أجيال سوريا الضائعة.. كارثة الحرب الكبرى!
"جيلٌ كامل من الأطفال السوريين في خطر، حيث يشهد ملايين الأطفال داخل سوريا والمنطقة ضياع ماضيهم ومستقبلهم وسط الركام والدمار في هذا النزاع الذي طال أمده، ومع كل يوم يمرّ تتزايد مخاطر ضياع أجيال بأكملها"، هذه هى الكلمات التي وصفت ذات يوم حال الأطفال السوريين في التقرير الأممي الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" لعام 2013، والأجيال الضائعة المقصودة هنا في هذا التقرير هم الأطفال المحرومة من فرص الالتحاق بالتعليم والحصول على الرعاية الصحية أو امتلاك المهارات اللازمة ليصبحوا أعضاء منتجين في المجتمع، وإذا كان ذاك التقرير قد أطلق هذه التحذيرات في عام 2013، أي قبل 7 سنوات من الآن، فما بالنا بما وصلت إليه الاوضاع بعد مرور كل هذه الأعوام من النزاع المستمر الذي لا يرحم؟!
النزاع الطاحن على الأراضي السورية لم يرحم الأطفال (الذين تتراوح أعمارهم ما بين يوم و15 عامًا) من فقدان عائلاتهم، سواء توفوا أو اختطفوا أو فروا لوجهات أخرى دون تحديد مكان إقامتهم، وفي ظل ضعف احتمالات لمّ شمل الأسرة مرة أخرى، فإن فرص تحسين أوضاع هذه الأجيال الضائعة يتضاءل أكثر فأكثر، ولا يشكّل الأطفال غير المتعلمين تحديًا على المدى القصير فحسب، ولكن أيضًا تحديًا له عواقب سلبية وخيمة على المدى الطويل، سواء ظلوا في وضعهم كلاجئين في بلدان اللجوء، أو في مجتمعهم السوري متى حانت العودة واستقرت الأمور، وبحسب الأرقام المفزعة التي أعلنتها الأمم المتحدة في إحصائياتها لعام 2019 فقد وصل عدد المهاجرين الدوليين إلى ما يزيد على 272 مليونًا، وهو معدل يفوق سرعة نمو تعداد سكان العالم، وبحسب البيانات التي أصدرتها إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالمنظمة، فإن سوريا تعد أكبر بلد مصدر للاجئين حول العالم، إذ يتجاوز عدد اللاجئين السوريين الـ 6 ملايين لاجئ، وللأسف هناك قطاع لا يُستهان به من هؤلاء اللاجئين هم من الأطفال، معظمهم قد وُلِدُوا خلال فترة الحرب السورية، ولم يتم تسجيلهم في السجلات الرسمية، وبعضهم تم تسجيله في مناطق سيطرة النظام باعتباره "مجهول الأب"، لأن والده محسوب على قوى المعارضة، حيث لا تجرؤ أم المولود، وفقًا لتقارير عديدة، على التصريح بذلك خشية الاعتقال أو التعرض لمضايقات أمنية.
أكثر ما هو مؤسف في زمن الحرب السورية، هو الاتجاه نحو تجنيد الأطفال داخل ساحات القتال وفي صفوف أطراف الصراع، فتنظيم "داعش" لم يتهاون في تجنيد الأطفال اليتامى والمهجورين والمختطفين، وقد أطلق عليهم "أشبال الخلافة"، واستعان التنظيم بالجمع بين التشدد الديني والتدريب العسكري، وزرع الشعور المتغلغل بالانتماء لدى هؤلاء الصبية، بخلاف ذلك فإن ثمة أطفال أصابهم الضجر من العمل لساعات طويلة في بعض الأعمال الشاقة في بعض مناطق سيطرة فصائل المعارضة، مقابل أجور ضئيلة، فسحرتهم الأجور المغرية التي يحصلون عليها من جراء الانخراط في ساحات القتال في صفوف هؤلاء المسلحين، وهو ما جعلهم يتحولون فجأة إلى مقاتلين خالعين ثوب الطفولة والبراءة، النظام السوري ذاته لم يتورع في تجنيد من هم تحت السن القانونية، خاصة في الفترات التي عاني فيها من الانشقاقات وهروب الشباب السوري من التجنيد الإلزامي، فلم يجد بُدًا من تجنيد شرائح من الفتيان الصغار والزج بهم في صفوف القتال، وقد عبّر ذات يوم عن هذا الوضع المأساوي للأطفال السوريين، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق "جوردون براون"، قائلًا: "إن الأطفال النازحين هم أكثر عرضة ليصبحوا أصغر العمال في المصانع، وأصغر العرائس، وأصغر الجنود في الخنادق".
خلال الأعوام القليلة الماضية، أبلغت اليونيسف عن تعرض أكثر من 145 مدرسة في سوريا للقذف، وهناك ما لا يقل عن 7400 مدرسة مغلقة، وتلك التي لا تزال تعمل بشكل عام تعاني من سوء المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية، وهو ما حرم عشرات الآلاف من الأطفال السوريين من التعليم، وخير شاهد على الوضع المأساوي للمدارس السورية، ما ذكره الدفاع المدني في محافظة إدلب قبل أيام قليلة، أن 114 ألف طالب قد حُرِمُوا من مواصلة التعليم في إدلب، حيث تقصف قوات النظام وروسيا بشكل مباشر المباني الحيوية، من مدارس ومشافي وأبنية سكنية، في إطار الحملة العسكرية المتواصلة لإخضاع المدينة، ففي حين يبلغ عدد المدارس في محافظة إدلب نحو 1200 مدرسة، تم تدمير نحو 100 منها بالقصف المباشر من الطائرات الروسية وطائرات النظام السوري خلال الشهر الماضي فقط، وهو ما دفع مديرية التربية والتعليم في إدلب إلى تعليق الدراسة بكامل المدارس، وتبقى هذه مجرد أرقام عن محافظة سورية واحدة!
فقبل اندلاع الحرب السورية؛ كانت سوريا تحظى بمعدل 99% كمعدل تسجيل في صفوف التعليم الابتدائي، لكن الصراع الدائر على مرّ السنوات الماضية قد أدّى إلى انخفاض هذه النسبة بشكلٍ كبير، وحتى عندما لاحت بادرة أمل لحل المشكلة من خلال تسجيل هؤلاء الأطفال في مدارس الدول المجاورة، تحمّلت هذه الدول عبئًا ضخمًا على بنيتها التحتية التعليمية المنهكة بالأساس، خاصةً لبنان والأردن، أما تركيا، فتُعطى أغلبية الدروس باللغة التركية، الأمر الذي خلق تحديًا كبيرًا أمام الطلاب القادمين من دولِة ناطقة باللغة العربية، ورغم أن هناك تمويل متزايد من جهات مانحة لتقديم التعليم المناسب لأطفال اللاجئين، إلا أن الفجوات التمويلية التي تصل إلى مئات ملايين الدولارات لا تزال تعيق الجهود الرامية لتقديم التعليم المناسب لهؤلاء الأطفال، فاستنادًا إلى دليل التنمية البشرية الذي يصدر عن الأمم المتحدة، فقد تراجع دليل التعليم في سوريا بنسبة 32.2% مقارنة بالعام 2010، بسبب انخفاض معدل الالتحاق بالمدارس وانخفاض سنوات التدريس وتسرب ملايين الأطفال نتيجة الحرب، فتراجعت مرتبة سوريا لتصبح في ذيل الترتيب الخاص بدليل التعليم من حيث الجودة على مستوى العالم.
وبعيدًا عن المصاعب التي يواجهها الأطفال لمواصلة تعليمهم، فإنهم يعانون من أذى نفسي بالغ دون أن يُلاقوا أي مساعدة طبية في هذا الشأن، فطبقًا لدراسة أنجزتها منظمة "أنقذوا الأطفال"، فإن 5.8 ملايين طفل في سوريا بحاجة إلى مساعدة نفسية بسبب الحرب مع إقتراب دخولها للعام العاشر على التوالي، ونبّهت الدراسة إلى أن سوريا تشهد أزمة في الصحة النفسية بشكل عام، حيث سجلت معدلات مفزعة للصدمات النفسية الحادة والمزمنة بين الأطفال، فـ 70% من الأطفال الذين شملتهم الدراسة ظهرت عليهم أعراض الصدمات والاضطرابات النفسية مثل التبول اللاارادي، وفقدان القدرة على الكلام، والعنف والإدمان على المخدرات، والأكثر أسفًا في الأمر؛ أن سوريا قد باتت بيئة صادمة للغاية يعرفها الأطفال ولا يودون العودة إليها مرة أخرى، تجنبًا لذكريات العنف المفرط فيها، ففي بعض الحالات، يرفض الأطفال أنفسهم العودة إلى أهلهم لأن ذلك قد يعني بالنسبة إليهم العودة إلى الحرب التي هربوا منها.
مخلفات كارثية للصراع الجاري؛ لعل أبرزها هو الجيل الضائع من الأطفال المحرومين من التعليم، هؤلاء الأطفال الذين يجدون أنفسهم، وهم لم يرتكبوا أي خطأ أو ذنب، ليس فقط نازحين، وإنما أيضًا محرومين من فرصة الحصول على تعليم مناسب، وهذا الجيل الضائع يشكل فاجعة سوريا الحقيقة. "الأطفال في سوريا، وحدهم، هم من يتحملون الجزء الأكبر من المأساة، رغم أنهم لا علاقة لهم على الإطلاق بهذا النزاع، لكنهم يتحملون وطأة الصراع، جيل كامل من الأطفال لم يعرف شيئًا الآن سوى الحرب، فكيف يمكن أن يكون هذا شيئًا جيدًا لأي شخص؟".. بهذه الكلمات اختصرت المتحدثة باسم منظمة اليونيسف "ماريكسي ميركادو"، مأساة الأطفال في سوريا، فثمة أجيال من أطفال سوريا قد ضيّعتهم الحرب بين الجهل والفقر واللجوء والمعاناة وحمل السلاح، ومن فلت من كل ذلك .. كان الموت في انتظاره ليحصد روحه.