"أون سان سو تشي".. من نوبل للسلام إلى الدفاع عن القمع والاستبداد
"الأم سو ذهبت إلى المحكمة نيابة عن البلاد، الحقيقة أن الاتهام كان موجهًا إلى الجيش، لكنها هي من ذهبت وكانت أول من تحمّل المسؤولية كزعيمة للبلاد"، هذا ما قاله المزارع البسيط من ميانمار "خين مونج شوي" قبل أيام قليلة لإحدى الوكالات الإخبارية تعقيبًا على خبر ذهاب "أون سان سو تشي"، زعيمة ميانمار والحاصلة على جائزة نوبل للسلام، إلى محكمة العدل الدولية في هولندا، في محاولة منها للدفاع عن بلادها في الإتهامات الموجهة إليها، وتحسين صورتها بعد الجرائم الفظيعة التي أُرتكبت بحق مسلمي الروهينجا. فمن هى "أون سان سو تشي"؟، وما سر هذا التحول الغريب في موقفها من مناصر الديموقراطية والدفاع عن الحقوق إلى مهادنة الظلم والاستبداد والدفاع عن جرائم الإبادة؟
كإبنة لأحد جنرالات الإستقلال في ميانمار، وُلِدَت "أون سان سو تشي" في 15 يونيو 1945م، وقد أُغتِيلَ والدها خلال العملية الانتقالية نحو الاستقلال بعد ميلادها بعامين فقط، في عام 1960م غادرت مع والدتها "داو خين كيا" إلى الهند، حيث عُيِّنَت والدتها سفيرة في دلهي، بعد عدة أعوام انتقلت "سو" إلى بريطانيا لتدرس في إحدى أعرق جامعاتها (جامعة أكسفورد)، حيث درست الفلسفة والسياسة والاقتصاد، والتقت بالأكاديمي "مايكل ايرس" الذي تزوجته لاحقًا، طوال فترة الدراسة والعمل بين بريطانيا واليابان وبوتان كانت بلدها الأم ميانمار في بالها دائما، حتى شاءت الظروف أن تعود إليها في عام 1988م، من أجل رعاية أمها المريضة جدا، كانت بورما "الاسم السابق لميانمار" في حالة اضطراب سياسي كبير، إذ انتشر الشعب في الشوراع للمطالبة بالحرية وبإصلاحات ديمقراطية، وبشكل أو بآخر انغمست "سو" في تنظيم مسيرات ومظاهرات ضد الدكتاتور الحاكم آنذاك الجنرال "ني وين"، حيث طافت جميع أنحاء البلاد تدعو إلى الإصلاح الديمقراطي والعدالة المجتمعية، كانت الأمور تسير بسرعة لتجعل منها زعيمة للانتفاضة، وقد ذاع صيتها من منطلق الحملات السلمية الرافضة للعنف التي كانت تقودها، متأثرةً بحركة الحقوق المدنية لـ"مارتن لوثر كينج"، وحركة المهاتما غاندي من قبله.
مع انتشار العنف والقمع ظلت رقعة المظاهرات تتوسع، إلى أن انتهى الأمر بإستيلاء الجيش على السلطة عبر الانقلاب في 18 سبتمبر 1988م، وبعد عامين أُجريت انتخابات عامة، تمكنت خلالها "سو" ورابطتها من الفوز بنسبة كبيرة، وذلك بالرغم من أنها كانت تحت الإقامة الجبرية في منزلها، إلا أن الجنرالات رفضوا تسليم السلطة، وظلوا مسيطرين على شؤون البلاد، وظلت "سو" في إقامتها الجبرية التي انتهت في عام 1995م، لكنها ما لبثت أن وُضِعَت مجددًا تحت الإقامة الجبرية في عام 2000م، عندما حاولت السفر إلى مدينة مندلاي متحدية قيود السفر المفروضة عليها، ليُفرج عنها عام 2002، ثم سُجنت لمدة عام، قبل أن تدخل إقامة جبرية ثالثة انتهت في عام 2010م، خلال كل هذه السنوات الطويلة من العزلة المنزلية لم تفقد "سو" الأمل في أن تنجح جهودها في مواجهة القمع والاستبداد والوصول ببلادها إلى العدالة والمساواة والديموقراطية، في عام 1991م، حصلت "سو" على جائزة نوبل للسلام، تتويجًا لرحلتها النضالية تلك، والتي وصفها "فرانسيس سييستد"، رئيس لجنة جائزة نوبل، بأنها "نموذج رائع لقوة من لا قوة له".
مع إنتهاء إقامتها الجبرية الثالثة في 2010م؛ بدأت عملية تحول تدريجي ترى النور في ميانمار، عندما وافق جنرالات الجيش على تسليم السلطة لحكومة إصلاحية يرأسها الجنرال الإصلاحي "ثين سين"، لينتهي هذا التحول الإصلاحي في عام 2015 بتولي حزب "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" الذي تتزعمه "سو" للسلطة، بشكلٍ ما حرمان "سو" دستوريًا من خوض انتخابات الرئاسة، فأوضحت بجلاء أنه أيًا كان الذي سيتولى المنصب فسيكون ذراعها التنفيذي، وهذا ما حدث بالفعل، عندما تولى "تين كياو" منصب الرئاسة منذ عام 2016م، طريق وصول "سو" إلى حكم بلادها ولو بشكل غير مباشر، لم يكن مكللًا بالزهور، فقد أمضت أكثر من 20 عامًا تحت مختلف أشكال الاحتجاز وقمع الحريات، لذا فقد كان المأمول منها أن تكون في صف الروهينغيا، وهى الأقلية المسلمة المضطهدة في ولاية راخين بميانمار، والتي تتعرض لأسوأ أشكال الاضطهاد العرقي والديني منذ عام 2012م، وتكررت الاحداث لاحقًا وبشكل اكثر عنفًا في عام 2015م، لكن "سو" فضّلت الصمت الشديد، لم تعلق بشئ على ما يحدث من قتل وتعذيب وتهجير، سوى أنها قد علقت ذات مرة للصحفيين في 2012، أنها لا تعلم ما إذا كان من الممكن اعتبار الروهينغيا مواطنين بورميين أم لا.
لاحقًا رفضت "سو" إدانة العنف ضد الروهينغيا، منكرة تعرض مسلمي ميانمار لأي تطهير عرقي، وخلال لقاء أجرته معاه شبكة "بي بي سي" قالت مبررةً ما يحدث بأن "احتقان الأجواء يرجع إلى مناخ من الخوف سببه "شعور العالم بتعاظم قوة المسلمين عالميًا"، وقد تسرب من كواليس اللقاء، أن "سو" قد أعربت عقب هذا اللقاء عن استيائها من اختيار مذيعة مسلمة لإجراء اللقاء معها، ففي وقتٍ أُحرقت فيه قرى بأكلمها وعُذِبَ الآلاف وأُطلِقَت النيران بشكل مباشر على أفراد من الروهينغيا وتم تهجير ما يزيد عن ربع مليون مسلم روهينغي إلى بنغلاديش في واحدة من أكثر جرائم التطير العرقي بالقرن الحالي وحشية، كان صمت "سو" طويلًا ومتعمدًا، بالرغم من وجود مناشدات لبعض حاملي جائزة نوبل للسلام ومطالبات رسمية من رؤساء دول ومنظمات دولية لـ "سو" بضرورة التدخل ورفض العنف، وانتقادات، لكن مكتبها الرسمي كان يعلق دائمًا بأن ما يحدث هو نتيجة معلومات مضللة يتم تداولها، لكن الانتقادات الحادة لم تتوقف، وقد حصدت عريضة تطالب بسحب جائزة نوبل للسلام منها على أكثر من 300 ألف توقيع جماهيري، لكن اللجنة المنظمة للجائزة ردت باستحالة سحب جائزة نوبل من أي شخص تسلمها وذلك وفقاً لوصية "ألفريد نوبل"، وأن لجنة الجائزة غير مسؤولة عن أفعال أي شخص بعد استلامه للجائزة، لكن ما فشلت فيه لجنة نوبل نجحت فيه اللجنة المنظمة لجائزة حرية مدينة أكسفورد العريقة، حيث صوَّت مجلس مدينة أكسفورد بالإجماع على سحب تلك الجائزة منها، معتبرين أن سمعة مدينتهم قد "تلطخت بسبب تكريم من يغضون البصر عن العنف".
كم هو غريب أن يتحول الشخص من أقصى مراحل الدفاع عن الحريات والديموقراطية ومقاومة العنف، إلى أقصى مراحل الصمت المتعمد على مشاهد القتل والتهجير، بل ومناصرة القتلة والدفاع عن استبدادهم مثلما حدث عندما ذهب "سو" قبل أيام قليلة على رأس فريق دفاع إلى هولندا، حيث حضرت 3 أيام متواصلة من الجلسات في محكمة العدل الدولية، لتنفي خلالها وقوع إبادة جماعية في ولاية راخين، بعدما أقامت دولة جامبيا، نيابة عن منظمة التعاون الإسلامي، دعوى ضد ميانمار في هذه المحكمة الدولية تتهمها بانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948م، لقد كان قرار "سو" المفاجئ بأن تحضر الجلسات ضربة أخرى قاصمة لسمعتها الدولية المشوهة بالأساس.
في مقابلة نادرة أُجريت مع "أون سان سو تشي" في عام 2007، وكانت حينها قيد إقامتها الجبرية ومحرومة من كل حقوقها المدنية وفي نفس الأثناء كانت الانتفاضة الشعبية في الشوارع تُقمَع بوحشية، قالت حينها أنها قد وهبت حياتها لتمثيل المواطن العادي، وأن "الديمقراطية لم تمت في ميانمار، ولا يمكنهم الوقوف في وجه الحرية، وسيأتي وقتنا"، بعد كل هذه الأعوام.. أتى وقت "سو" بالفعل، ووصلت إلى سدة الحكم في البلاد، لكنها بدلًا من الإنتصار لقضايا الناس البسطاء والأقليات المهمشة والحفاظ على العدالة والحرية والمساواة، قتلت "سو" الديموقراطية بنفسها، عندما تخاذلت عن نصرة مواطنين عاديين يتعرضون لأقسى أنواع التعذيب والقمع والتهجير، على مرأى ومسمع من العالم أجمع، فيما ترى هى أن الامر مجرد معلومات مضللة.