يَجمع
حي الشجاعية كافة صفات العربي الأصيل، حيث يتميز بالبسالة والشجاعة والنخوة والكرم
والصمود، ويكتسب اسمه من القائد العظيم "شجاع الكردي" الذي روى بدمائه الطاهرة
تلك المنطقة في إحدى المعارك بين الأيوبيين والصليبيين الغزاة سنة 637 هجري - 1239
ميلاد. من على أرض الشجاعية حاول الأتراك مجابه
المحاولات التركية لاحتلال قطاع غزة أثناء الحرب العالمية الأولى.
ويعتبر
حي الشجاعية أكبر أحياء مدينة غزة من حيث تعداد السكان، ويقطنه حوالي 120 الف نسمة،
كما يحتضن الحي كثيراً من أكبر عائلات غزة وأكثرها نضالاً ومقاومة للعدو الصهيوني ومشروعه،
مثل عائلة الحية، حلس، محيسن، أبو حجيلة، الحرازين، جندية، عمرو، فضلاً عن عائلة فرحات
التي قدَّمت عدداً كبيراً من الشهداء فدا الوطن، وكانت أم نضال فرحات قد سطَّرت أروع
قصص العزة والكرامة حينما أعطت نجلها محمد البندقية وأرسلتها لتنفيذ عملية بطولية في
إحدى مغتصبة "عتصمونا" جنوب قطاع غزة في مارس 2002م، ما أدى إلى مقتل وجرح
العشرات من الصهاينة حسبما اعترف العدو.
هناك
قصة عداء دائمة ومتوارثة بين حي الشجاعية وأبطاله من ناحية، والاحتلال الصهيوني ومن
قبل الاحتلال البريطاني من ناحية أخرى، وكما قاتل أبطال الشجاعية واستبسلوا في قتالهم
ضد الانجليز؛ قاتوا واستبسلوا أيضاً في صراعهم مع العدو الصهيوني طوال العقود اللاحقة
لقيام دولة الاحتلال الصهيوني وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى.
وإذا
كان قطاع غزة يمثِّل صمام الأمان للأمن القومي المصري من ناحية الشرق، فإن حي الشجاعية
يمثل صمام الأمان لقطاع غزة بكامل ترابها، بما يتمتع به من موقع استراتيجي مجابه للأراضي
المحتلة ومغتصباتها وبواباتها التي تربطها بغزة مثل ناحلعوز وكارني وسيديروت وغيرها.
في
ضوء إدراك الاحتلال الصهيوني لما تشكله الشجاعية من مخاطر على جنوده مثل القنص والتفجير
وإطلاق الصواريخ وأسر الجنود والالتفاف إلى الخطوط الخلفية لتمركز الجيش، قرر هذا الجيش
اتباع سياسة الأرض المحروقة معهم، وهو ما يعني في علم السياسة أو العسكر أن يقوم الجيش
بحرق كل ما يجد أمامه وبكل ما يمتلك من قوة، مستخدماً الطائرات والدبابات، وذلك حتى
يضمن خلو الأرض من أي أسلحة زرعتها المقاومة الفلسطينية لاصطياده.
لقد
قام الجيش الصهيوني بتكرار مجزرة صبرا وشاتيلا ولكن بشكل أبشع وأعنف في حي الشجاعية
حينما قام (صباح يوم الأحد 20 يوليو 2014م) بإطلاق مئات قذائف الدبابات وعشرات القنابل
التي تزن ألف كجم من طائرات الإف 16 أو الصواريخ التي يتم إلقاؤها بواسطة الطائرات
الحربية الاستطلاعية منذ ساعات الليل المتأخر ليوم السبت الماضي وحتى نهاية ايوم التالي،
أي في مدة زمنها حوالي 24 ساعة.
سقطت
هذه الصواريخ والقنابل والقذائف على بيوت المدنيين الآمنين العُزَّل من نساء وأطفال
وشباب وشيوخ، في مشهد مروِّع يندى له جبين الإنسانية جمعاء، فكانت الحصيلة 75 من الشهداء
، و أكثر من 400 جريح غالبيتهم العظمى من الأطفال والنساء.
لم
يسمح الاحتلال للمدنيين بالخروج من منازلهم ومغادرتها إلى أمكان أكثر أمنّاً، ولم تتدخَّل
اللجنة الدولية للصليب الأحمر لحماية المدنيين –على النقيض تماماً من الشعار الذي ترفعه-
إلا في وقتٍ متأخرٍ جداً، فكان موظفو العلاقات العامة يقولون للمواطنين "لم نعد
ننسق لإخلاء المدنيين المحاصرين".
وعندما
خرج المدنيون على عاتقهم راجلين أو بسيارات؛ قامت الطائرات الحربية بملاحقتهم وقصفهم
في الشوارع والطرقات والزقاق وتحت شرفات المنازل، فتناثرت الجثث والأشلاء على الجدران
وصُبغت الشوارع باللون الأحمر.
لقد
قابل جيش الاحتلال الصهيوني ضربات المقاومة الفلسطينية لجنوده المدججين بالسلاح والعتاد؛
بقصف عنيف للمدنيين الأبرياء، في فِعلة تكشف حقيقة وجهه القبيح وتأكد عدم التزامه بمدونات
السلوك والقوانين، ومدى تجرده من الأخلاق التي يجب أن يتمتع بها كل جيش حول العالم.
لم
يفرِّق جيش الاحتلال الذي حاول إبادة الإنسانية والبشرية بسلاحه المتقدم بين طفل أو
شاب، وبين فتاة أو امرأة، وبين رجل أو شيخ، ولم يفرَّق بين مقاومة أو صحفي أو موظف
إسعاف وطوارئ أو دفاع مدني، ورغم موافقته على وقف إطلاق النار لإجراء هدنة إنسانية
من أجل إخلاء الجثث بطلب من الصليب الأحمر؛ لم يلتزم بها، وبعد أقل من ساعة على الاتفاق
استأنف قصف الحي بعنف، مدعياً بأن قواته تعرضت لإطلاق النار.
لقد
برر الكيان الصهيون هذه الجريمة النكراء، وهي جريمة حرب وفق قواعد القانون الدولي الإنساني،
ببعض الكلمات الخارجة عن السياق والمجردة من أي معنى او روح، إذ تأسَّف رئيس الوزراء
الصهيوني "بنيامين نتنياهو" لسقوط ضحايا من المدنيين الفلسطينيين، وقال لمحطة
cnn الأمريكية "نحاول استهداف الأهداف العسكرية
وللأسف هناك ضحايا من المدنيين نأسف لسقوطهم ولا نسعى لاستهدافهم". وهذا الموقف
يشرح صراحة اللامبالاة الصهيونية تجاه ما يحصل في غزة، لأن الكيان الصهيوني مطمئن للموقف
الرسمي العربي الداعم له بشكل مباشر وغير مباشر، سواء من مصر أو الإمارات والأردن،
أو من غيرهم من الدول العربية، أو الصامت حيال المجازر والعدوان الغاشم.
أما
الولايات المتحدة وهي الداعم الأول للاحتلال الصهيوني، كعادتها انتقدت المقاومة الفلسطينية
وألقت باللوم على حركة حماس على اعتبار أنها رفضت "بتعنت" وقف إطلاق النار.
لقد
روى المدنيون الفارّون من آلة الإرهاب الصهيونية قصص ما حصل معهم بالتفصيل وبحضور ممثلين
عن منظمات المجتمع المدني، لكن أهم ما في الأمر أن الحيَّ الذي أنجب الشهداء والمناضلين
الحريصين على تحرير الوطن، أثبت أصالته عندما أكَّدت غالبية العائلات التي ادلت بشهاداتها
أن المال والبيت والنفس فدا الوطن، وأنهم بخير وعافية وسلامة رغم المصاب الجلل طالما
بقيت المقاومة الفلسطينية الباسلة بخير.
أما
صاحب ال11 فقيداً من عائلته فقد قال "أنا أوصي المقاومة ألَّا تتنازل عن
مطالبها، وأن تتمسك بمطالبها لأنها مطالب الشعب".
وكعادتهم،
التزم الحكام العرب الصمت حيال هذه المجزرة المروعة، إلا القليل ممن شجب واستنكر وأدان
دون أن يحرِّك ساكناً، أما السلطة الفلسطينية فكانت قد بشَّرت بحرب طاحنة إذ لم تلتزم
المقاومة الفلسطينية بالهدنة الصهيونية التي سوَّقتها مصر، وعندما وقعت المجزرة، اكتفت
السلطة بالشجب والاستنكار ووصفتها بأنها "مجزرة"، وكأنها جاءت بشيء جديد،
كما أعلنت الحداد لمدة ثلاثة أيام اعتباراً من يوم المجزرة، هذا في ضوء أن الحياة تسير
بشكل طبيعي جداً في الضفة الغربية، ووسائل الإعلام التابعة للسلطة تسير وفق خطتها البرامجية
دون مراعاةٍ لمشاعر المواطنين وخاصة المصابين منهم، إلا من بعض المشاهد التي تبثّها
خلال نشرات الأخبار.
وعندما
حاول المواطنون في الضفة الغربية أن يقفوا مع إخوتهم في غزة وخرجوا في مسيرات عفوية
في رام الله وجنين تنديداً بالعدوان الصهيوني الغاشم على قطاع غزة والذي راح ضحيته
أكثر من 500 شهيد وأكثر من 3000 جريح، اعترضتهم أجهزة الأمن الفلسطينية وقامت بتفريقهم،
وهو ما يؤكد أن غزة "ليست ضمن حسابات رام الله" في هذه المرحلة.
ومهما
يكن من أمر، فقد استطاع أبطال حي الشجاعية خلال السنوات ال14 الماضي قتل وجرح عشرات
جنود الاحتلال وتدمير العشرات ما دباباته، ويبقى الأمل معقوداً في قيام أبطالها ببعض
الأنشطة العسكرية التي سترغم الاحتلال الصهيوني على التقهقر والتراجع عن الاجتياح البري
لقطاع غزة انطلاقاً من كل زقاق وشارع وحارة في حي الشجاعية، ولعل أولى هذه البشائر
تتمثل في استطاعت المقاومة بقتل 10 جنود صهاينة شرق الحي في مساء الاثنين (21
يوليو).
:: ملف خاص بعنوان "غزة تقاوم"