يستعرض المقال ملامح المشروع القرآني للعلامة محمد عبد الله دراز -رحمه الله-، والذي قام على الانشغال بالقرآن قراءةً وتدبراً، وتجديد النظر فيه وفق المعارف الحديثة، وإثبات إعجازه وربانية مصدره، ورد الشبهات عنه، وصولًا إلى تجديد رسالته ككتاب إنساني خالد.
العلامة محمد عبد الله دراز -رحمه الله- عَلَم من أعلام المدرسة القرآنية في العصر
الحديث، ارتبط مشروعه الفكري بالقرآن الكريم ارتباطًا وثيقًا؛ فمنه يبدأ، وإليه
ينتهي. وقد أثمر هذا الارتباط دراسات معمّقة في القرآن الكريم.
وفي هذا المقال، أحاول من خلال قراءة كتبه الأساسية استخراج ملامح مشروعه القرآني؛
لتكون نبراسًا هاديًا للباحثين في الدراسات القرآنية، ومحاولة جادّة للوقوف على
نتاجه. فهذه الملامح هي ما يمكن أن نُطلق عليه كليات هذا المشروع وأُسسه التي انطلق
منها الشيخ، وكان على دراية بها، وماثلة أمام عينيه من البداية.
وهذه الملامح الخمسة تُلخِّص هذا المشروع وتُقرِّبه للأذهان؛ وهي:
1-الانشغال بالقرآن الكريم قراءةً ودراسةً وتدبُّرًا
يرى الشيخ -رحمه الله- أنه لا بد للمسلم أن يشتغل بالقرآن قراءةً وتدبرًا، والنظر
في أوامره ونواهيه، ودراسة تفسيره، والتفكُّر في معانيه، والبحث في مقاصده وقضاياه
الكلية.
ويرى أنّ لكل مسلم نصيبًا من وراثة هذا الكتاب بحسب عِلْمه وسَعْيه، وأنّ خيار
وَراثيه هم الذين بهدايته يستمسكون، وعلى حراسته يقومون.
والشيخ منذ بدايته في الطلب وهو مشغول بالقرآن يأنس به، ويفزع إليه، يخلو بكتاب
الله، ويداوم على ختمه قراءةً كلّ أسبوع.
فهو هنا يُقدّم لنا دليلًا عمليًّا على أنه لا بد من حُسْن صحبة هذا الكتاب الخاتم
والمَعِين الذي لا ينضب؛ إذا أردنا أن نكون مِن وارثيه، وأن نلتقَّى عنه حقائقه
وأسراره؛ يقول الشيخ -رحمه الله-:
«ففي
القرآن جانب كبير من المعاني النقلية البحتة التي لا مجال فيها للذكاء والاستنباط،
ولا سبيل إلى عِلْمها لمن غاب عنها إلا بالدراسة والتلقّي والتعلُّم»[1].
وما كتاب
«النبأ
العظيم»
إلا ثمرة من ثمرات هذه الصُّحبة، وأثر من آثارها، وصفه الدكتور محمد رجب البيومي
-رحمه الله- بقوله:
«إننا
لا نُغالي إذا قلنا: إن المكتبة القرآنية لم تَرَ أهدى سبيلًا منه في سلامة النظر
ولطافة الاستشفاف وعمق التأمل»[2].
2-تجديد النظر في كتاب الله تعالى
انطلق الشيخ -رحمه الله- في بحوثه ودراساته حول القرآن الكريم من ضرورة تجديد النظر
وبيان الحقائق، واستخلاص الكليات والمقاصد؛ من خلال منهج متوازن خاطَب العقل
والوجدان في آنٍ واحدٍ، وحين ألَّف الشيخ كتابه المركزي في مشروعه هذا (أقصد كتابه
«النبأ
العظيم»)،
وصفه في عنوانه الفرعي بأنه نظرات جديدة في القرآن الكريم؛ فهو يرى أن القرآن معجزة
مستمرة، ولا بد أن يتجدَّد نظرنا فيه؛
«إذ
إنه بقَدْر ما تتطور معارفنا حول الطبيعة والنفس الإنسانية، وكلما اكتسبنا سببًا
جديدًا يحملنا على أن نرى الأشياء من زاوية مختلفة؛ فإن ذلك يدعونا إلى أن نضع
المشكلات حين ندرسها بما يتفق وهذا الجديد من واقع العلم، والمسألة القرآنية لا
ينبغي لها أن تخرج عن هذه القاعدة»[3].
ويقرر الشيخ بعدها أنه واجب على كلّ مؤمن متّصل بمعطيات العلم أن يقوم بالتقريب بين
جانبي روحه؛ معتقده وعِلمه. وأنه حين ينظر في النصوص المُنزّلة وحقائق العلم
الثابتة لا الفرضيات المُتوهَّمة أو النظريات العابثة أن يقوم بالتوفيق بين هاتين
الحقيقتين؛ إذ لا يَحِقّ لأحدهما أن تنكر الأخرى، بل على العكس من ذلك، عليها أن
تُؤكّدها وتشدّ من أَزْرها.
إن الشيخ هنا يؤكد على أن القرآن لا يعرف الثنائيات المتناقضة التي عانى منها
الغرب، بل يُقِرّ أن القرآن كتاب مفتوح على الزمان متجدّد أبدًا، لا يقف عند حدّ
يدعو للنظر والتأمل، وأنه لا يُخالف الحقائق العلمية بل يعاضدها ويقويها؛ مصداقًا
لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
والإسلام يدعو إلى الاجتهاد، وُيعظِّم قيمته، وما التجديد إلا اجتهاد في حقيقته،
واجتهاد في غايته.
3-إثبات إعجاز القرآن وإثبات ربانية مصدره
الهدف الأساسي في مشروع الشيخ -رحمه الله-، ونقطة الارتكاز فيه: إثبات إعجاز
القرآن، وأنه كلام الله تعالى، وقد أثبت الشيخ ذلك في بحوثٍ اتَّسمت بالجدة والمنهج
الموضوعي العقلاني الذي خاطَب فيه كل عقلٍ واعٍ وفطرة سليمة. وقد فعَل ذلك على
محاور عديدة؛ كان أولها إثبات أن أسلوب القرآن متميز ومتفرد عن غيره من الأساليب،
فيستحيل عقلًا أن يكون من كلام البشر.
ثم عمد بعد ذلك للبحث في لفظ القرآن ومعناه. وما وراء ذلك من البحوث كان هدفه بيان
أن القرآن بوضعه هذا يستحيل أيضًا أن يكون مِن فِعْل البشر، ثم أتَى بما يؤيّد
كلامه بحوادث من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن سيرة قومه معه بدلائل واضحات
على أن القرآن ليس كلامه، بل هو وحي أنزله الله عليه.
وهذا البحث وغيره فيما يمكن أن نسميه
«مصدرية
القرآن»
أتى الشيخ فيه بقضايا ودلائل عقلية وتاريخية لا تقبل الشك يقبلها كلّ مُنصِف،
ويزداد المؤمن بها إيمانًا، ويستيقن أن القرآن كتاب من عند الله. والناظر في كتاب
النبأ العظيم يجد مصداق هذا وأكثر، وكذا في كتاب
«المدخل
إلى القرآن الكريم»
الذي كتبه بالفرنسية لكي يكون طليعة ومقدمة لكتابه
«دستور
الأخلاق في القرآن».
4-ردّ الشبهات ودَحْض المفتريات
لا بد في سبيل هذا كله، ولمزيد البيان، أن يتناول الشيخ الشبهات والمفتريات التي
أُثيرت حول القرآن بالرد والتفنيد بأدلة عقلية ودلائل تاريخية، ويقرر أنّ للحقيقة
قوة غلّابة، وأن كل شبهة تُقام في وجه الحق الواضح سيُحيلها الحق حجة لنفسه يضمّها
إلى حُجَجه وبيناته.
وهو يدعو كلّ مَن يطلب الحق بإنصاف أن ينظر في القرآن من أيّ النواحي أحبّ، فإنه لن
يجد فيه إلا حقًّا واضحًا وهدايةً ربانيةً راشدةً وقوةً غالبةً، ثم تنقضي الأجيال
والأحقاب ولا ينقضي ما فيه من عجائب بل تنقضي الدنيا كلها ولمَّا يُحِط الناس
بتأويل كلّ ما فيه.
5-تجديد رسالة القرآن في العصر الحديث وأنه كتاب الإنسانية
كل ما تقدم كان خطوات مُوصّلة إلى الغاية الكبرى التي نذر الشيخ لها نفسه وعمره
وفِكره، فقد كان يحمل في ضميره رسالة هذا الدين.
ولقد كان الشيخ -رحمه الله- على دراية برسالته، ويعرف غايته والهدف الذي نذر له
نفسه؛ ألا وهو تجديد رسالة القرآن الكريم في العصر الحديث، وأنه كتاب الإنسانية
الخالد الذي فيه الشفاء لها من الأدواء التي تعصف بها؛ فهو يخلص إلى حقيقة أنّ
القرآن يقصد الإنسان حيث يكون، وإلى أيّ جنس ينتمي؛ لأنه يُوجّه نداءَه إلى العقل
والذوق السليم والشعور الإنساني النبيل.
ثم يقرّر أن القرآن دعوة عالمية تهدف إلى تطهير العادات، وتوضيح العقائد والتقريب
بينها، وإسقاط الحواجز العنصرية والقُطْرية، وإحلال قانون الحق والعدل محل قانون
القوة الغاشمة. ويرى أن القرآن يُسهم في المجهود الفكري العالمي، وأن مبادئه العليا
والسامية تُصْلِح ما أفسدته النظريات العابثة والقوة المُدمّرة التي تُفْسِد عصرنا
الحاضر.
وكانت الدراسة العظيمة التي قدَّمها الشيخ -رحمه الله- في سبيل ذلك هي كتابه الفذّ
«دستور
الأخلاق في القرآن»،
وهو دراسة علمية مقارنة للأخلاق في القرآن الكريم بشِقّيها النظري والعملي، والذي
أثبت فيه كمال الشريعة القرآنية، وأنها إنما جاءت لسعادة النفس الإنسانية، وأن
القرآن يدعو البشرية للتآخي والسلام وتشابك الأيدي؛ لما فيه خير بني الإنسان.
هذه -أخي الكريم- هي أبرز ملامح المشروع القرآني للعلامة دراز -رحمه الله-، ومنها
يتّضح أن هذا المشروع كان واضحًا للشيخ من البداية، وهو الذي دفعه يوم أن كان
شابًّا إلى الالتحاق بالدروس المسائية في مدينة الإسكندرية لتعلُّم اللغة الفرنسية،
ثم ما حدث بعد ذلك من سَعْيه للابتعاث إلى فرنسا، ودراسة امتدت اثني عشر عامًا،
تُوِّجَت برسالة ماجستير، كانت مدخلًا لكل عاقل يريد التعرف على القرآن الكريم، ثم
رسالة دكتوراه عن عِلْم الأخلاق في القرآن، أراد لها أن تكون دراسة عملية لبيان
كمال الشريعة القرآنية وربانية مصدرها.
وفي خضم كلّ هذا لم يَنْسَ الشيخ يومًا دَوْره الدعوي، ولا الإسلامي، ولا الوطني،
فقد كان غيورًا على دينه وأُمّته ووطنه؛ يقوم بواجبه في هذا كله على أكمل وجه.
كما كان الشيخ -رحمه الله- مثالًا واقعيًّا على أن وراثة القرآن لا تكون بمجرد
ترديد لفظه أو الاكتفاء بما قدَّم الأوائل دون إضافة جديدة.
لقد بذل الشيخ جهده، وقدَّم ما يبقى على الزمان شاهدًا له على حُسن ما قدَّم،
ولكننا مُطالَبون بالبناء على جهود الشيخ والإسهام في تحقيق رسالة القرآن، وتجديد
النظر فيه، والقيام بشريعته الخالدة.
[1] النبأ العظيم ص65.
[2] النهضة الإسلامية في سِيَر أعلامها المعاصرين، ج5.
[3] من مقدمة الشيخ لكتاب
«الظاهرة
القرآنية»
لمالك بن نبي، ص9.