يكشف التحليل أن العلاقة بين إيران والكيان الصهيوني ليست عداءً أيديولوجيًا، بل شراكة استراتيجية سرية قائمة على تبادل المصالح والتنافس على الهيمنة الإقليمية، وهو ما تؤكده التحالفات والصفقات الخفية التي وثّقتها دراسات متعمقة.
حول طبيعة العلاقات الإيرانية مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة؛ يكشف كتاب
«تريتا
بارسي»
-الصادر في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2007م-، كثيرًا من الحقائق والوثائق، لا
سيما عن حقيقة التعاملات السرية بين الأطراف الثلاثة، والعلاقات الإيرانية العلنية
معهما.
بحسب عنوان الطبعة الإنجليزية: (التحالف الغادر: التعاملات السريّة بين
«إسرائيل»،
وإيران، والولايات المتّحدة الأمريكية
Treacherous Alliance: The Secret Dealings of Israel, Iran,
and the United States)،
للمؤلف تريتا بارسي
Trita Parsi
أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جون هوبكنز الأمريكية. والمُؤلِّف ليس مفكرًا
وأكاديميًّا فحسب، بل إنه من مستشاري السياسة الخارجية الأمريكية للرئيس الأمريكي
الأسبق بارك أوباما، وهو مُؤسِّس ومدير المجلس الوطني الأمريكي (NIAC)،
وهو ما مكَّنه من الاطلاع على دهاليز وخفايا العلاقات الدولية.
وبحسب الطبعة العربية عام 2008م جاء الكتاب بعنوان: (حلف المصالح المشتركة:
التعاملات السرية بين
«إسرائيل»
وإيران والولايات المتحدة)، ويُوصَف الكتاب بأنه يفكّ ألغاز العلاقات المُعقَّدة
والغامضة غالبًا بين الكيان الصهيوني وإيران والولايات المتحدة، كما في مقدمة
الكتاب:
«تبقى
العلاقات
«الإسرائيلية»-الإيرانية
لغزًا غامضًا في نظر أغلب المحللين»[1].
ويكشف الكتاب بوثائقيته ما كان مُضلِّلًا أو مجهولًا لكثيرٍ من المراقبين
والراصدين، بقول المؤلف:
«إن
المقابلات التي أُجريت مع المسؤولين الإيرانيين على وجه الخصوص، كشفت بواطن الأمور،
واخترقت نواحيَ نادرًا ما كانت تُناقَش من قبل»[2].
وفي الوقت ذاته، يقول المؤلف عن الشعارات والأقوال دون الأفعال:
«ومن
دواعي السخرية؛ أنه عندما دعا القادة الإيرانيون إلى تدمير
«إسرائيل»
في ثمانينيات القرن الماضي، كانت
«إسرائيل»
واللوبي المُؤيِّد لها في واشنطن يحاولان التأثير في الولايات المتحدة، وحَمْلها
على عدم الالتفات إلى الخطاب الإيراني!! انتهجت إيران سياسة مزدوجة طوال هذه
الفترة؛ ففي الثمانينيات جعلت إيران من نفسها أكثر الداعمين الإقليميين مجاهرةً
بتأييد القضية الفلسطينية. لكن نادرًا ما اقترن هذا الكلام بالأفعال»[3].
ولهذا يَرِد التساؤل: هل هناك مصداقية إيرانية في عدائها للكيان الصهيوني ومزاعم
تحريرها للقدس وفلسطين؟
إن هذا الكتاب يرصد بأقسامه الثلاثة، العلاقات الثلاثية المُعقَّدة بين الكيان
الصهيوني وإيران، والولايات المتحدة منذ عام 1948م، كما يُغطِّي، لأول مرة، تفاصيل
التحالفات السرية، والمناورات السياسية غير الأخلاقية التي زعزعت الاستقرار في
المنطقة.
كما يُعالج مُؤلّف الكتاب
«تريتا
بارسي»
في كتابه، العلاقة الثلاثية بين كلٍّ مِن: الكيان الصهيوني وإيران وأمريكا، لينفذ
من خلالها إلى شرح آليات وطُرق الاتصال والتواصل التي يتم من خلالها تواصل حكومات
الدول الثلاث فيما بينها، لتصل إلى تحقيق مصالحها المشتركة، من خلال الصفقات
السريّة والتعاملات غير العلنية، على الرغم من الخطاب الإعلامي الاستهلاكي للعداء
الظاهر فيما بينها، وقد كُتِبَت كثير من القراءات عن هذا الكتاب لأهمية ما يكشفه من
حقائق.
إن
«بارسي»،
يكشف في كتابه عن طبيعة العلاقات والاتصالات التي تجري بين هذه البلدان خلف
الكواليس؛ حيث المصلحة لا تعكسها الشعارات والخطابات والسجالات الإعلامية الشعبوية
والمُوجَّهة. وعن وثائقية هذا الكتاب، فهو يستند إلى أكثر من 130 مقابلة مع مسؤولين
رسميين
«إسرائيليين»،
وإيرانيين وأمريكيين رفيعي المستوى، ومن ذوي صناعة القرار في بلدانهم. إضافةً إلى
العديد من الوثائق، والتحليلات والمعلومات المعتبرة والخاصة[4].
وقد وُصِفَ مُؤلّف الكتاب بالنجاح، من خلال مقابلاته ووثائقه في تفسير حقيقة هذا
النزاع الإعلامي، ضمن إطار اللُّعبة السياسية التي تتّبعها هذه الأطراف الثلاثة،
ويَعتقد المؤلف
«بارسي»،
أنّ العلاقة بين المثلث («الإسرائيلي»-
الإيراني- الأمريكي)، لا تقوم على العداوة المطلقة، وإنما تقوم على المصالح
والتنافس الإقليمي والجيو-إستراتيجي، وليس على الأيديولوجيا التي من الممكن أن
تُفرِّق، كما أن هذه العلاقات لا تقوم على مظاهر الخطابات والشعارات المعادية
الحماسية بين الأطراف الثلاثة كما هي شعارات (الموت لأمريكا) و(الموت لـ«إسرائيل»)[5]،
وهي الشعارات اللازمة التي يجتاح بها المشروع الإيراني دول الإسلام وشعوبه.
واستنادًا إلى معلومات الكتاب -وعلى عكس التفكير السائد-؛ فإن إيران ودولة الكيان
الصهيوني ليستا في صراع أيديولوجي، كما هو الحال مع الإسلام وأهله. وهو المُهِمّ
معرفته، بقَدْر ما هو نزاع إستراتيجي تنافسي على القوة بالمنطقة، واقتسام الهيمنة
والنفوذ، وهو قابل للحلّ في نظر
«بارسي»؛
لأن ما يَجْمعهما أكبر بكثير مما يُفرّقهما!
ويكشف الكتاب عن اجتماعات سرية كثيرة واتفاقيات عُقِدَت بين إيران و«إسرائيل»
في عواصم أوروبية؛ يقترح فيها الإيرانيون تحقيق المصالح المشتركة للبلدين من خلال
أعمال متكاملة، تُشكِّل صفقة كبيرة.
ووفقًا للمؤلف
«بارسي»
فإنّ هذه الاتفاقيات، وصلت إلى عرضٍ تفاوضي إيراني في عام 2003م عبر وسيط سويسري
يقوده السفير السويسري تيم غولديمان
Tim Guldimann،
نقله إلى وزارة الخارجية الأمريكية بعد تلقّيه من السفارة السويسرية، والمفاجأة
الكبرى التي كَتَبَ عنها المؤلف حول العرض الإيراني، كانت تتمثل باستعداد إيران
إعلان اعترافها بالكيان الصهيوني المحتل كدولة شرعية![6]
توصيف للكتاب وعلاقات تُعزّز:
يُعدُّ هذا الكتاب -في عالم السياسة والتحليل السياسي-، كتابًا يفكّ الكثير من
الألغاز، ويُبدِّد الشبهات حول العلاقات، ولهذا يصفه
«شلومو
بن عامي»
-وزير الخارجية الأسبق للكيان الصهيوني-، بقوله:
«شرح
رائع لواحد من أكثر الصراعات استعصاءً. في تحليل رصين ومبتكَر، يكشف المُؤلِّف عن
الطبيعة الحقيقية للتوترات التي يشهدها المثلث (الإيراني،
«الإسرائيلي»،
الأمريكي)؛ بوصفها تلاعبًا مِن قِبَل كافة الأطراف، وبخاصة
«الإسرائيليين»
والإيرانيين، بغرض إخفاء ما يُحتمل أن يكون نزاعًا إستراتيجيًّا قابلًا للحل. هذه
دراسة عن التلاعب بالأيديولوجية والدين في صراع الهيمنة على الشرق الأوسط»[7].
كما أن
«زبغنيو
بريجينسكي»
مستشار الأمن القومي السابق في عهد الرئيس الأمريكي
«جيمي
كارتر»،
وَصَفَ الكتاب بقوله:
«دراسة
ثاقبة، ومثيرة، وفي الوقت المناسب تمامًا تفكّ ألغاز كيفية تلاعب كلٍّ من إيران و«إسرائيل»
بسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بالرغم من أنّ العلاقات بين الطرفين
تراوحت بين التواطؤ السري والتصادم العلني»[8].
وقد وَصَفَ جون مير شايمر
John J.Mearsheime،
-أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو-، هذا الكتاب بقوله:
«ألَّف
«تريتا
بارسي»
كتابًا رائعًا، مليئًا بالكثير من التفاصيل المذهلة والتحليلات الدقيقة. يناقش
الكتاب العلاقات الإيرانية-«الإسرائيلية»
بطريقة محايدة وذكية، وهو الأمر الذي يندر حدوثه في الولايات المتحدة»[9].
ويُعلِّق الدكتور عبدالله النفيسي، -وهو الخبير بالشأن الإيراني
العقدي والسياسي-، بما يُعزِّز نتائج كتاب (حلف المصالح المشتركة: التعاملات السرية
بين
«إسرائيل»
وإيران والولايات المتحدة)، بما يؤكد على حقيقة التشابه الإيراني
«الإسرائيلي»،
وتقاطع المصالح بينهما في عداوة العرب والمسلمين، وعن العلاقة الإستراتيجية مع
الولايات المتحدة الأمريكية، بقوله:
«أنا
شخصيًّا -أيها الإخوة- مقتنع تمامًا، بأن هناك أوجه شَبَه بين إيران و«إسرائيل»،
وأقولها باعتباري رئيسًا سابقًا لقسم العلوم السياسية في جامعة الكويت، وخريج علوم
سياسية. أقول: بأن ثمة أوجه شَبه كبيرة وخطيرة بين إيران و«إسرائيل»،
ولذلك الآن هناك لوبي إيراني في واشنطن، يقول للكونجرس: لماذا تعاملون إيران على
أنها عدو إستراتيجي؟ من الممكن تحويل إيران إلى صديق إستراتيجي للولايات المتحدة!
وهذا ما بَشَّرَ به
«تريتا
بارسي»
في كتابه الشهير سابق الذِّكْر.
نعود إلى أوجه الشَّبه؛
«إسرائيل»
تشعر بأنها متفوقة عسكريًّا على جوارها العربي. وإيران اليوم تشعر أنها متفوقة
عسكريًّا على جيرانها العرب[10]،
وهذا التفوق العسكري للمشروعين في منطقة واحدة هو ما صنَع التنافس الإستراتيجي بين
المشروع الصهيوني الاستعماري والمشروع الإيراني التوسعي، بهاجس أمني واحد مشترك
(أقلية يهودية وأقلية شيعية إيرانية)، تخشى النفوذ والقوة للإسلام السُّنيّ،
فكلاهما مُعاديان للإرث العربي الإسلامي، فالكيان وإيران ليستا مُتحالفتين ضد
الإسلام والمسلمين، بقدر ما هو تقاطع وتخادم مصالح يُحقِّق للطرفين أهدافهما في
التفوق والهيمنة والسحق والإقصاء للطرف الثالث المسلم».
وحول بعض تفاصيل هذه العلاقة الإيرانية
«الإسرائيلية»،
كَتَبَ الباحث
«طاهر
صيام»
عن جذور العلاقات الإيرانية الغربية والكيان الصهيوني بصفة خاصة، ومما قال تحت
عنوان: (جانب من التعاملات مع
«إسرائيل»):
1- قبل وصول الخميني إلى السلطة بشهر تواصلت
«إسرائيل»
معه؛ لمعرفة نواياه تجاه الكيان واليهود، فكان جوابه مطمئنًا. وهذه الرسائل نقلتها
(روث بلاو
Ruth Blau)
زوجة الصهيوني )نيتوري كارتا
Neturei Karta)،
والتقت بالخميني عدة مرات، ثم لعبت دورًا في هجرة اليهود وبيع أسلحة لإيران منذ
1980م حتى قبل ما سُمِّي بـ«فضيحة
إيران كونترا».
2- في أبريل 1980م، باعت
«إسرائيل»
لإيران قِطَع غيار لمقاتلات إف4 وأسلحة، وبالمقابل سمح الخميني لليهود الإيرانيين
بالانتقال إلى
«إسرائيل».
وأكد أحمد حيدري تاجر الأسلحة الإيراني، أن 80% من أسلحة إيران بعد بداية الحرب
الإيرانية العراقية (١٩٨٠-١٩٨٨م) وصلت عن طريق
«إسرائيل»؛
حيث إن قوة الجيش العراقي آنذاك كانت مُهدِّدة للأمن
«الإسرائيلي»
وللقوة الإيرانية.
3- جاء تخوُّف الموساد من تفوُّق العراق على إيران، وأثره على الأمن القومي لليهود،
ولهذا قام (وليام كيسي
William J.Casey)
بعَقْد عدة اجتماعات بين مسؤولين إيرانيين ومسؤولين في الموساد، أحدهم كان (ناحوم
أدموني (Nahum
Admoni
في إسبانيا. وبناء على نتائج ذلك الاجتماع أصبح تسليح إيران أولوية لـ«إسرائيل».
4- أوعز الرئيس الأمريكي رونالد ريغان
Ronald Reagan
بإيصال الأسلحة في أول أيامه، مما فتح الباب لـ«إسرائيل»
لدعم إيران بشكل لا محدود، وتطورت العلاقات إلى فتح لجنة مشتركة بين أمريكا و«إسرائيل»،
للتباحث في نوعية وكمية الأسلحة المُرسَلة لإيران.
5- بلغت قيمة الصفقات بين
«إسرائيل»
وإيران عشرات المليارات حتى العام 1987م؛ حيث استطاعت
«إسرائيل»
تزويد إيران بأسلحة
«إسرائيلية»
وأمريكية وأوروبية وبرازيلية، وطائرات ميراج ومعامل للأسلحة الكيمياوية.
6- بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، تواصل بيع إيران ملايين براميل النفط لـ«إسرائيل».
وقد أبلغت
«إسرائيل»
أمريكا بذلك في نوفمبر 1989م[11].
حرب المنافسة بين مشروعين:
تأتي حرب الأيام الاثني عشر (13- 25 يونيو 2025م) بين الكيان الصهيوني وإيران؛
لتكشف أكثر عن طبيعة العلاقة بينهما، وأنها علاقة تخادُم في أحيانٍ كثيرة، قائمة
بين مشروعين متنافسين على مصالح المنطقة، وعن هذا كُتِبَتْ كثير من التقارير
والتحليلات والمقالات التي تُؤكّد تقاسم دماء المنطقة والنفوذ عليها، بتحالف خَفِيّ
دائم وعداوة ظاهرة مؤقتة، فالعلاقة قائمة على الندية والمنافسة على مصالح المنقطة،
بل إنّ الصواريخ الإيرانية على الكيان الصهيوني عبر حرب الاثني عشر يومًا لا
تُعبِّر عن خلاف في المبادئ، وإنما على حصص المصالح التي قد يَنتج عنها عداوة
مؤقتة، وقد تتكرر هذه العداوة، خاصةً لو تمادت إيران بعلاقاتها الصينية والروسية.
إن بوصلة العلاقات بين الكيان وإيران في سِلْمها وحربها، تُؤكِّد أن لعبة المصالح
السياسية والاقتصادية والتعاون السرِّي في بعض الفترات، هي ما يحكم المشهد بين
الطرفين، بل إنّ هذه الحرب الجارحة للكيان، تُؤكّد ما وصل إليه
«بارسي»
في كتابه؛ من أن العداوة أحيانًا تُعدُّ أداة ضغط خشنة للمفاوضات والتصالح الدائم
بين الطرفين، وهذا ما حرَّك هذه الحرب وأوقفها كذلك بعد 12 يومًا من بدايتها بوساطة
أمريكية! حيث التوازن الإقليمي بين الكيان الصهيوني وإيران حتميّ في حالة امتلاك
إيران القدرة النووية، ولهذا جاءت حرب الاثني عشر يومًا، والتي لا تُعدُّ رسالة
إنذار من الكيان إلى إيران فقط، بل لكل قوة عسكرية في المنطقة يمكن أن تُخِلّ بتفوق
الكيان، الذي يريد أن يكون شُرطي المنطقة بلا منافس أو منازع، فالجميع داخل معركة
التأديب هذه، وإن كان القصف على إيران وحدها لتجريدها من قوة المنافسة!
بل إن الكيان الصهيوني، ومِن ورائه أمريكا، يريدان بقاء إيران قوية، لكنْ إلى الحدّ
الذي يسمح بتهديد دول المنطقة ودول الخليج، ودفعها للتطبيع الشامل مع الكيان،
وتحقيق المصالح الأخرى، دون أن تكون القوة الإيرانية مُهدِّدة للكيان ذاته. وسواءٌ
كانت هذه الحرب داخلةً ضمن الحدود الفاصلة بين التخادم والتصادم، أو هي ثمرة له
ونتيجة حتمية لواقع التنافس؛ فقد كشفت هذه الحرب أكثر عن حقيقة العلاقات والدور
الأمريكي في ضبط إيقاعها.
وحول هذا كتبت أقلام كثيرة، تؤكد ما توصَّل إليه الباحث الأمريكي
«بارسي»،
من أن ثِمَةَ تفاهُمًا بين إيران والكيان؛ مرهون بالاتفاق على مصالح الطرفين في
المنطقة، وقد يختلفان أحيانًا، وعلى الأقل ليس هناك عداء أيديولوجي أو عداء مبادئ
يخدم قضية المقاومة الفلسطينية والأقصى بحسب أولويات المبادئ الشيعية الإثني عشرية.
ومن ذلك ما كتبه الدكتور محمد الكبيسي بعنوان (المشروع الثالث) بقوله:
«تأكَّد
في الأحداث الأخيرة، ما أكَّدناه مرارًا، أن الصراع في المنطقة إنما هو بين مشروعين
يتنافسان على كعكة المنطقة، وأن انتقال المشروعين من حالة التنسيق والتفاهم إلى
حالة التصادم، إنما كان بسبب رغبة المشروع الإيراني في كسر حاجز التفوق العسكري
المُطلَق للمشروع
«الإسرائيلي»،
بينما تُصِرّ
«إسرائيل»
على أن ينحصر دور إيران في تخريب المنطقة وتخريب هويتها وثقافتها فقط. وقد نَقلَتُ
قبل مدة حوارًا كان بيني وبين الخبير الدولي المعروف الأستاذ
«إدموند
غريب»
يؤكد أيضًا هذه الحقيقة، فالموضوع [الحرب بين إيران والكيان] لا علاقة له بغزة ولا
بالقدس ولا بكل الشعارات الترويجية والتضليلية الزائفة»[12].
ويؤكد على طبيعة العلاقة بين إيران والكيان، وأنها ليست عداوة دائمة أو إستراتيجية
مشتركة بينهما؛ ما كَتَبه الدكتور فضل مراد حول عدم العداء بين الطرفين، وأن
هدف إيران من الاستثمار الذكي للقضية الفلسطينية: تجميل الصورة الإيرانية المشوَّهة
بحرب الإسلام والمسلمين، وبغرض التوسُّع أكثر؛ ولتكون فلسطين مغسلة الخطايا
والجرائم والآثام الإيرانية، إضافةً إلى أن الدعم الإيراني القاصر فيه رسالة للغرب:
أن إيران ذات نفوذ إقليمي، وتحديدًا في القضية الفلسطينية؛ لاعتبار حضور إيران في
المشهد السياسي الإقليمي، وقد تحقَّق شيء كثير من هدفها الأول في تزييف الوعي
والتشويش على عقول فئة من مفكرين وعلماء وساسة[13]،
كما نجحت السياسة الإيرانية إلى حدٍّ مُعيَّن بهذه المناورة بالقضية الفلسطينية في
المفاوضات، حتى جاءت حرب (الاثني عشر يومًا)؛ لتُعيد التصالح على المصالح باستئناف
المفاوضات، وربما بمصالح أقل من السابق لإيران.
تنافس قذر:
من المهم معرفته، أن هذا التنافس غير الأخلاقي بين المشروعين دفعت الأُمَّة ثمنه
-ولا زالت-؛ فقد وقفت إيران طوال سَنَتَي الحرب تقريبًا على غزة، من بداية طوفان
الأقصى 7 أكتوبر 2023م، متفرجة أو مُراقِبَة للمشهد الفلسطيني، بل ربما مَنَعَت حزب
الله اللبناني من استخدام كل ترسانته العسكرية في مناصرة غزة، وبقيت غزة دون مناصرة
وتدخُّل أو أيّ دعم عسكري ظاهر، وربما كانت إيران متواطئة مثل غيرها من كثير من
الحكومات العربية والإسلامية والغربية؛ حيث أصبحت القضية الفلسطينية بأكملها ضحية
المناورة والمنافسة الإقليمية.
ومما غيَّر المشهد أن إيران حينما أرادت تحقيق مكتسبات في المنطقة، من خلال قوتها
النووية المأمولة في خططها؛ جاءت الضربات والانكسارات المتتالية على الأذرع
الإيرانية في لبنان واليمن 2024م، ثم على إيران ذاتها عام 2025م، التي تقوم عقيدتها
القتالية على أدواتها الخارجية.
وفي مجمل الضربات، لم يكن الهدف إسقاط هذه الأذرع، أو إنهاء إيران ذاتها؛ للحاجة
الماسَّة لها في معادلات المنطقة والابتزاز بها! لكنها تهدف إلى إضعافها وإعادة
تموضعها وتشكيل أهداف وجودها من جديد، ومن ذلك ألَّا تكون مُنافِسًا مُنازِعًا
للكيان الصهيوني لينفرد بالنفوذ والهيمنة، لا سيما مع حالات التطبيع العربية
المتنامية، وما فيها من مصالح
«إسرائيلية»
مأمولة، وأنْ لا تتوسَّع علاقاتها مع روسيا والصين فَتَقْوى بهما وتُقوِّيهما على
المعسكر الغربي.
والحقيقة: أن التحالف الإيراني-«الإسرائيلي»
السابق، سواء في حال بقائه أو تفككه، فإن المدخلات والمخرجات في الحالة الصهيونية
والشيعية الإثني عشرية، تُعدُّ لدى المحلِّل العقدي السياسي مواقف ثابتة لا تتغير
مع كلا المشروعين؛ ومن ذلك فإن المشروع
«الإسرائيلي»
يُعدُّ عدوانيًّا عنصريًّا توسعيًّا، فضلًا عن جانبه الإجرامي العقدي.
وكذلك الحال مع مخرجات إيران الإثني عشرية العقدية والتاريخية والسياسية العدوانية
المعاصرة، التي تؤكّد على أن طائفة الشيعة ديانة مختلفة عن الإسلام السُّنّي، بل
مُعادية يُعزِّزها واقع الخطط العدائية والممارسات العدوانية، كما حدث مع العراق
وسوريا ولبنان واليمن في ظل تفاهم ثلاثي (غربي،
«إسرائيلي»،
إيراني)، تحوَّل إلى نزاع تنافسي، والذي تطوَّر إلى صراع بين المشروعين
«الإسرائيلي»
العنصري والطائفي الشيعي ساحته منطقتنا المسماة الشرق الأوسط الجديد؛ حيث لا فروق
بينهما في الاحتلال والقتل والتبعية، وبالتنافس والصراع ينكشف المشهد وتكتمل
الصورة.
ومن (الخلاصات) التي تختصر كثيرًا من النقاشات والحوارات والجدالات حول ألغاز هذه
العلاقة ما كتبه أحد المُحلّلين
«الإسرائيليين»
عام 1986م، ومما قاله -بصريح العبارة- تحت عنوان (فضيحة):
«كلّ
من
«إسرائيل»
وإيران بحاجة إلى الآخر؛ لطالما كان الأمر على هذا النحو، وسيبقى الأمر على هذا
النحو»[14].
وقد أورد الباحث الفلسطيني والعضو في حركة حماس الدكتور صالح الرقب عن
(التعاون الإيراني الصهيوني) ثلاث عشرة وثيقة، تكشف عن أوجه التعاون بين ثورة
الخميني ودولة الكيان الصهيوني، سواءٌ تمَّت تسمية ذلك بالتحالف أو التعاون أو
التخادم.
وهذه الحقائق والوثائق سواءٌ كان الأخذ بقول
«بارسي»
عن التحالف، أم كان العمل بمضامين التحالف والتخادم! فكلّ هذا مما يُبدِّد أوهام
إمكانية الاعتماد على النُّصرة والنجدة الإيرانية للقضايا الإسلامية والعربية، وعلى
رأسها القضية الفلسطينية، لا سيما أن أَمْن دولة الكيان الصهيوني من الفلسطينيين
وغيرهم كان يتحقق عبر التعاون العسكري في الإجهاز على الجيش العراقي بالأيدي
الإيرانية والأمريكية، والدعم
«الإسرائيلي»!
ليكون فيما بعد العمل على إضعاف الدول والجيوش والشعوب المحيطة بدولة الكيان
«الإسرائيلي»!
وكفى أن وثائق
«بارسي»
والواقع السياسي، كلاهما يُبدِّد شكوك مزاعم عداوة المبادئ والأيديولوجية الإيرانية
للغرب عامة، ولأمريكا والكيان الصهيوني المحتل بصفة خاصة.
فهل نعي حقيقة هذه العلاقات ونراجع جذورها الفكرية، ونعي أن مستقبل الأمة مرهون فقط
بالمشاريع السُّنية التي بدأت تشقّ طريقها بثبات؟
[1] تريتا بارسي، حلف المصالح المشتركة: التعاملات السرية بين
«إسرائيل»
وإيران والولايات المتحدة، ترجمة أمين الأيوبي، ط1، بيروت: الدار العربية للعلوم
ناشرون، 1429هـ (2008م)، ص7.
[2] المرجع السابق، ص9.
[3] المرجع السابق، ص8.
[4] يُنْظَر قراءة عن الكتاب: مركز الخليج للدراسات الإيرانية، بعنوان: (التحالف
الغادر... تعاملات إيران السرية مع
«إسرائيل»
وأمريكا)، بتاريخ 10 فبراير 2022م، الرابط التالي:
https://alkhalej.net/p/8063204.
[5] يُنْظَر قراءة عن الكتاب: المرجع السابق.
[6] يُنظَر قراءة عن الكتاب: إميل أمين، بعنوان: (حلف المصالح المشتركة: التعاملات
السرية بين
«إسرائيل»
وإيران والولايات المتحدة)، صحيفة إيلاف الإلكترونية، بتاريخ 6 ديسمبر 2008م،
الرابط التالي:
https://elaph.com/Web/ElaphWriter/2008/12/388616.htm
[7] من تقريظات الكتاب المنشورة على الغلاف الخلفي للنسخة العربية،
«تريتا
بارسي»،
حلف المصالح المشتركة.
[8] من تقريظات الكتاب المنشورة على الغلاف الخلفي للنسخة العربية، المرجع السابق.
[9] من تقريظات الكتاب المنشورة على الغلاف الخلفي للنسخة العربية، المرجع السابق.
[10] عبدالله النفيسي، بعنوان:
«إيران
ليست دولة إسلامية... وهذا هو السبب»،
الراصد للدراسات والأبحاث، بتاريخ 7 أبريل 2024م، الرابط التالي:
https://youtu.be/dFCFgDSeW80?si=OOa4b6dNn0bYmifX.
[11] بتصرف يسير: طاهر صيام، بعنوان: (بذور علاقات الملالي بالغرب وخفايا إيرانية
بين عهدين 1950- 1989م)، مجلة رواء، العدد 29-30، بتاريخ 18 يناير 2025م، الرابط
التالي:
https://n9.cl/1vdfx.
وقد وثَّق الباحث صيام هذه العلاقة بمصادر متعددة. وانظر للمزيد عن هذه العلاقات
العسكرية: فاطمة الصمادي، (إيران وحماس)، ص77.
[12] محمد عياش الكبيسي، بعنون: (المشروع الثالث)، منصة إكس، بتاريخ 25 يونيو
2025م، الرابط التالي:
https://x.com/maiash10/status/1937621796838404308
[13] بتصرف: فضل عبدالله مراد، بعنوان: (في صراع الكبار يجب أن تكون كبيرًا)، منصة
إكس، بتاريخ 24 يونيو 2025م، الرابط التالي:
https://x.com/fadhlmurad/status/1937325258949759369
[14] تريتا بارسي، حلف المصالح المشتركة، ص161.