عمر بن عبد العزيز: لم يكن متحمساً لبقاء العرب المسلمين في الأندلس، وفكَّر في إقفالهم منها في بداية الأمر «لانقطاعهم وراء البحر عن المسلمين»، «وبُعدِهم عن أهل كلمتهم»، «واتصالهم بأعداء الله الكفار»
تفكير عمر بن عبد العزيز بإجلاء المسلمين من الأندلس:
لقد كان الخليفة عمر بن عبد العزيز رحيماً بأبناء دولته ورعيته، حريصاً على أمنهم
وسلامتهم. فقد شعر منذ أن دخل المسلمون الأندلس، بأن مقامهـم فيها غير طبيعي، وأنهم
في خطر لأنهم في جزيرة بعيدة تحيط بهم البحار من معظم الجهات، ومنقطعون عن أهل
ملتهم، وتجاورهم أمم قوية الشكيمة، شديدة البأس، كثيرة الأعداد، وافرة الإمداد،
مخالفة لهم في اللسان والجنس والدين، مثل الجلالقة والبشكنس والفرنجة، ومن ثَمَّ لا
نصير لهم فيها سوى الجهاد المتصل، والقتال الشديد، والتضحية المتميزة، والصدق في
التوجه، والتصميم على النصر، في كل حين. ويمكن القول، بعبارة أخرى: إن مصدر ذلك
الخوف هو أن هذه الولاية
«كانت
تقع مباشرة على تخوم، عالم مختلف اضطر الإسلام أن يكبح جماح اندفاعه قبالته، فقد
كانت تجاور أيضاً مكاناً خطراً؛ إذ يتوجب عبور مضيق صعب قبل الوصول إلى أن تطأ
أرضها قدم إنسان. ذلك أن يَعْبُر العرب بحراً مَّا، مهما كان ضعيفاً، في القرنين
الأول والثاني للهجرة، على الأقل، مسألة كانت أصعب من قطع صحراء شاسعة من أولها إلى
آخرها، ولا بدَّ أن نتذكر أمر الخليفة الوليد الحذر للقائد موسى بن نصير بأن لا
يعرِّض المسلمين في بعثته التي ينوي القيام بها (أي فتح الأندلس) لأخطار بحر عنيف
تثيره عادة عواصف هوجاء».
إشارة لتردد الخليفة الوليد - وهو المحب للفتوحات، المشجع قادته عليها، والداعم لها
- في فتح الأندلس، وأمره لموسى بن نصير عندما بعث إليه يستأذنه بفتحها
«أن
خُضْها بالسرايا حتى تختبر شأنها، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال».
والمقصود بذلك البحر هو بحر المجاز، أو خليج الزقاق الذي صار يعرف بعد فتح الأندلس
باسم مضيق جبل طارق، والذي يفصل بين المغرب والأندلس. فقد كان العبور فيه محفوف
بالخطر، على الرغم من أن المسافة القصيرة بين شاطئيه لا تزيد عن 14 كم. قال ابن
سعيد عند ذكر هذا المجاز:
«ويُعرَف
هذا الموضع بالزُّقاق، وهو صعب المجاز، لأنه مجمع البحرين، لا تزال الأمواج تتطاول
فيه والماء يدور».
ولا يزال هذا المضيق، حتى اليوم يُعرف بمقبرة السفن، لكثرة السفن التي غرقت فيه عبر
التاريخ.
ولذلك كله فإن عمر بن عبد العزيز: لم يكن متحمساً لبقاء العرب المسلمين في الأندلس،
وفكَّر في إقفالهم منها في بداية الأمر
«لانقطاعهم
وراء البحر عن المسلمين»،
«وبُعدِهم
عن أهل كلمتهم»،
«واتصالهم
بأعداء الله الكفار».
بَيْد أنهم راجعوه في ذلك، وقالوا له:
«إن
الناس قد كثروا بها، وانتشروا في أقطارها، فأضرَب عن ذلك»؛
أي تراجع عن قراره
«وتركهم،
ودعا لأهلها»،
قال المؤرخون الذين رووا لنا هذه الحكاية:
«وليت
الله تعالى أبقاه حتى يفعل؛ فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار، إلا أن يستنقذهم الله
تعالى برحمته».
مضمون عهد عمر بن عبد العزيز للسمح بن مالك:
ومن هنا، فقد قرر عمر بن عبد العزيز أن يختار لولاية الأندلس رجلاً صالحاً، فاضلاً،
ورعاً، كفؤاً، فوقع اختياره على رجل من خيرة أصحابه، ومن الموثوق بهم عنده، ألا وهو
السمح بن مالك الخولاني، الذي كان من خيار أهل زمانه ثقة وعدالة، وكان [عمر] قد رأى
منه أمانة وديانة عند [سليمان] بن عبد الملك، فاستعمله».
وعهد إليه إصلاح الأمور، ورم الثغور، كما عهد إليه بإعادة تنظيم الشؤون المالية
والإدارية، وذلك لمعرفته بهذه الشخصية التقية النقية المجاهدة الباسلة الممتلئة
إيماناً وحماسة، ورغبة للعمل الخيِّر والجهاد الفاتح. وكان ذلك في سنة 100هـ.
والحقيقة أن الخليفة عمر بن عبد العزيز عهد إلى السـمح بمــا هو أبعد وأخطر من
«إصلاح
الأمور ورم الثغور»،
وأبعد من
«تنظيم
الشؤون المالية والإدارية»؛
فقد عهد إليه بإجلاء المسلمين من الأندلس إذا وجد أن بقـاءهم في هذه الجزيرة يشكِّل
خطراً على أرواحهم، بسسب قلَّتهم، ويجعلهم تحت رحمة العدو المحيط بهم، الذي هو أكثر
منهم عدداً وعدة، وأعطى الخليفة عمر بن عبد العزيز للسمح حرية التصرف في شؤون
ولايته وجعله مرتبطاً به مباشرة. وقد نص ابن القوطية على ذلك في تاريخه صراحة،
فقال: وكان عمر بن عبد العزيز، قد عهد إلى السمح بإجلاء المسلمين من الأندلس،
إشفاقاً مما دخل عليهم، إذا خشي تغلب العدو عليهم. أي إذا وجد أن المسلمين من قلة
العدد، بحيث يغلب الظن أنهم سيُقتلَون من غير نكاية في أعدائهم، إذا ما أجمعوا
قتالهم. فينبغي في مثل هذه الحالة - كما يقول العلماء - أن تقدَّم مصلحة حفظ النفس
على مصلحة حفظ الدين، لأن المصلحة المقابلة، وهي مصلحة حفظ الدين موهومة أو منفية
الوقوع... إذ المصلحة الدينية تقتضي أن تبقى أرواح المسلمين سليمة لكي يتقدموا
ويجاهدوا في البلدان المفتوحة الأخرى، وإلا فإن هلاكهم يعتبر إضراراً بالدين نفسه،
وفسحاً للمجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدوداً أمامهم من السبل. ومهما كان
من أمر، فيبدو بوضوح من نص رواية ابن القوطية السابق أن الخلافة لم تكن قد حزمت
أمرها بعدُ في المضي قدماً في تمصير الأندلس وإقرار المسلمين على البقاء فيه قبل
إرسال السمح لولايتها. ولذلك يذكر بعض المؤرخين أن غرض عمر بن عبد العزيز الأول من
إرسال هذا الوالي إلى الأندلس كان استطلاع الأوضاع في هذه الولاية الفتية، للبت في
هذا الموضوع الخطير. وهو ما يدلنا على أن أخبار الأندلس كانت طوال الفترة الماضية
منقطعة تماماً عن مركز الخلافة، وأن عمر بن عبد العزيز لم يكن يعرف عنها شيئاً.
وطبيعي أن يكون الخليفة قد أراد لقراره المتعلق بإجلاء المسلمين أو إبقائهم في
الأندلس، أن يكون بعد استجلاءٍ أكثرَ للحقائق والمعطيات التي ستأتيه عن طريق السمح
من داخل الأندلس نفسها، وبناءً على مشاهداته وتقويمه. ومثل عمر الشديد الحرص على
الإسلام والمسلمين، لا يقتنع إلا بأخبار موثوقة من رجل موثوق؛ ولذلك طلب من السمح
ما طلب.
التقرير الذي بعث به السمح لعمر بن عبد العزيز ونتيجته:
كان يتعين على السمح الذي وصل إلى مركز عمله في قرطبة وهو مندفع حماسةً لتقويم
الأوضاع في هذه الولاية، التي كان غموضها يزداد لدى خلفاء دمشق، والتي يصلها لأول
مرة المعرفة الواعية بطبيعة البلاد،
«والتعرف
على خطوط الملاحة البحرية الآمنة التي تربطها ببقية العالم الإسلامي»،
والوقوف على دقائق الموقف، ومعاينة مواضع الاعتلال في شؤونها، والإحاطة بتفاصيل
الحياة فيها، والاتصال بالناس، وتفقد أحوالهم، وتحصيل قراءة دقيقة عن الأوضاع
الأندلسية عن كثب، ومن الداخل. وهكذا جمع السمح كل ما يعلمه عن الأندلس، وسبر
طبيعتها ومعيشة أهلها، وظروف المسلمين فيها، وأحوالهم، وإمكانياتهم، والتحديات التي
تواجههم. وما لبث حتى كتب إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز في دمشق تقريره الأول،
الذي يعـرِّفه فيه بقوة الإسلام في الأندلس وكثرة مداينهم، وشرف معاقلهم. وحوى
التقرير، بلغة العصر الحاضر، تفصيلاً عن طبيعة الأندلس، وإمكانياتها، ومشاكلها
السياسية والاقتصادية. ويدلُّ ذلك على أن السمح قد أوعز للخليفة عمر بن عبد العزيز
أن يعدل عن فكرة إجلاء المسلمين من الأندلس، لأن الناس - أي المسلمين كما قال - قد
كثروا بها، وانتشروا في أقطارها، واتخذوها، وطناً دائماً لهم، لطيبها وكثرة
خيراتها. بل أن بعضهم كانوا قد اتخذوا زوجات لهم من نساء هذه البلاد، وصاهروا
أهلها، الذين يدعوهم العرب باسم
«عجم
الأندلس»،
فإن قسماً كبيراً من هؤلاء دخل الإسلام طواعية، وبدؤوا في ذلك منذ الفتح.
«فوجه
(أي الخليفة) حينئذٍ جابراً مولاه ليخمِّس الأندلس».
والمهم أنه على هذا النحو طمأن السمحُ الخلافةَ عن استقرار أمور المسلمين في
الأندلس، وثبات أقدامهم فيها. وكان السمح، الذي يُشبَّه بعمر بن عبد العزيز في
إسلامه وتقواه وخُلُقِه، مدبِّراً حكيماً، وقائداً باسلاً، وسائساً حازماً، ذا
دراية بتمشية الأمور، وكان حاكماً وافر الخبرة والحكمة والعقل، ومن الولاة
المجتهدين الذين يجمعـون بين الحنكة الإدارية والدراية السياسية، والذين من ثَمَّ
كانوا أهلاً لأن يُحسب حسابهم، ويُعَوَّل على آرائهم ومشورتهم في الأمور الجسيمة،
وفي اتخاذ القرارات المصيرية، وهو يعتبر من خيرة الأمراء العمال والولاة القادة
الذين تولوا أمر الأندلس قبل قيام دولة بني مروان، ولذلك فقد قوبل تقريره المذكور،
بالرضا والقبول من قبل الخليفة. فلما وضحت الصورة للخليفة تمام الوضوح، واستوثق من
أهمية الأندلس، وصعوبة إجلاء المسلمين منه، وإصرارهم على البقاء فيه، وثبات أقدامهم
هناك، واطمأن غاية الاطمئنان على أمنهم وسلامة أرواحهم من خطر العدو من جهة، ومن
قوَّتهم وقدرتهم على الدفاع عن أنفسهم من جهة أخرى، عدل عن إجلائهم، ومال إلى تركهم
فيها، عملاً بمشورة ونصيحة السمح. ومن هذا نفهم أن الضمير الغائب، في قول ابن
عـذاري:
«فقيل
له (أي لعمـر بن عبد العزيز، عندما طرح فكرة إجلاء المسلمين عن الأندلس على بساط
البحث): إن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، فأضرب عن ذلك»
يعود إلى السمح.
اقتناع عمر بن عبد العزيز بإبقاء المسلمين في الأندلس:
وهذا يعني أنَّ تراجع عمر بن عبد العزيز عن فكرته في إجلاء المسلمين من الأندلس؛
إنما حدث بعد إرسال السمح إليها، وبموجب معطيات التقرير الذي بعث به هذا الأخير
إليه، والذي جاء بعد دراسة الواقع في الأندلس، وهو ما يدل على صحة رواية ابن
القوطية، وقد جزم بذلك أيضاً كل من الحجي، والصلابي. ومن هنا فإننا عندما نقول إن
عمر بن عبد العزيز قد وافق على إبقاء المسلمين في الأندلس بناء على مشورة السمح، لم
نكن نلوي أعناق النصوص لكي نضخم من دور هذا الوالي، وننحله محاسن ليست فيه، وننسب
له أعمالاً ليست له؛ وإنما نحن نحاول الوصول إلى وصف ما حدث بصورة أقرب إلى الحقيقة
والواقع. ومهما كان من أمر فإن النتيجة تبقى؛ وهي أن عمر بن عبد العزيز اقتنع
بإبقاء المسلمين في الأندلس، ولولا تلك القناعة برسوخ قدم الإسلام هناك ربما أجبرهم
على العودة إلى الأقاليم الإسلامية التي ثبت فيها سلطان المسلمين إذا اقتضى الأمر
ذلك. وهذا كما فعل مع جيش المسلمين الذي كان يحاصر القسطنطينية منذ عهد سليمان بن
عبد الملك، فإنه أصدر أوامره سنة 99هـ إلى مَسلَمة بن عبد الملك، قائد هذا الجيش،
يأمره بالانسحاب والعودة إلى قواعده في الشام، نظراً لتطاول أمد الحصار لأكثر من
عام، ولِـمَا كان فيه ذلك الجيش من ظروف سيئة بسبب البرد القارس، وشح الإمدادات
وصعوبة وصولها، مع تلاشي الأمل في اقتراب النصر، في وقت غزا فيه الإحباط عناصر
الحملة، وهم على وشك مواجهة شتاء جديد غير مؤهلين له، الأمر الذي جعل الخليفة عمر
بن عبد العزيز - بناء على هذه المعطيات - يصدر أوامره لذلك الجيش بالانسحاب. أو كما
فعل مع مسلمي طرندة فإنه أجلاهم عنها إلى مَلَطْية في سنة 100هـ، وطرندة واغلة في
البلاد الرومية، أبعد من ملطية بثلاث مراحل، وكان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها
المسلمين بعد أن غزاها سنة 83هـ وملطية يومئذٍ خراب، وكان يأتيهم جند من الجزيرة
يقيمون عندهم إلى أن ينزل الثلج ويعودون إلى بلادهم، فلم يزالوا كذلك إلى أن وليَ
عمر فأمرهم بالعودة إلى ملطية، وأخلى طرندة خوفاً على المسلمين من العدو، وأخرب
طرندة».
ومهما كان من أمر، فقد ثبت فيما بعد أن نصيحة السمح بإبقاء المسلمين في الأندلس
كانت وجيهة وفي محلها. فقد استمر المسلمون في الأندلس عدة قرون أقوياء متمكنين، وفي
بحبوحة من العيش، وأشادوا فيها أعظم حضارة عرفتها الإنسانية في تاريخها،
«واستقام
للإسلام بها ملك كبير، وسلطان شهير، قد انفرد بعموم خيره عن غيره، وغني بما حواه عن
سواه»،
ومن ثَمَّ
«فليس
من شك في أن تاريخ المسلمين في الأندلس كان يمثل حلقة هامة وخطيرة من حلقات التاريخ
الإسلامي بصفة عامة، وكان نموذجاً لعظمة الإسلام وسمو تاريخه وحضارته في العصور
الوسطى،؛ فقد أثرى المسلمون إسبانيا سياسياً وعسكرياً وحضارياً، ثراءً لا نظير له،
وأحالوا شبه الجزيرة الإيبيرية إلى مركز ثقل سياسي وحضاري وثقافي، عالي القدر، عظيم
المكانة».
مظاهر اهتمام عمر بن عبد العزيز بالأندلس:
ويمكن القول إن موقف الخليفة عمر بن عبد العزيز من المسلمين في الأندلس، كان يشبه
موقفه من المسلمين في بلاد ما وراء النهر. وهذا الموقف قد يكون طبيعياً؛ نظراً
لبُعد هاتين الولايتين عن دمشق دار الخلافة الأموية، ولأن كلّاً منهما يفصلها بحر
عن بقية أراضي دار الإسلام (نهر جيحون وبحر الزقاق). والمهم أنه بعد أن وضحت الصورة
الكاملة للخليفة عمر بن عبد العزيز، واستوثق من أهمية ولاية الأندلس، واقتنع بإبقاء
المسلمين فيها كما أشار عليه السمح بن مالك، وبناءً على المعطيات التي احتواها
تقريره، أولى هذه الولاية الفتية من عنايته ما هي أهلٌ له، واتخذ من الإجراءات ما
يعزز ترسيخ وتوطيد الوجود الإسلامي فيها، ويؤدي إلى عمارتها.
فأفردها عن ولاية إفريقية وجعلها ولاية قائمة بذاتها، وتابعة للخلافة مباشرة؛
وذلك للإسراع في الإنجاز والإشراف عليه. واعتبر عمر بن عبد العزيز الأندلس ثغراً
ودارَ رباط وجهاد، وتعامل في قسمة الأرض المفتوحة على هذا الأساس. وكذلك ضاعف من
دعمه للسمح بن مالك، وأكد على مضامين تعليماته السابقة له؛ وخاصة تلك المتعلقة
باستكمال المهمة التي ابتدأها موسى بن نصير، وهي تقسيم الأرض من أجل أن يحدِّد خمس
الخلافة.
وانتدب عمر مولى من ثقاته يسمى جابراً، وبعثه لمساعدة السمح في تلك المهمة
الشاقة، بما عرف عن الموالي من خبرة في الشؤون المالية والإدارية، ومن بصر في
الجباية، والتيسير في المطالبة.
كما اهتم عمر بن عبد العزيز بأمور القضاء في الأندلس، وقد عيَّن لهذه المهمة
قاضياً اسمه يحيى بن يزيد التجيبي، على ما رُوي عن محمد بن وضاح، محدِّث الأندلس
البارز (287هـ/900م) مع بَقِي بن مخلد (276هـ/ 889م)، عن أصحاب مالك والليث. وكانت
هذه هي المرة الأولى التي تعيِّن الخلافة الأمـوية فيها قاضياً من قِبَلها للأندلس.
وأما قبل ذلك فكان الولاة هم الذين يعيِّنونهم.
ومن ذلك أيضاً أن الخليفة عمر بن عبد العزيز أمر السمح بن مالك بتخصيص جزء من
أراضي الخمس هناك، ويعطيها لمجموعات عربية تسكن فيها بصورة دائمة؛ فقد اعتبر
الخليفة أرض الأندلس ثغراً مثل الثغور الهندية التي أقطع عمر بن الخطاب أرضها
لجندها؛ وبناء على ذلك فقد أعطى العرب الأول سجلات بما وضعوا أيديهم عليه من أرض
على أنها إقطاعات، بل أقطع الجنودَ الذي دخلوا الأندلس مع السمح إقطاعات أخرى من
أراضي الدولة، من الخمس أو الصوافي، ولم يكونوا من الفاتحين. وكان يهدف من خلال ذلك
أن يجعل العرب يشعرون بأن مصالح لهم في الأندلس أصبحت أمراً واقعاً وهاماً في
حياتهم، ومن ثَمَّ يوطنون أنفسهم على نية الاستقرار فيها، بصورة دائمة، الأمر الذي
يساعد على انتشار وتجذير مفاهيم العروبة والإسلام.
نبرة التشاؤم عند راوي هذه الحكاية:
بقيت لنا فقرة واحدة في هذا الموضوع، وهي أن من روى لنا هذه الحكاية تمنى لو أن
الله تعالى قد أطال في عمر الخليفة عمر بن عبد العزيز، لينفذ فكرته في إجلاء
المسلمين من الأندلس؛ فما السر في نبرة التشاؤم هذه يا ترى؟
إن السر في ذلك ليس هو
«صغر
أحلام أهلها، وضعة نفوسهم، ونقص عقولهم، وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية
والبسالة ولقاء الرجال، ومراس الأنجاد والأبطال»،
كما وصفهم ابن حوقل في القرن الرابع. فهذا الكلام إنما يعكس تحامل هذا الرحالة
(الشيعي الباطني) على أهل الأندلس. وليت شعري، كما قال ابن سعيد متهكماً على ابن
حوقل: إذا سُلب أهل هذه الجزيرة العقول والآراء والهمم والشجاعة، فمن الذين دبروها
بآرائهم وعقولهم، مع مراصدة أعدائها المجاورين لها من خمسمئة سنة ونيف؟ ومن الذين
حموها ببسالتهم من الأمم المتصلة بهم في داخلها؟
والمهم أن ابن حوقل قد جاوز الإنصاف في وصفه لأهل الأندلس، لذلك لم يقره عليه أحد
من أهل العلم، الذين أجمعوا - كما قال أرسلان - على وصف أهل الأندلس بخلاف هذه
الأوصاف... وأقروا بسعة عقولهم، وعلو همهم، وشدة بأسهم، وبسائر المناقب، التي بلغوا
بها ذرى أحسن مدنية وجدت في العصور الوسطى، إلا خصلتين كانتا - بدون شك - سبب
بوارهم:
إحداهما:
كثرة الانتفاض على ملوكهم وحب الشقاق فيما بينهم.
والثانية:
شدة الانغماس في الترف، الذي أدى إلى رجحان عدوهم عليهم في الحروب، بما كان عليه من
الخشونة والصبر على الشدائد.
فالسر في ذلك التشاؤم إذن، يدور حول تلكما الخصلتين السلبيتين اللتين ذكرهما
أرسلان، وما ترتب عليهما من نتائج وخيمة أفضت إلى خروج المسلمين من هذا الفردوس في
نهاية المطاف.
«ولكن
هذه الفكرة تدل بوضوح على بُعد نظر عمر بن عبد العزيز، وصدق توقعه للحوادث والأحداث
قبل وقوعهما».
ونحن نعتقد أن من أطلق تلك الأمنية المتشائمة، هو ابن حيان شيخ مؤرخي الأندلس، الذي
عاصر انقسام المسلمين إلى طوائف، وشهد مصيبة الإسلام الفادحة باحتلال الفرنج لثغر
بربشتر عام 456هـ، وهي الحادثة التي زلزلت الأندلس قاطبة، وروى قصة سقوطها بقلب
متألم مفجوع، وبأسلوب يغلب عليه التشاؤم والشعور بسوء العاقبة، وختمها بالقول:
«قد
أشفينا بشرح هذه الحادثة الفادحة مصائب جليلة مؤذنة بوشك القُلْعة [مغادرة الديار]،
طالما حذر أسلافنا لحاقها بما احتملوه عمَّن قبلهم من أثارة، ولا شك عند ذوي
الألباب أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع، وقد أُمرنا بالتواصل والأُلفة، فأصبحنا
من استشعار ذلك والتمادي عليه على شفا جُرُف يؤدي إلى الهلكة لا محالة».
وذكر بعده كلاماً ذمَّ فيه أهلَ الزمان من أهل الأندلس، وأنهم يعللون أنفسهم
بالباطل، وأن مِن أدل الدلائل على جهلهم اغترارهم بزمانهم، وبعدهم عن طاعة خالقهم،
ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغورهم، حتى أطلَّ عدوهم الساعي لإطفاء نورهم،
يجوس خلال ديارهم، ويستقري بسائط بقاعهم، ويقطع كل يوم طرفاً، ويبيد أمة، ومن لدينا
وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكرهم، لهاة عن بثهم... إلخ.