• - الموافق2025/03/03م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أحوال النفس البشرية

وإذا نظرنا إلى النفس نجد أنها في تقلُّباتها تمرّ عبر نزعات وغرائز وميول تتمثل في: قوة الشهوة، وقوة الغضب، وقوة العقل


إنّ النفس البشرية لها أحوال وتقلُّبات، وتخضع للتغيير من حالة إلى أخرى؛ من السيئ إلى الحسن، أو من الحسن إلى السيئ، كما في قول الله -تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، وقوله -عز من قائل-: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الأنفال: 53].

فعن طريق النفس ينصرف الإنسان إلى أمانيه المادية وشهواته الدنيوية، فيتعدَّى المباح إلى المُحرَّم، فينحطّ بقدر اشتغاله في تلبية تلك المطالب الدنيئة. وإما أن يقوم بما يُزكّي نفسه، ويسمو به من فضائل وطاعات، فيرتقي إلى العُلا بقَدْر مجاهدته لنفسه، وحَمْلها على الهدى والرشد؛ ليعيش حياة طيبة في الدنيا، ويتبوأ أعلى الدرجات في الجنة.

وإذا نظرنا إلى النفس نجد أنها في تقلُّباتها تمرّ عبر نزعات وغرائز وميول تتمثل في: قوة الشهوة، وقوة الغضب، وقوة العقل. وهذه القوى تحتاج إلى ما يُوجِّهها ويُهذِّبها؛ فبالعفة والصبر تُهزَم الشهوة، وبالحلم والأناة ينهزم الغضب، وبالعلم والحكمة يسمو العقل.

وبحسب استخدام هذه القوى المذكورة أعلاه؛ تمرّ النفس الإنسانية بمراحل تتَّصف فيها بثلاث صفات؛ هي:

الأولى: النفس اللوامة

قال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة: 1-2]؛ حيث أقسم -سبحانه- بيوم مشهود عظيم؛ لحقيقة وقوعه، وبيان هَوْله وفزعه، وإيقاظ النفوس الغافلة عنه؛ لتصحو وتنتبه من غفلتها.

على أن العلاقة وثيقة بين مصير النفس وقيام ذلك اليوم العظيم؛ حيث تقف فيه وحيدةً دون وَلِيٍّ ولا نصير. فهي نفس كانت في الدنيا تفعل الخير وتحبّه، وتفعل المعصية وتكرهها، نفس يعيش في داخلها صراع بين الخير والشر.

لكنّ الإنسان في حالة اللوم التي يلوم فيها نفسه، إذا ارتكب ذنبًا أو إثمًا ابتداءً؛ يشعر في داخله بتأنيب الضمير، ويتمنَّى لو لم يفعله، وإذا عاد إليه ثانية وثالثة ورابعة، ضعفت خاصية الشعور بالذنب والخطيئة في نفسه، وانتقل صاحب هذه الحالة إلى حالة الميل إلى المعصية واستحسانها، لتنتقل نفسه من لوَّامة إلى أمَّارة بالسوء.

الثانية: النفس الأمَّارة بالسوء

حيث تميل النفس إلى السوء وحُبّ العصيان، والغفلة عن الطاعة والعبادة؛ فهي نفس استحوذ عليها الشيطان، وسيطر على ذوقها وسلوكها، وقتل فيها الحياء والعفة. وهذه النفس تُعلِّل فجورها واستمرارها في المعصية بضغط البيئة الاجتماعية عليها، وتأثير العادات والتقاليد عليها؛ فيصبح المُنكَر في عينها شيئًا عاديًّا، فتستكبر وتستعلي، وتقع في الظلم والخطيئة، ليكون مصيرها في النهاية هو الخسران الأبدي؛ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر: 15].

 

الثالثة: النفس المطمئنة

وهي نفس راضية استسلمت لأحكام الله القَدرية والشرعية والجزائية، لا تفعل إلا ما يتيقَّن لها صلاحه. وهي نفس تحقّق فيها الورع والإخلاص والصدق، فسَمَت عن الدنيا وشهواتها الفانية، واشتغلت عنها بعمارة الآخرة الباقية الدائمة؛ قال تعالى: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى﴾ [الضحى: 4]؛ نفس استحقت الذكر والتمجيد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ [الفجر: ٢٧ - ٣٠].

وقد قرَّر القرآن المجيد مصير النفس بأنها تنتقل من الدنيا إلى الآخرة حين يأتي أجلها؛ قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: 185]، وقال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

فالإنسان العاقل هو الذي يحسب حساب ذلك اليوم الذي ترجع نفسه فيه إلى الله -جلَّت عظمته-، فيحاسبه بما عمل في الدنيا من خير وشر، فيُلزمها بطاعة الله -تعالى-، ويمنعها من معصيته، ويفطمها عن الشهوات المحرَّمة.

ولمعرفة مصير النفس أين ستذهب بعد الموت، جاء ذِكْر هذا المصير كثيرًا في القرآن العظيم، وذلك حتى يعرف الإنسان أين مصيره؛ إن هو آمَن بالله -تعالى- واليوم الآخر، والتزم بشرع الله -سبحانه- في كل شؤون حياته. ويعرف أين مصيره إن هو كفَر بالله -تعالى- أو أشرك به وعصاه واتَّبع هوى النفس؛ فالمصير إما إلى الجنة، وإما إلى النار، في حياة سرمدية أبدية لا نهاية لها.

ولأجل ذلك، جاءت الآيات القرآنية تُذكِّر الإنسان بهذا المصير الخطير؛ الذي مآله الفوز الكبير في جنات عدن، أو الخسارة الهائلة التي لا تُعوَّض في نارٍ كبرى لا يخبو سعيرها؛ قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]، وقال -عز من قائل-: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التغابن: 9-10].

فكل نفس لا بد أن تذوق غُصَص الموت وسكراته، وبهذا يرجع جميع الخلق إلى ربهم -سبحانه-؛ ليحاسبهم ويُوفّيهم أجورهم وافيةً يوم القيامة؛ فمن وُقِيَ شرّ نفسه وحمَلها على الحق والهدى في الدنيا، فإن الله -عز وجل- سيُكرمه ويُنجّيه من النار ويُدخله الجنة، فينال غاية ما يَطلب. ومن اتَّبع هوى نفسه وطغى في الدنيا وغرَّه متاعها الفاني، فإن مصيره إلى النار وبئس القرار.

وفي الآخرة يشهد الكافرون والمشركون والمنافقون على أنفسهم بأنّ الرسل -عليهم السلام- جاؤوهم بآيات الله -تعالى-، وأنذروهم لقاء يومهم هذا، فكذَّبوهم وجحدوا بوحدانية الله -تعالى-، وأبوا الانقياد والخضوع له، مغترين بزينة الحياة الدنيا، حتى وافَهم الأجل وهم على تلك الحال، فخسروا أنفسهم وأهليهم؛ قال تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ * ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ [الأنعام: 130- 131].

ولتلافي هذا المصير المخزي في الآخرة، والدمار الهائل الذي ينتظر الإنسان الكافر فيها؛ لا بد لمن يريد النجاة والفلاح من محاسبة نفسه وتعهُّدها وتزكيتها لتستقيم على أمر الله -تعالى-، وتعمل وفق مقاييس وموازين الشرع الحنيف. ومن هذه الضوابط والموازين:

* التعرُّف على عيوب النفس وأمراضها، والسعي الدؤوب لإصلاحها؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[العنكبوت: 69].

* مجاهدة أمراض النفس وصفاتها الذميمة، وعلاجها بالتزكية والمجاهدة.

* ضبط أصول الشهوات (النساء والبنين والأموال)؛ بالاقتصار على المباح، وهو الحلال الطيب الذي أباحه الشرع؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص: 77]؛ أي: طلب الحلال[1].

* اليقظة والتذكر الدائم، ويعني ذلك طَرْد الغفلة والتفريط الذي يحصل للنفس البشرية؛ ﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ  أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: 56-58].

* وَضْع برنامج يومي للعبادة، وهي: الصلاة، والذِّكر وقراءة القرآن، والصيام والصدقة، وقيام الليل، وغيرها من أعمال البِرّ.

إن الإنسان العاقل يضع السعادة الأبدية نُصْب عينيه دائمًا؛ فيكون قصده وغايته رضا الله -عز وجل-، والنجاة في الدار الآخرة. وهو في هذه الرحلة إلى الآخرة يستعذب كلّ صَعْب، ويُضحّي بالغالي والنفيس في سبيل رضا الله، للفوز بتلك السعادة الدائمة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 54- 55].

 


 


[1] الطبري: جامع البيان، 8/6432.

 

 


أعلى