وما يُقال عن فنون البلاغة هو ما ينبغي دَرْسه وملاحظته في علم النحو، فكل واحد من هذين الحقلين من المعرفة يُكمِّل الآخر في تكوين طالب الأدب وعلوم الشريعة، وكذا مَن يمارس الكتابة في ميادين أخرى. ولهذا السبب فإن الجامعات القديمة والحديثة تجعل الدرس البلاغي وا
البلاغة العربية في كلّ ما اشتملت عليه من فنون ظهرت في شعر وخطابة الجاهليين، واكتملت ونَمَت في كتاب الله وأحاديث الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وقد بدأ البحث فيها باعتبارها علمًا في القرن الثاني للهجرة حينما بدأ العلماء يجمعون الشعر واللغة وأخبار العرب وأيامها، واستمرت في النمو والتطور بمناهج متعددة إلى المرحلة الراهنة.
وهي تُعدّ علمًا أساسيًّا في تكوين طالب علوم اللغة العربية وآدابها، وكذلك طلاب الدراسات الإسلامية، ولا سيما علم التفسير والإعجاز البياني وعلم الحديث؛ حيث إن الطالب في مرحلة التكوين في هذه الفروع من المعرفة لا يمكنه أن يُلِمّ بأصول الأدب وأجناسه شعرًا ونثرًا، وبمعاني الآيات البيِّنات وأحكامها، والسر في إعجاز القرآن، وتحدي العرب أن يأتوا بمثل تلك الآيات البينات، وكذلك دلالات المعاني في أقوال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، لا يدرك كل ذلك بدون أن تكون فنون البلاغة من أساسيات تكوين الطالب، بجانب علوم أخرى لها صلة بالبيان كالشعر واللغة والنحو، فبهذه العلوم يستطيع طالب المعرفة فَهْم معاني اللغة العربية وشعر العرب وأمثالهم وأقوالهم المأثورة، والتمييز بين ما جاء حقيقةً أو مجازًا، وما ورد بتراكيب متنوعة، وبخاصة في مواضع الذكر والحذف، والتقديم والتأخير، والفصل والوصل، وغيرها من الأساليب التي تفرَّدت بها اللغة العربية في تعابيرها؛ وبعلم البلاغة كذلك يدرك التفاوت بين جمال الصور الفنية التي تأتي عن طريق التشبيهات والاستعارات والكنايات وغيرها من الفنون.
وما يُقال عن فنون البلاغة هو ما ينبغي دَرْسه وملاحظته في علم النحو، فكل واحد من هذين الحقلين من المعرفة يُكمِّل الآخر في تكوين طالب الأدب وعلوم الشريعة، وكذا مَن يمارس الكتابة في ميادين أخرى. ولهذا السبب فإن الجامعات القديمة والحديثة تجعل الدرس البلاغي والنحوي إلزاميًّا في تكوين طالب الأدب وعلوم الشريعة، فتدريس هاتين المادتين -أي: البلاغة والنحو- في الجامعة يُسْهم في الحفاظ على سلامة اللغة العربية وآدابها، وعلى فهم تراث العرب فهمًا سليمًا.
وسنسعى في هذا البحث لتحديد المنهج الذي تتحقق به الغاية والهدف من الدرس البلاغي في الجامعة. ومن باب ذِكْر أفضال الأساتذة الأجلاء الذين سبقونا إلى تحقيق هذا الهدف في منهجهم التدريسي، وعلى يدهم تعلمنا هذا المنهج، وعرفنا مزاياه؛ أذكر عالمين جليلين كان لهما الفضل الكبير على الجامعة المغربية في مراحلها الأولى، وكانا من المنتمين إلى كلية الآداب، قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة محمد الخامس بالرباط المغرب -شملهما الله برحمته الواسعة؛ نظير ما قدَّماه من أفضال لهذا البلد وأبنائه-:
الأول هو الدكتور أمجد الطرابلسي، وكان تخصُّصه النقد القديم، والثاني الدكتور عزت حسن، وكان تخصُّصه الأدب القديم؛ فعلى يد هذين العالمين الجليلين عرفنا ما في الأدب العربي القديم من روعة في بيانه، وجمال في أسلوبه، وسِحْر في بلاغته، وما احتوى من قِيَم رفيعة وأخلاق عالية ومكارم إنسانية قلَّ ما وجدت في مجتمعات أخرى.
والأول منهما -وهو الدكتور أمجد الطرابلسي- كان له أثر كبير في تكويني المعرفي والمنهجي في مرحلة الدراسات العليا خاصة، فله كل الفضل -بعد الله- فيما يسر الله لي من معرفة وسلامة المنهج، وبهذه المناسبة أهدي لروحه الطاهرة هذه الأبيات:
سعى للعلا بهمةٍ، وهو واثق
لكسب الرهان بالفضائل والجد
فما أخطأت ظنونه يوم إشراق
كأنه في ميعاد إطلالة المجد
فطوبى لمن سعى لمجد هو الخلود
بالحب والإخلاص والصدق والود
دور الجامعة في نشر المعرفة
إن الجامعة، وما يتفرع عنها من مؤسسات ومعاهد عليا، هي رحاب التكوين الشامل، وتعميق التخصص في كل العلوم والمعارف النظرية والتطبيقية، ولذا تجد في كل كلية فروعًا من المعارف التي تحتاج للتكوين العميق في تلك العلوم على يد علماء وأساتذة مختصين في كل فرع من المعرفة، يتكون فيها الطالب بحسب الميول والتخصص الذي يختاره، والمجال الذي سيعمل فيه.
مكانة علوم البلاغة في الجامعة
إن علم البلاغة من فروع علوم اللغة العربية وآدابها، يحتاج إليها مدرسو اللغة العربية والكُتّاب والأدباء والشعراء، وكل مَن يمارس مهنة الكتابة والصحافة، فهؤلاء أقرب الناس للبيان والترسل والإبداع الفكري والأدبي. ودور البلاغة ينحصر في تقويم المعاني والأغراض من الجانب الفني والجمالي، فهي تتكامل مع العلوم الأخرى، ولا سيما النحو والشعر والعروض والقافية، وهو تكامل توحُّد وترابط في التكوين الشامل في اللغة العربية.
والباحث الذي يدرس ويحلّل النصوص الشعرية والنثرية لا تستقيم دراسته لتلك النصوص بدون الوقوف على ما احتوت من فنون بلاغية تجعل النص في رتبة جيدة تركيبًا وصياغةً وأسلوبًا، فلا يمكنه أن يهمل الإشارة إلى تشبيه بديع وارد فيه أو استعارة نادرة أو كناية محكمة أو تجنيس مطرب أو سجع متوازن، وغيرها من الفنون التي بلغت مبلغًا كبيرًا في جودة المعاني وجزالة الألفاظ وسلامة التراكيب، وتحسين التصوير الفني، أو الإغراب في المعاني الطريفة التي تكون عَصِيَّة على مَن لم يتمرَّس بالأساليب ويُديم النظر فيها.
ولذلك فإن مهارة المبدع شاعرًا ومترسلاً وكاتبًا، وكل مَن يدرس حقول الأدب لا تظهر إلا بالقدرة على وضع فنون البلاغة في موضعها الصحيح، وفهم المقاصد من الأغراض التي جعلت الشاعر أو الكاتب يصوغ المعنى بالاستعارة دون التشبيه، أو بالتجنيس دون السجع، أو بالتقديم والتأخير أو بالحذف والذكر أو الفصل والوصل، وغيرها من الفنون التي أبدع فيها الشعراء والخطباء والكُتّاب.
ونُقّادنا القدامى كانوا أكثر دقةً وإصابةً في تقويم الأدب من هذه الجوانب، وبيان قدرات المبدع فيها، فهذا محمد بن سلام الجمحي، وهو من أقدم النُّقاد يضع الشعراء في طبقات متفاوتة، ويُقدّم بعضهم على بعض بمقياس الكثرة في الأغراض، وبالإحسان في فنون البلاغة، ومنها التشبيه الذي أكثر منه الجاهليون، وغيرهم، قال يشير للسبب في تقديم النقاد للشاعر امرئ القيس على سائر شعراء الجاهلية: «فاحتَجَّ لامرئ القيس مَن يُقدّمه، فقال: ما قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنتها العرب، واتبعته فيها الشعراء؛ منها: استيقاف صَحْبه، والتباكي في الديار، ورقّة النَّسيب، وقُرْب المأخذ، وشبَّه النساء بالظباء والبيض، وشبَّه الخيل بالعقبان والعصي، وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى»[1].
وأضاف قائلاً: «كان أحسن طبقته تشبيهًا. وأحسن الإسلاميين تشبيهًا ذو الرمة»[2]؛ فالتشبيه -وهو أحد فنون البلاغة- حاضر في النقد والتقويم والمفاضَلة بين الشعراء، وكذلك تجد الإشارة إلى فنون أخرى عند كثير من النقاد للمفاضلة بين الشعراء بقدر إحسانهم فيها.
أهمية شواهد فنون البلاغة في درس الأدب
وإذا أردنا أن نُعطي أمثلةً مِن بعض الفنون البلاغية التي تحقق ما يصبو إليه المبدع من بلوغ الكمال والجودة في الإبداع شعرًا ونثرًا بواسطة فنون البلاغة؛ فإننا نختار فنين كان لهما -وما يزال- نصيب كبير في تحقيق الجودة في الأدب الرصين والتعبير الجميل والخيال الممتع، وقد ورَدَا في كتاب الله وأحاديث الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وفي الشعر البليغ الفصيح، وهما «التشبيه» و«الاستعارة»، فهذان الفنّان تجدهما في كل النصوص الشعرية والنثرية ذات الطابع الأدبي الجميل لما يُحقّقان من مزايا عميقة الدلالة في المعاني والصور الفنية والخيال الرحب، وكل ذلك يُضْفِي على الأدب سمة الجمال والحسن والتألق، ويجعله محببًا لدى القارئ والسامع.
وهذا الشاعر امرؤ القيس الذي أشاد الناقد القديم ابن سلام بأغراض شعره ومحاسن فنونه البيانية ومعانيه البديعة الطريفة قد بلغت بعض أشعاره أسمى المراتب في الجودة والإحسان بفنون البلاغة، ولا سيما الاستعارة والتشبيه، كقوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطَّى بصُلبه
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
إنها صور فنية متلاحقة في غاية الروعة والبراعة والإحسان، أبدَع فيها هذا الشاعر لبيان حالته النفسية المضطربة حينما تراكمت عليه الهموم من كل جانب، فلم يستطع التخلُّص منها أو التخفيف من ثِقَلها، فلجأ إلى الإبداع الشعري بالصور الفنية البلاغية؛ لعله يجد فيها ما يُخفِّف عنه من أثقال تلك الهموم، والمتلقّي يجد متعةً كبيرةً في هذه الصور، كما يشعر المبدع أنه يجد مَن يتعاطف معه إذا أحسن وأجاد في إبداعه بالصور الفنية الطريفة الجميلة.
ولا نبالغ إذا قلنا: إن هذه الصورة الفنية ما زالت تحتفظ بجمالها وتأثيرها القوي عند كل مَن يقرأ هذه الأبيات في عصرنا الحديث الذي لا صلة له بزمن البداوة في الجاهلية، لكنَّ الذي جمع بين العصرين هو جمال التصوير والصدق في التعبير؛ هكذا يصبح التعبير الأدبي بواسطة فنون البلاغة ممتعًا، ليس له حدود وفواصل وأزمنة وأمكنة، يأخذ بلُبّ السامع في كل زمان ليسبح به في عوالم من الخيال الرحب والصور الجميلة والمعاني الصادقة التي تُحرِّك المشاعر النبيلة في الإنسان، والفنون البلاغية التي استعان بها الشاعر هنا لتحقيق هذه الجودة هي الاستعارة والتشبيه، وكان لهذين الفنين الدور الأكبر في بيان الحالة النفسية المضطربة للشاعر. وانظر ما قال أحد البلغاء عن دور التشبيه في إيضاح المعاني: «التشبيه أحد أنواع البلاغة وأبدع أفانينها، وهو موضوع للجلاء والكشف، والمبالغة والبيان والوصف، والعبارة عن الخفي بالجلي، والمُتوهَّم بالمحسوس، والحقير بالخطير، والشيء بما هو أعظم منه أو أحسن، وكلّه لتأكيد البيان والمبالغة والإيضاح»[3].
وهذا شاعر آخر وهو عنترة العبسي من شعراء الجاهلية أيضًا قد جادت قريحته ببيتين في وصف حركة الذباب المرح في يوم ربيعي معتدل، في حديقة مُلئت بالورود والزهور وغناء الطيور، فقال:
وَخَلا الذُّبَابُ بِهَا فَلَيسَ بِبَـارِحٍ
غَرِدًا كَفِعْل الشَّاربِ المُتَرَنّـمِ
هَزِجـًا يَحُـكُّ ذِراعَهُ بذِراعِـهِ
قَدْحَ المُكَبِّ على الزِّنَادِ الأَجْـذَمِ
علَّق الجاحظ الأديب والناقد والبلاغي على هذه الصورة البديعة التي جاءت عن طريق التشبيه، فقال: «نظرنا في الشعر القديم والمحدث فوجدنا المعاني تُقلب ويُؤخَذ بعضها من بعض غير قول عنترة في الأوائل»[4].
إن هذه الملحوظة لها دلالة كبيرة في المعاني والنقد وفنون البلاغة، لا سيما أنها صادرة من أديب وعالم بآداب العرب، وكان من المؤسِّسين لعلمي البلاغة والنقد العربيين، لقد عرف هذا العالم أسرار المعاني وطرق الإجادة فيها من كثرة مدارسته للشعر والنظر فيه. ولذلك ينبغي أن تكون هذه الملحوظة وأمثالها موجَّهة للأدباء والشعراء وطلاب الأدب، ولكل الذين يريدون أن يسلكوا مسلك الجودة والإبداع في أيّ صنف من الكتابة والترسل والنظم والنقد.
والشعراء الكبار في تاريخ أدبنا العربي الذين كانوا يتسابقون لإبداع كل جيد في المعاني والأغراض والصور الفنية البديعة، كانوا يُديمون النظر في مثل هذه المعاني التي جادت بها قرائح المتقدمين. وهذا شاعر كبير في تاريخ أدبنا العربي، وهو ابن الرومي، حاول تقليد عنترة في هذا الوصف الذي أُعجب به النقاد، فقال:
وَغَرَّدَ رِبْعِيُّ الذُّبابِ خِلاَلهَا
كَمَا حَثْحَثَ الـنَّشْوَانُ صَنْجًا مُـشَرَّعا
فكانت أهازيج الذباب هناكم
على شدوات الطير ضربًا مُوقَّعَـا
وإذا كان ابن الرومي قد أحسن في هذا الوصف؛ فإنه لم يستطع خلق مثل الصورة التي أبدع فيها عنترة بجزئياتها الدقيقة، لكنَّه قام بمحاولة للاقتراب منها تُعبِّر عن إعجابه بتلك الصورة، وهذا دليل قويّ على أن الشعراء المطبوعين وأصحاب الموهبة والثقافة الواسعة في شعر العرب وآدابهم لم يكونوا يتوقفون عن القراءة والتمعُّن والنظر في كل ما هو جيد قد سبقوا به أو صدر من شاعر معاصر لهم للنسج على منواله أو لنظم ما هو أجود منه وأحسن معنًى وصورة وشكلاً، وبذلك تزداد موهبتهم صقلاً، وثقافتهم اتساعًا، وحضورهم قويًّا في الشعر والأدب والثقافة العامة.
ودليل آخر على أن فنون البلاغة والأدب الجيد كانا هما المجال الذي يفرغ فيه كل شاعر وأديب جهده ووقته وتفكيره، ويتبين ذلك في المحاولة التي قام بها شاعر آخر متأخِّر عن ابن الرومي، وهو الشاعر والناقد والبلاغي حازم القرطاجني، وما أدراك من هو هذا العالم المتميز في تاريخ الأدب والشعر والنقد العربي في عصره وبعد عصره! لقد حاول هذا الشاعر الألمعي أن يكون له حضور بارز في هذه الصورة الفنية البديعة بالزيادة في المعنى أو بالتفرُّد في بعض جزئياتها، فقال واصفًا روضة مزهرة وصداحة بالأنغام:
تباغمت فيه الظباء وانتجى
ذبابه الحولي أخفى منتجى
ألقى ذراعًا فوق أخرى وحكى
تكلف الأجذم في قدح السنا
بمثل هذا المعنى بفن التشبيه كان إبداع وإجادة عنترة في بيتيه السابقين، لكنَّ «حازمًا» لم يُحْكِم الصورة مثل عنترة من جميع جوانبها، برغم أنه من الشعراء الفحول المشهود لهم بالطبع وسعة الثقافة الشعرية، ولذلك وجدنا من أوضح تقصيره فيها، وبين الجوانب التي أخلَّ بها في الصورة كما وردت عند عنترة، وهذا الناقد هو الشريف السبتي شارح مقصورته الذي أشاد بمعانٍ بديعة في هذه المقصورة، لكنه في هذين البيتين لم يُوفَّق، فقال: «وقد تعرَّض الناظم هنا لتشبيه عنترة -وإن قاربه- فقصر عنه التقصير البَيِّن، وأخلَّ بذِكْر الإكباب والحك، ولهما في هذا التشبيه موقع بديع مع التكلف البادي على قوله: تكلف الأجذم في قدح السنا»[5].
انظر كيف كان لدور التشبيه الأثر الكبير في المعاني التي يتنافس فيها الشعراء للسبق في الإحسان، وهؤلاء الشعراء ليسوا من الدرجة الثانية أو الثالثة، بل هم من الفحول ومن المتقدمين على شعراء عصرهم.
إن الفنون البلاغية تُعدّ طريقًا للإجادة والبراعة في المعاني والصور الفنية، وتبرز المَلَكات وتصقل المواهب وتُفجّر الطاقات الإبداعية عند المطبوعين وأصحاب المواهب، فبهذه الفنون سما البيان العربي، وعُرفت صوره الفنية الجميلة التي ما زلنا نُردِّد شواهدها في عصرنا الحديث، برغم ما يَفصلنا عن أصحابها من قرون عديدة تغيَّرت فيها الأفكار والمفاهيم والرؤى، لكنَّ الرؤية الجمالية في الفن ظلت متوهجة، وكأنها وُلِدَتْ بالأمس القريب.
وهذا الشاعر عمر بن أبي ربيعة يبرز صورة فنية بديعة بالتشبيه تجعل المحسوسات والمعنويات تنصهر فيما بينها وتكون وحدة متكاملة، تزيل الحواجز والفوارق من أجل تشكيل صورة تتوحَّد فيها الأصوات والحركات والألوان لتعطي هذه الصورة البديعة:
وإنَّا ليجري بيننا، حين نلتقي
حديث له وشي كوشي المطارف
حديث كوقع القطر بالمحل، يشتفى
به من جوى في داخل القلب لاطف
هكذا تجلو فنون البلاغة عند المتمرسين بالبيان العربي معاني بديعة وغريبة، وصورًا طريفة وجميلة، وأنغامًا منتظمة وهادئة، تنقل المتلقّي إلى عوالم تتسع فيها الرؤى العميقة والخيالات الرحبة، وتقود الناشئة لطريق الإبداع الجيد في كل جنس من أجناس الأدب.
وإذا ما نظرنا في فن «الاستعارة»، وهي من الفنون التي حقَّقت مزايا كثيرة في البيان العربي في مختلف العصور الأدبية؛ فإننا نجد مثل تلك الخصائص الفنية الجميلة التي صاغها الشعراء بالتشبيه لبيان المعاني الطريفة التي يتسابق إليها الشعراء المبرزون والخطباء المفوّهون والكُتّاب أصحاب الطبع، فهذا الشاعر أبو نصر بن نباتة يُبْرِز معنًى طريفًا بديعًا، تجد فيه الجماد يتحرَّك وينشط وينظر إليك مثل الكائن الحي، إنها صورة حيَّة مُتوهِّجة جاءت بهذه الاستعارة البديعة:
حتى إذا ظهر الأباطح والربا
نظرت إليك بأعين النوار
لقد جعل الشاعر للنوار أعينًا ترى ما حولها لتكتشف جمال الطبيعة، والذي جعل هذه الاستعارة بتلك الصورة الجميلة هو قرب الشَّبه بين الأعين والنوار، فلم يخرج عن المألوف، وبذلك اكتسبت هذا الإحسان الذي جمع بين ما هو مُتحرّك وما هو جماد الذي أضفى عليه سمة إنسانية فيها نظرة وتعاطف وإحساس ومشاعر، ودعوة للتأمل والانشراح الذي يصدر من الإنسان، وهو أمام بهجة النوار في يوم ربيعي. هكذا تخلق الاستعارة التجانس والتقارب والتلاؤم بين الكائنات وإن وُجِدَ بُعْد شاسع بين جنسيهما.
والشعراء الجاهليون أدركوا مثل هذه الصلة بين الأشياء، ولو بدت للبعض بعيدة التقارب فيما بينها، فقرَّبوا بين المختلفين والمتباعدين إذا كان هناك شيء يجمع بينهما لأداء دور مادي أو معنوي مثل استعارة الشاعر لبيد يدًا وزمامًا للشمال في قوله:
وغداة ريح قد وزعت وقرة
إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
إن خصائص البيان العربي تكمن في سرّ لغته التي تجمع في تآلف وانسجام ووحدة بين الحقيقة والمجاز، فلا يجد المبدع صعوبة في التعبير عن مشاعره وخواطره بألوان متعددة من الصياغات التي تبدو لغير المتمرسين بهذه اللغة أنها غريبة أو غير ممكنة. وهذه الاستعارة جعلت لريح الشمال يدًا تُصرّف بها الأمور، وتُدبّر الأشياء وفق قانون منتظم مثل أعضاء الكائنات الحية التي وجدت لذلك.
كما نجد أن الشعراء جعلوا للمَنِيَّة يدًا تبطش بها، وأظافر تُمزّق مثل الحيوانات المفترسة، قال الشاعر:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيتَ كل تميمة لا تنفع
إن كل مَن يتمرس بأساليب اللغة العربية وبيانها يدرك أن الاستعارة التي تتوفر فيها الشروط الكاملة من حيث سلامة اللغة في تراكيبها، ووضوح المعاني، وطرافة الصورة، يكون لها وقع كبير عند المتلقي؛ لأنه يجد فيها المحاسن المطلوبة في الأدب الرفيع الذي يسمو بالنفس إلى اكتشاف الجمال والخير والفضيلة، وهذه هي وظيفة كل الفنون.
المنهج الذي يُيَسِّر على طالب المعرفة بلوغ الأهداف من فنون البلاغة العربية
من خلال ما رأينا من شواهد بلاغية، وما تضمَّنت من معانٍ طريفة وصور بديعة، يمكننا الجزم قطعًا بأن درس البلاغة العربية يكون ضروريًّا لطالب اللغة العربية وآدابها. وما ينبغي التنصيص عليه في مرحلة التعلم هو اتباع المنهج الذي يبلغ للأهداف، ولعل أول ما يُطلَب هو:
أولاً: جعل الشواهد من الشعر والنثر البليغين الفصيحين حاضرين مع تحليلهما وبيان وجوه المحاسن، وكيف توصَّل المبدع لذلك، لكون هذا الدرس يحتاج إلى التطبيق أكثر من النظري. والشواهد البليغة الفصيحة كثيرة في القرآن الكريم والحديث الشريف والتراث العربي الشعري والنثري من العصر الجاهلي حتى عصرنا الحاضر.
ثانيًا: إرشاد الطالب والباحث إلى المصادر التي يجد فيها ضالته؛ لأن هناك مصادر عديدة وبخاصة القديمة منها ما ألَّفه علماء لهم دراية واسعة باللغة والمعاني، ومنها ما هو دون ذلك، وكذلك من هذه المصادر ما حققه علماء متمكنون من فهم التراث، ومنها ما هو غير محقَّق تحقيقًا علميًّا، فلذلك يكون إرشاد الطالب للمصادر التي يستفيد منها من ضروريات المنهج.
ثالثًا: إن وقوف الطالب على اختلافات البلاغيين والنقاد في تقويم الشواهد يُعدّ جزءًا من منهج معرفة أصول البلاغة العربية وأهدافها، فكم من الشواهد اختلف فيها علماء كبار، فكان الصواب مع أحدهم دون الآخر، ونذكر على ذلك مثالاً من الذكر الحكيم، وهو أسمى كلام عرفته البشرية من جانب التراكيب والمعاني والصدق، فقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﯶ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 23 - 24].
نجد عبارة {وَلَنْ تَفْعَلُوا} حشوًا، والحشو كما أشار جُلّ البلاغيين أنه زيادة لا فائدة منه، وقد ذكر هذا السكاكي، وهو من البلاغيين الذين لهم مكانة في الدرس البلاغي، ولم يُشِر إلى أن هذا الحشو هو السموّ في هذا الكلام المُعْجِز؛ لكونه زاد تأكيدًا في الكلام، وقوة في الحكم، وهو أن هؤلاء القوم لن يستطيعوا مهما أوتوا من قدرات ومَلَكات لغوية أو بيانية أن يأتوا بمثل كلام الله؛ فالحشو هنا هو الذي أعطى للتعبير قوة.
ومثل ذلك في الشعر قول طرفة:
فسقى ديارك -غير مفسدها-
صوب الربيع وديمة تهمي
فقوله: «غير مفسدها» حشو، لكنه احتراس شديد وفطنة من الشاعر في أن يكون المطر على قدر الحاجة، ولولا تلك العبارة لكان كلامه يحتاج إلى تعديل.
هكذا يَنظر الباحث والدارس في التراكيب والصياغة والمعاني، ويستقرئ صحة المعاني، وتلك من مراتب الجودة والإحسان التي لا يصل إليها المبدع والناقد بسهولة ويسر، وإنما طريقها طويل وشاقّ.
ولهذا فإن المنهج السليم الذي ينبغي اتباعه في الدرس البلاغي في كل مرحلة من مراحل التعلم هو تحليل ودراسة النماذج الجيدة في الشعر والنثر؛ لمعرفة الطرق المثلى في الإبداع، فهذه صنعة مثل سائر الصناعات، تُتَعَلَّم بالدُّرْبَة والممارسة وطول النظر.
[1] طبقات فحول الشعراء، تأليف محمد بن سلام الجمحي، شرح: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني- القاهرة، (1/55).
[2] المصدر السابق.
[3] رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة، لأبي القاسم الشريف السبتي. تحقيق وشرح صاحب المقال. مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، ط أولى، 1997م، (3/1040).
[4] المصدر السابق (3/ 1044).
[5] المصدر السابق (3/ 1044).