مشاهد الرحمة
أصدقكم القول: إنَّ أقوى شيء علق بذهني في قصة طاعون عمواس، وأكثره حضوراً عند الشدائد والأمراض، وأشده إدهاشاً لي منذ قرأتها أول مرة هو قول أبي عبيدة عامر بن الجراح حين قام خطيباً في الناس، وقد تفشى فيهم الطاعون وملأ البيوت والأزقة بضحاياه الألفية، وقد تجهمت الشام وكانت من قَبْلُ مزهرة: «أيها الناس! إنَّ هذا الوجع رحمةٌ بكم»!
عجبتُ لهذه الكلمة العظيمة وما تستبطنه من دلالات قلبية عميقة المعنى. ثم قال: «وإنَّ أبا عبيدة يسأل الله أنْ يقسم لأبي عبيدة حظه»[1]. وحين رأى الحارث بن عميرة الحارثي أعراض الطاعون في كف أبي عبيدة فَرَقَ منها فأقسم أبو عبيدة له بالله أنه ما يحب أنَّ له مكانها حمر النعم[2]. وبنحوه روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنـه[3].
وهذه الرحمة التي تحدثنا عنها مقتبسة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال عن الطاعون في حديث عائشة رضي الله عنها: «كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين؛ فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له؛ إلا كان له مثل أجر الشهيد»[4]. قال الحافظ ابن حجر: «وهو صريح في أنَّ كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجَّل لهم في الدنيا قبل الآخرة»[5].
وهو رحمة من الله تعالى، حتى ولو كان سببه المعاصي والذنوب؛ كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، في تشخيصٍ للأسباب والمسببات: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعملوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم»[6]. فإنَّ كونه عقـوبة ربانية عاجلـة للكـافرين لا ينافي أنْ يكون تطهيراً وكفارة لعصاة المسلمين، وينالون به أجر الشهادة بشرطه، وأمرُ المؤمن كله خير.
وهذا التفريق في الأذهان بين الوجـهين للشيء الواحد كثير في الموجودات والمقادير، وبه يطمئن المؤمن لأقدار الله ويستلهم حكمته سبحانه فيها؛ فهو تعالى يقدِّر الأمر الكائن فيكون عذاباً لقوم، وشهادة ورفعة لقوم إذا صبروا، وباباً لتـوبة بعض الناس من الذنوب، ورزقاً لبعض آخر يستنفعون من حدوث هذا القدر، ورفعة في الدرجات لأهل العلم الذين يدلون الناس على وجه الحق في هذا القدر، ونحو ذلك من الأوجه التي يريد الله حدوثها في الناس بقـدرته الباهرة وحكمته البالغة في خلق هذا الوباء.
والمؤمن - إذ أنار الوحي بصيرته - يدرك أنَّ للأوبئة والطواعين أسباباً شرعية، وهي التي جاءت النصوص الشرعية بإثبات سببيتها كالمعاصي وعلى رأسها الفاحشة والزنا، وكالقعود عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أنَّ لها أسباباً كونية قَدَرية، وهي التي ثبت بالتجربة والواقع سببيتها وتأثيرها كالعدوى وكسهولة انتقال الفيروسات بين الناس ونحو ذلك، ولا يعقد بينهما ثنائية متناقضة؛ فلا يقول إما هذه وإما هذه فيستبعد الجمع بينهما، وعقله المستنير بالوحي يستوعب أنَّ الأسباب الكونية أمور قدَّر الله تعالى حدوثها لوجود الأسباب الشرعية المقتضية لذلك، فنتج عنهما هذا الوباء كما أراده الله، لحِكَم عظيمة يريدها سبحانه.
وهذا أمر يفهمه من نوَّر الله قلوبهم بالإيمان الصافي والعلم الصحيح، ورضوا عن الله تعالى في أفعاله وأقداره، ونسأل الله تعالى من هذا النور.
لذلك كان فـرح أبي عبيـدة (وهو من العشرة المبشرين بالجنة)، ومعاذ بن جبل (وهو أعلم الأمة) بالطاعون، على أنَّ حديث ابن عمر لم يقتصر على الطاعون؛ وإنما شمل جميع الأوبئة والأمراض العامة التي تهلك الفئام من الناس كفِعل الطاعون فيهم، لذلك ورد الحـديث بلفظ آخر من رواية بريدة بن الحصيب: «... ولا ظهرت الفاحشة في قوم قط، إلا سلط الله عليهم الموت»[7]. فيكون هذا الموت عقوبة معجَّلة للكافرين، وكفارة وتطهيراً للمؤمنين؛ شأن العقـوبات فيهـم، قال الحـافظ بن حجر: «ومن رحمة الله بهذه الأمة المحمدية أنْ يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا ينافي ذلك أنْ يحصل لمن وقع به الطاعون أجرُ الشهادة، ولا سيما وأكثرهم لم يباشر تلك الفاحشة، وإنما عمهم - والله أعلم - لتقاعدهم عن إنكار المنكر»[8].
ومن مظاهر الرحمة الإلهية التي يشاهدها المؤمن في هذا الـوباء: التنفيس الذي ينفِّس الله تعالى به عن المظلومين من أهل الإسلام والمستضعفين منه، فتنكفئ كثير من أمم الكفر على أنفُسها بعد أنْ حاصرها الوباء، وتنشغل بنفسها عن التدبير على المستضعفين، بل تتكبد الخسائرَ تلو الخسائر الناتجة عن توقف الحركة التجارية والإنفاق في مكافحة الوباء حتى تجاوزت هذه الخسائر حافة التريليون دولار إلى أضعاف مضاعفة.
وبدأت الدول تعـزل نفسها عن بعضها، بل تتهارش على حيازة الأدوية والأدوات الصحية اللازمة بطريقة اللصوص والقراصنة، في مشهد يتجلى فيه قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْـحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْـمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: ٢].
فكما أنَّ الوباء رحمة للمؤمنين؛ فهو أيضاً عقوبة للكافرين وانتقام لعباده الموحدين.
أشواقٌ من رحم المعاناة:
هناك أمر آخر في فرح أبي عبيدة ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما بالطاعون، أمر يتوجب على المؤمن استحضاره لأنه - أي المؤمن - يستضيء من مشكاة الوحي، وقد علَّمنا القرآن أنَّ حياة الإنسان على وجه الحقيقة أعظم من قَصْرِها على عمره في الدنيا.
الحياة الحقيقية تشمل إضافة إلى ذلك: حياتَه في البرزخ من بعد وفاته إلى أنْ تقوم الساعة، وهي حياة طويلة حافلة بالأحداث المترتبة على حياته في الدنيا، وتشمل أخيراً حياته الأبدية بعد قيام الساعة بما فيها من أهوال البعث والحساب ثم الاستقرار في إحدى الدارين: إما الجنة وإما النار، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة. فحين يتذكر المؤمن أنه مقدِم على حياة أطول من عمره ثم حياة أبدية فيهما عوض حقيقي له عن معاناة الآلام والأوجاع، وفيهما من السرور الدائم والبهجة والرضا والحبور ما لا يخطر له على بال، وفوق كل وصف وإنما تتشابه الأسماء فقط؛ إذا هو صبر وحمد الله ولم يتضجر ولم يتأفف ولم يتسخط على ربه وخالقه الذي هو أرحم الراحمين، حين يتذكر ذلك فإنَّ أوجاعه وآلامه ومعـاناته تقل قيمتها ويهدر حسابها في قلبه ووجـدانه، لأنه يعلم أنَّ للصابرين مكافأة أخروية لا مثيـل لها {إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وحين يتذكر ذلك فإنَّ صبره وتماسكه ورضاه عن الله تعالى يجعله يتغلب على تلك الأوجاع والمعاناة، فيعود منشرح الصدر مطمئن القلب ساكن النفس لأن نظره إلى الحياة مختلف وإدراكه لها واسع، وهكذا كان نبي الأمة صلى الله عليه وسلم وسلفها الصالح: أشرَحَ الناس صدراً رغم المعاناة.
تلك – أي الدار الآخرة – هي الحياة الحقيقية، قال الله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْـحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. لقد كان أبو عبيدة ومعاذ بن جبل ينظران إلى مضمون هذه الآية التي تقول بأنَّ الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية، وكأنَّ الدنيا بما فيها من أفراح وأتراح ومبهجات وأحزان وقوة ومرض، كأنما هي وَهْم أو طيف عابر، وكم تساوي بضعُ عشرات من السنين هي عمر الإنسان في مئات أو ربما آلاف السنين التي سيقضيها في قبره، وكم تساوي في يوم القيامة البالغ خمسين ألف سنة، وكم تساوي في المُدَد التي لا تنتهي في الجنة أو النار.
لذلك فالمؤمن يستقبل خبر تفشي الوباء وسائر الأحداث بالصبر واليقين بقدرة الله وعلمه وحكمته وثوابه للصابرين، فينشغل عن التوجع بالعمل، وينشغل عن الخوف بمشاهدة لطف الله تعالى وقدرته، وينشغل عن التشكي بذكر الله تعالى ودعائه، ثم هو يُقبل على الله تعالى بكليَّته منيباً إليه، راجياً رحمته والتخفيف عنه، خائفاً من سطوة ذنوبه واستحقاق الخذلان، عندئذٍ سينيله الله تعالى الثواب العظيم، سواء أصيب أم سلم، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها السابق.
كما أنَّ المؤمن يدفعه إيمانه ويقينه إلى تمام التوكل على الله؛ ذلك بأنْ يوقن أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وأنَّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه، سواء كان في أرض الوباء أم كان في خارجها، لأنه من المقرر في اعتقاده أنَّ الله كتب كل شيء في المقادير، حتى يوم موته ومكانه وطريقته، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فلا مناص من ملاقاة الأجل؛ وإنما هو الاستسلام لله وتفويض الأمر إليه، ومحاولة دفع هذا الوباء بقدرٍ آخر: كالانعزال واتقاء المرض والتداوي والدعاء والصدقة وغيرها من الأسباب الشرعية والكونية، وهذه هي حقيقة التوكل على الله: جانب قلبي وجانب عملي، يؤجر عليهما.
وهذا التوازن في التصور والاعتقاد يثمر توازناً في الطاقة النفسية، فلا يبددها في الحزن على فائت قد كتب الله أنْ يعوضه خيراً منه، ولا في الخوف من مستقبل هو بيد أرحم الراحمين.
وهناك معنى آخر في تقدير الله تعالى بتفشي الوباء، وهـو أنه يريد أنْ يرفع ناساً إلى المنـازل العالية من الجنة، ولا يكون لهم كثير أعمال يرتفعون بها إليها، فينظمهم في عداد المبتلين بالوباء فترتفع درجاتهم عند الله، والله كريم وحميد.
مراجعات الأزمة:
ومن مظاهر الرحمة الإلهية في هذا الوباء أنَّ الله تعالى وفَّق فيه المؤمنين إلى أنواع من العبادات والأعمال القلبية والسلوكية، فتكثر حسناتهم وتعظم أجورهم، فلعلَّهم إذا كشف الله الغمة ورفع الوباء يكون قد أثبت أجرهم ورفع درجاتهم، فهم يمتثلون قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42] قال البغوي: «التضرع: السؤال بتذلل»[9].
وهذا التضرع والدعاء مطلوب محبوب عند الله تعالى يعطي عليه الأجر الكثير، ذلك أنَّ الدعاء علامة إيمان القلب وحياته وشهوده لعظمة الله، ولذلك ذم الله تعالى المشركين فقال: {فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 43 فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 43، 44]
وهو دليل التوحيد وإخلاص القلب لله، فإنَّ الذي يدعو الله إنما يقصده سبحانه عالماً بأنه القادر على كل شيء والقاهر فوق كل شيء، ولذلك قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ، وقد فُسِّر الدعاء في هذه الآية بتوحيد العبادة لله وفسر بدعاء المسألة، وكلا المعنيين صحيحان، لكن المدهش أنْ يسمي الله تعالى الدعاء بالعبادة، وذلك لعظيـم دلالة الدعاء على توجه القلب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا: الدعاء بمعنى العبادة أو الدعاء بمعنى المسألة، وإنْ كان كل منهما يستلزم الآخر، لكن العبد قد تنزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجته، وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع؛ وإنْ كان ذلك من العبادة والطاعة، ثم يكون في أول الأمر قصده حصول ذلك المطلوب: من الرزق والنصر والعافية مطلقاً. ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز وجل ومعرفته ومحبته والتنعم بذكره ودعائه ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدراً عنده من تلك الحاجة التي همته. وهذا من رحمة الله بعباده؛ يسوقهم بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية»[10]. وهذه رحمة إلهية عظيمة إذ يجعل من البلايا فرصاً للقـربات والطاعات ورفعة الدرجات.
بل هي التربية الربانية لعباده؛ إذ يتـدرج بهـم إلى أنْ يقفهم على مقامات العبودية العالية لينهلوا من فيوض قربه ورحمته، وهذا أمر يعرفه الملازمون للدعاء والمكثرون من الإلحاح على الله والاطراح بين يديه؛ فيجدون قرباً من ربهم لم يعهدوه من قبل، ويفتح عليهم ربهم من معرفته سبحانه وحبه وتعظيمه ما لم يوفقوا إليه من قبل.
والمؤمنون في هذا الوباء مضطرون للانعزال في بيوتهم والكف عن خلطة الناس، وبهذا الانعزال قد أتيحت لهم أنواع من الأعمال لم يكونوا قادرين عليها لانشغالهم بأعمالهم ومخالطة الناس، كالازدياد من نوافل العبادات وقراءة القرآن وذكر الله تعالى وتجديد التوبة والإقلاع عن المعاصي والخطايا، ومحاسبة النفس، وقد كانت النفس تخشن بالمخالطة والقلب يقسو بكثرة الواردات عليه، أما اليوم فهي في عزلتها الاضطرارية لديها الفرصة للصفاء القلبي الذي طال انتظاره.
والمؤمنون يجدون في هذا الوباء فرصة لتربية القلب على قوة الإرادة، وذلك بالالتــزام بالواجبات التي كانوا يؤدونها مع الناس جماعة قبل الوباء، وإلزام أنفسهم بالأوراد والأذكار والعبادات والأعمال النافعة رغم قلة المعين والمحرض لهم عليها.
وأولئك الدعاة والمربون الكـرام الذين لم يكـونوا يجدون الفراغ الملائم لمراجعة أعمالهم وخططهم ومشروعاتهم؛ ها هم اليوم يجدون الوقت الكافي لينظروا فيها نظرة الناقد والمقوم، لينتج عن ذلك الرؤى والأفكار السديدة لمشروعات المستقبل.
وربما كثير منا لم يكن يجد الفراغ الملائم للتزود الذاتي من العلم الشرعي والمعرفة اللازمة في طريق الدعوة إلى الله، وربما كان لدينا العديد من المشروعات الذاتية المؤجلة، فها هي اليوم قد تتعرض لك في ثنايا يومك وعلى حصيرك: فمن العجز أنْ تقعد عن إنفاذها وأنت الذي عاهـدت على القيام بها حال الفـراغ، والله تعالى يقول: {فَإذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ 7 وَإلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: ٧، ٨].
وإنْ كان بعض الناس ينادي باستغلال الأوقات في هذه الأزمة وما ترتب عليهـا من الانعزال في البيوت والكف عن المخالطة؛ فإني أهيب بالأفاضل من الدعاة والمربين وطلبـة العلم أنْ يرتقـوا درجة أعلى من مجرد استغلال الأوقات؛ أنْ يصنعوا مشروعاتهم العلمية والمعرفية والدعوية، فإذا ما كشف الله الغمة كانوا هم أسعد الناس بها، وكانوا أنفع الناس لأنفسهم ولأمتهم.
ومن الأعمال والعبادات التي يتأكد الاهتمام بها في هذه الأزمة: الإحسان إلى الناس وبذل الصدقات ومد يد العون للملهوفين والمنكوبين؛ إذ تقوم الأزمات - كما جرت العادة - بتفريخ المـزيد من الفقـراء والمحـاويج، لا سيما أن أغلب الأعمال قد توقفت، فأصاب كثيراً من الأُسر العَوَز والحاجة على إثر ذلك. وهذا أوان تفقدهم وكفالتهم؛ فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية؛ فهم مني وأنا منهم»[11]. فتأمل هذا الثناء النبوي على صفة عالية في المروءات، ولذلك فإنَّ البخاري رحمه الله أورد هذا الحديث في أول كتاب الشركة، «باب الشركة في الطعام والنهد والعروض»؛ فمشاركة الفقراء والمحاويج في هذه الأزمات خُلُق نبوي كريم ينبغي للمؤمن أنْ يتصف به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وهذا الإحسان والبذل مظنة رفع الوباء وكشف البلاء عن الفرد والناس، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها لما كسفت الشمس؛ إذ صلى بالناس ثم قال: «إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك، فادعوا الله، وكبروا وصلوا وتصدقوا»[12]. وقال البخاري: «باب الصدقة في الكسوف»، إشارة إلى تأثير الصدقة في انجلاء الكسوف وانتظام الكون، وهكذا تؤثر الصدقات في رفع ما نزل من البلاء.
والمحسن إلى الناس في الأزمات والأوبئة يصنع لهم معروفين، معروفاً يصنعه للمحاويج ببذله وإحسانه، ومعروفاً يصنعه لأمته بقيامه بواجبه في رفع البلاء وكشف الغمة، قال ابن القيم: «فإنَّ للصدقة تأثيراً عجيباً في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر أو ظالم، بل من كافر؛ فإن الله تعالى يدفع بها عنه أنواعاً من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون به لأنهم قد جربوه»[13]. وبذلك تبرز سمة التكافل الاجتماعي والمواساة الإيمانية في المجتمع المسلم؛ إذ يقوم كل قادر على تفقد الآخرين وبذل الإحسان إليهم ومشاركتهم الطعام واللباس والدواء وسائر الاحتياجات.
وبعد: فإنَّ المؤمن إذا سبر أسرار تقدير الله تعالى في هذا الوباء وتأمل في كنهه ومآلاته فسيدرك تماماً قول يوسف عليه السلام، بعد تقلبه في ثنايا الحياة وتجرعه الآلام والأوجاع: {إِنَّ رَبِّي لَطِيف لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} [يوسف: 100].
وما عليك يا عبد الله إلا التشمير والعمل على إصلاح قلبك وعملك قبل أن تخترمك المنية أو تغتالك مشاغل الدنيا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»[14].
[1] البداية والنهاية: 7/188.
[2] مستدرك الحاكم (5147).
[3] انظر: سير أعلام النبلاء: 1/458.
[4] البخاري (5734).
[5] فتح الباري: 10/203.
[6] ابن ماجة (4019)، والحاكم (8623).
[7] المستدرك (2577).
[8] فتح الباري: 10/204.
[9] معالم التنزيل: 3/143.
[10] اقتضاء الصراط المستقيم: 2/312.
[11] البخاري (2483)، ومسلم (2500).
[12] البخاري (1044).
[13] الوابل الصيب، ص69.
[14] البخاري (6412).