صفقة إيران والغرب.. ضحيتها العرب
هل مجرد توقيع إيران لاتفاق مع الغرب حول برنامجها النووي يمكن اعتباره إنجاز أو
نصر للجانب الإيراني؟ على الأقل هذا ما تحاول الادارة الايرانية أن تقنع نفسها
والآخرين به، دون الخوض في تفاصيل ذلك الاتفاق الذي تم توقيعه في المدينة السويسرية
لوزان في الثاني من شهر إبريل الجاري. لأن ما قدمته طهران من تنازلات مهمة سبق وأن
رفضتها قابله نجاح في رفع العقوبات الاقتصادية مع نزع اعتراف غربي بنفوذها المتعاظم
في الشرق الأوسط.
التنازلات الايرانية التي قُدمت وفقاً لاتفاق الاطار لم تكن عادية ولم تكن متوقعه
لدى الكثيرين، فما رفضته واعتبرته مسبقاً جزء من كرامتها الوطنية أصبح اليوم جزءاً
مهماً ورئيسياً من هذا الاتفاق، فوفقاً لما ورد في أحد نصوص الاتفاق التي أكدت على
أن "تقوم إيران بشحن الوقود
المستنفد من المفاعل خارج البلاد مدى الحياة، مع التزامها بعدم إجراء أبحاث أو
عمليات إعادة تصنيع على الوقود النووي المستنفد".
وهذا ما يُعيدنا بالذاكرة لعام 2005 حينما عرضت روسيا على إيران مقترح، نقل مخلفات
الوقود النووي الى الأراضي الروسية لضمان عدم استفادة إيران من الوقود النووي
المستنفذ الذي يثير مخاوف الغرب، لأنه يشكل الطريق الأقرب للوصول إلى مادة
البلوتونيوم "239"، المستخدمة في صناعة القنبلة النووية، وهو ما رفضته طهران أنداك
بداعي الحفاظ عن كرامتها الوطنية.
التنازل الإيراني عن برنامجها النووي الطموح الذي شغل العالم لسنوات طويلة، لم
يتوقف عند حد التنازل عن الكرامة الوطنية فحسب، بل شمل التنازل عن مستقبل ذلك
البرنامج الذي كلفها مليارات الدولارات خلال عقود طويلة، فطموحها ببناء منشأة
لتخصيب اليورانيوم بحجم 52 الف جهاز طرد مركزي في "ناتنز" تبدد بعد موافقتها بموجب
اتفاق الاطار على تخفيض عدد هذه الأجهزة من 19 ألف جهاز كانت قد وصلت إليها من قبل،
إلى ستة آلاف جهاز فقط، هي مجمل عدد الأجهزة التي يسمح لإيران باستخدامها خلال
السنوات المقبلة، بينما أجهزة الطرد المركزي الأخرى لا يتم استخدامها إلا كبديل
للأجهزة المتفق عليها.
لم يراعي الاتفاق المادة الرابعة من معاهدة حظر الانتشار النووي
NPT""
لأن تلك المادة تتيح للدول الموقعة عليها الاستخدام السلمي للطاقة النووية سواء من
خلال الاستخدام السلمي الفعلي " إنتاج الطاقة النووية" أو لاستخدامات الأبحاث، لذلك
كان إذعان الادارة الايرانية لمطالب الغرب واضحاً حينما وافقت بموجب الاتفاق، على
أن تكون نسبة التخصيب فقط 3.67%، وهي النسبة التي تستخدم لتشغيل مفاعلات الطاقة،
وتنازلت عن حقها الشرعي الذي تقره تلك الاتفاقية ونظام ضمانات الوكالة الدولية، حيث
تصل نسبة تخصيب اليورانيوم المستخدمة لأغراض البحث إلى 20%.
والغريب أن إيران قد وافقت وفقاً لاتفاق الاطار على عدم إجراء الأبحاث النووية من
الأساس، لاسيما في منشأة "فوردو" لمدة 15 عاماً، فإجراء الابحاث النووية والاستفادة
من التكنولوجيا النووية السلمية هي حقوق مشروعه لكل الدول الموقعة على معاهدة حظر
الانتشار، ويفترض أساساً ألا تكون تلك الحقوق المشروعة محل تفاوض، كون إيران كانت
قد وقعت وصادقت على تلك المعاهدة عام 1969، والجدير بالذكر أن كل دول الشرق الأوسط
موقعة على تلك الاتفاقية باستثناء الكيان الصهيوني.
الأمر الأخر الذي كان محل استغراب أيضاً أن ذلك الاتفاق المذل لإيران من الناحية
الفنية على الأقل، قد فرض عليها استخدام أجهزة الطرد المركزي القديمة البطيئة
نسبياً، لأنها وافقت على سحب 1000
جهاز طرد مركزي من الجيل الثاني من منشأة "ناتانز" ووضعتها في مخازن تحت رقابة
الوكالة الدولية للطاقة الذرية. أي أن الأجهزة المسموح لها بالعمل تقتصر فقط على
أجهزة الجيل الأول، التي كانت قد حصلت على جزء كبير منها عبر شبكة العالم النووي
عبد القدير خان خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضى.
بالإضافة إلى ذلك، وافقت الإدارة الإيرانية على عدم إنشاء أي مفاعلات جديدة لمدة 15
عاماً مقبلة، على أن يتوقف برنامجها النووي عند هذا الحد، فيقتصر على تخصيب
يورانيوم صالح لتشغيل مفاعل الطاقة في بوشهر، وهو ما يذكرنا بموقفها النووي قبل بدء
التفاوض مع مجموعة 5+1 عام 2009، وربما تقديمها لتنازلات أخرى وردت في نصوص مختلفة
من الاتفاق يعيد إلى الأذهان موقفها النووي أثناء الفترة الرئاسية الأولى للرئيس
السابق أحمدي نجاد.
لكن على الرغم من حجم هذه التنازلات المقدمة إيرانياً إلا أن ذلك الاتفاق يبقى هش
ومعرض للانهيار لأنه اتفاق إطار، جاء مرهوناً بالتوصل لصيغة نهائية شاملة في 30
يونيو المقبل، كما أن المفاوضات الشاقة التي خاضها الجانبان، ربما تكون أسهل بكثير
من المفاوضات المقبلة حول التفاصيل التي يفترض أن تفضي لذلك الاتفاق النهائي
المأمول، لأن خبرة التفاوض الايراني مع الغرب حول قضية برنامجها النووي تؤكد على أن
احتمالات الفشل تبقى وارده في أي لحظة، خاصة وأن طهران سبق لها أن نجحت في إيجاد
الكثير من الخروقات الفنية في اتفاقيات مشابهة سابقة، كما أن الظروف السياسية تلعب
دور في نجاح أو فشل هذا النوع من الاتفاقيات، ولا أستبعد لجوء الأطراف الرئيسية إلى
تمديد الفترة لمرات عدة قبل توقيع الاتفاق النهائي.
على أي حال لم يكن الاذعان الايراني لمطالب الغرب مجاني أو دون مقابل، فالتقديرات
المتعلقة بحجم الاموال الايرانية المجمدة في الخارج تصل إلى 80 مليار دولار، يمكن
لإيران أن تحصل عليها في حال تم رفع العقوبات الاقتصادية حسب اتفاق الإطار، خاصة أن
كل من الاتحاد الاوروبي والإدارة الأمريكية قد وافقا على
تعليق العقوبات، بعد تحقق الوكالة الدولية للطاقة الذرية من تطبيق إيران لجميع
الخطوات الرئيسة المتعلقة ببرنامجها النووي.
كما أن قرارات العقوبات التي فرضت على إيران من خلال مجلس الأمن الدولي سيتم
إلغاءها، من خلال صياغة مشروع قرار دولي يسمح لها بالحصول على التكنولوجيا الحساسة،
مع فرض بعض القيود المتعلقة بالصواريخ البالستية، مع الإبقاء على العقوبات
الأمريكية المتعلقة بالإرهاب وحقوق الانسان.
لذلك يبقى الأمر الجدير بالملاحظة في هذا الاتفاق، أن رفع العقوبات الاقتصادية،
خصوصاً في قطاعات المال والنفط والتكنولوجيا، سيعطي إيران القدرة على تعزيز نفوذها
المتمدد في الفضاء العربي، فإذا كانت إيران المحاصرة اقتصاديا من قبل الغرب، قد
باتت صاحبة الكلمة الأولى في العراق وسوريا، ولها نفوذها في لبنان واليمن وبعض دول
الخليج العربي، فكيف سيكون وضعها الإقليمي إذا ما تمكنت من التخلص من تلك
العقوبات!!. وإذا كانت طهران المحاصرة إقتصادياً تقدم مليارات الدولارات والسلاح
للنظام السوري والجماعات الشيعية في العراق وسوريا واليمن وغيرها من المناطق في
الشرق الأوسط، فكيف سيكون الوضع في تلك المناطق عند تحرير الوضع الاقتصادي
الإيراني!
وإذا كانت إيران قد استطاعت أيضاً أن تفرض نفسها كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط،
باعتراف أمريكي قبل رفع العقوبات عنها، فماذا سيكون موقفها الإقليمي في حال رُفعت
العقوبات الغربية عنها !! لذا لم يكن اتفاق لوزان مجرد اتفاق على البرنامج النووي
بقدر ما كان عبارة عن تنازلات إيرانية مقابل قبول دولي بالتعايش مع الدور الايراني
في الشرق الأوسط.