي يحكم اليوم بضعفه، لكنها لا شك ستنطفئ شرارة أنوارها المزعومة، ويغرق كبرياؤها في بحر الدماء التي فجَّرتها.

 


أعلى