الثابتون على الحق (من ثبات الرسل عليهم السلام)
الحمد لله العليم القدير، اللطيف الخبير؛ مقلب القلوب ومثبتها، ومزكي النفوس ومهذبها، ومدبر الأمور ومصرفها، نحمده في العافية والسراء، ونستعين به على البلاء والضراء، فهو المحمود والمستعان في كل الأحوال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ من استقام على دينه ثبته وهداه، ومن زاغ عنه أزاغه وأقصاه {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ لا ثبات للعباد إلا بشريعته، ولا نجاة لهم إلا بطاعته، ولا هداية لهم إلا بسنته؛ فمن تمسك بها نُجِّي وفاز، ومن حاد عنها خسر وخاب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، والتزموا دينه، واعتصموا بحبله، وتمسكوا بكتابه؛ فهو زاد القلوب للإيمان واليقين، وهو سبب الثبات على الحق المبين، وفيه عصمة من الزيغ والضلال، وعنه نسأل يوم المعاد {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43- 44].
أيها الناس: حين تتلاطم الفتن بالناس، وحين تحيط بهم المحن، ويتتابع البلاء عليهم، ويتربص أعداء الملة بهم؛ فإنه لا ثبات لهم على دينهم إلا بتثبيت الله تعالى لهم. وفي كتابه الكريم أسباب الثبات، وفيه سير الثابتين من الأنبياء والصالحين؛ ليطالعها المؤمن في كل ختمة يقرؤها، فتتمثل له سير الأنبياء عليهم السلام في كل حالة ضعف تعتريه، وعند كل ميل إلى الدنيا وزخارفها. وقد ذكر الله تعالى جملة من الرسل وأمر نبينا عليه الصلاة والسلام بالتأسي بهم، وهو أمر لنا بذلك {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
وأول أولي العزم من الرسل نوح عليه السلام، تآمر الملأ من قومه عليه، وسخروا منه، وصدوا عن دعوته، وكادوا به كيدا عظيما، ومكروا مكرا كبارا، فما راعهم منه إلا ثباته على الحق مهما طال الأمد، وأيا كان الثمن، وأُمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يتلو علينا نبأ ثبات نوح عليه السلام؛ لنتعلم الثبات من نبئه الثبات {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71]. يقول لهم: إذا ثَقُلَ عَلَيْكُمْ طُولُ مُكْثِي فِيكُمْ، وَوَعْظِي إِيَّاكُمْ بِآيَاتِ اللَّهِ تعالى، فَعَزَمْتُمْ عَلَى قَتْلِي وَطَرْدِي؛ فأَحْكِمُوا أَمْرَكُمْ، واعْزِمُوا عَلَيْهِ، وَادْعُوا آلِهَتَكُمْ فَاسْتَعِينُوا بِهَا لِتَجْتَمِعَ مَعَكُمْ، وأَمْضُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَافْرَغُوا مِنْهُ، وَلَا تتأخروا في ذلك أو تترددوا، وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْجِيزِ والتَحَدِي لهم. وما قال نوح عليه السلام ذلك لهم إلا لثباته على الحق، وتعلقه بالله تعالى، وثقته بنصره، وصدق توكله عليه، وذلكم هو الثبات الحقيقي الذي لا تزعزعه الابتلاءات، ولا تميد به الأهواء؛ وكانت عاقبته نجاة نوح والمؤمنين معه، وغرق المكذبين المستكبرين.
ومن ثبات هود عليه السلام أنه أشهد الله تعالى وأشهد قومه على براءته من شركهم، وتحداهم في كيدهم، وطلب سرعتهم في تنفيذه، مبينا توكله على الله تعالى، وذلكم هو الثبات {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 54 - 56].
والخليل عليه السلام من أولى العزم، وأخذ الدين بقوة، وناظر أهل الشرك في شركهم؛ فناظر الملك الذي عبّد الناس لنفسه حتى قطع حجته، وناظر عبّاد الكواكب فألزمهم، وحاور أباه على التوحيد، وهو ثابت في كل مواقفه، لا يلين عزمه، ولا يضعف أمام التهديد والإغراء؛ حتى اشتهر بينهم بذم آلهتهم، وتسفيه عقولهم، ثم أتبع القول الفعل فحطم أصنامهم، فلما واجهوه بما فعل لم ينكر فعلته، ولم يعتذر منها رغم فداحة فعله بهم، بل وبخهم على شركهم على رؤوس الأشهاد {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66 - 67]. وكانت العقوبة التي تنتظره هي التحريق حيًّا بالنار، فلم يجزع أو يتراجع، بل ضل ثابتا على دينه، متوكلا على ربه، حتى قذفوه في نارهم {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 68 - 70]. فأي ثبات على الحق كهذا الثبات؟!
ووقف موسى عليه السلام أمام فرعون وطغيانه مذكرا وناصحا وواعظا، بثبات عجيب، وعزم أكيد، وناظره في الله تعالى، وفي ادعائه الربوبية، ولم يلتفت إلى تسفيهه وتحقيره له، ورميه بالتهم الباطلة، حتى خصمه في المجادلة، وجاء فرعون بالسحرة لمبارزة موسى عليه السلام، فلم يتراجع موسى أو يتردد، بل واعدهم في أكبر جمع لهم، فبارزهم أمام الناس وهزمهم، وآمن السحرة فعذبوا وقتلوا وصلبوا، وموسى مقيم على دعوته، ثابت على إيمانه ويقينه، فلم ييأس أو يفتر عن دعوته، وناله ومن آمن معه ما نالهم من الأذى، حتى شكا المؤمنون لموسى ما يجدون من شدة الأذى، فاشتغل عليه السلام بتثبيتهم وتصبيرهم {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 128 - 130].ثم حشد فرعون جنده، وطاردوا موسى والمؤمنين معه، حتى بلغوا البحر فكان أمامهم، والعدو وراءهم، وهذا موقف يتزعزع فيه أعظم الأبطال، ويضعف فيه أشد الشجعان، ولكن موسى عليه السلام لا يزال على ثباته ورباطة جأشه، فلم يتغير أو يرتبك أو يضطرب، وثبّت قومه لما اضطربوا في ذلك الموقف العصيب {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61- 62].
هذا الثبات العجيب كانت عاقبته النصر المبين في معجزة ربانية باهرة ذكرها الله تعالى في القرآن للعظة والاعتبار، وسلوك سبيل الثابتين على الحق؛ فإن لهم في الدنيا نصرا مبينا، وإن لهم في الآخرة فوزا كبيرا.
وساوم المشركون نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم على دينه، فعرضوا عليه الملك والمال والنساء، فلم يتزحزح عن موقفه، ولم يتراجع عن دعوته. ثم عرضوا عليه أن يقبل آلهتهم ويقبلون دعوته، فرفض عرضهم بعزم وإصرار، ودعاهم إلى توحيد الله تعالى، فآذوه وعذبوا أصحابه فلم يتراجع عن دعوته، أو يتنازل عن شيء منها؛ حتى ألجئوه إلى الهجرة من بلده، ويوم الهجرة وقف المشركون على باب الغار، فخاف أبو بكر رضي الله عنه أن يراهم المشركون؛ فثبته النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا» فأي ثبات يداني هذا الثبات؟! ألا فاثبتوا -عباد الله- على دينكم وانصروه؛ فإنه الحق من ربكم، فإن لم تثبتوا ولم تنصروا {يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستعينوا به سبحانه على الثبات {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].
أيها المسلمون: الثبات على الحق لا يكون إلا بقناعة راسخة بالدين وبالكتاب المبين؛ فإن الموقن بأن الدين حق، وأن القرآن حق، وأن الرسول حق؛ لن يفارق دينه أو يتنازل عن شيء منه؛ لأن يقينه يغلب ما يُلقى عليه من شبهات، وما يزين له من شهوات.
وإن قارئ القرآن ليعجب أشد العجب من ثبات الرسل عليهم السلام، وإنه ليستحيي من الله تعالى أن ينتكس أو يبدل أو يغير دينه، أو يتنازل عن شيء منه، فكيف يفعل ذلك وهو يقرأ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] مكث نوح ثابتا على دينه، صادعا بالحق من ربه سبحانه ألف سنة إلا خمسين عاما، والنتيجة {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40] ويواسيه الله تعالى بقوله {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36]. ومن الناس اليوم من تتقاذفه الأهواء والشبهات والشهوات ذات اليمين وذات الشمال، وعمره كله لا يبلغ عشر ما قضاه نوح عليه السلام في دعوة قومه.
وكيف لا يثبت قارئ القرآن على الحق وهو يقرأ مناظرات الخليل عليه السلام مع عباد الأصنام، ثم مع عباد الكواكب، ومع الملك الذي عبّد الناس لنفسه من دون الله تعالى، ومع ذلك هاجر الخليل عليه السلام إلى الله تعالى تاركا قومه، ولم يهاجر معه سوى زوجه سارة، لأنها هي الوحيدة التي آمنت به؛ ولذا قال لها في هجرته: «يَا سَارَةُ: لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ» رواه البخاري.
وكان لموسى عليه السلام صولات وجولات مع فرعون وملئه، ودعاهم إلى الله تعالى في كل مناسبة، وناظرهم غير مرة، وبارز السحرة، ثم بعد ذلك كله لم يؤمن معه إلا القليل، كما قال الله تعالى {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83].
فمن يستوحش طريق الحق بعد هذا كله، وأفاضل أولي العزم من الرسل لم يتبعهم إلا القليل؟ بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلاَنِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ» رواه الشيخان.
وصلوا وسلموا على نبيكم....