• - الموافق2025/10/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
معارك  خلَّدها التاريخ الإسلامي

من أعظم المعارك الإسلامية ضد الصليبيين: حطين للأيوبي، والمنصورة وعين جالوت للمماليك، التي حررت الأراضي المقدسة واستعادت القدس وأنطاكية وعكا بعد قرنين من الاحتلال. تُثبت هذه البطولات أن الأمة حققت انتصارات حاسمة بقيادات حكيمة وحدّت الصفوف لاسترجاع حقوقها ا


  التاريخ الإسلامي زاخِر بالمعارك البارزة التي غيَّرت مجرى التاريخ؛ وستظل الأجيال الحالية والقادمة تروي، وتقصّ هذه البطولات التي تحتاج إلى مزيد من المجلدات والموسوعات لسرد أحداثها وآثارها؛ فقد ترك أجدادنا المسلمون آثارًا وتاريخًا شاهدًا على جهادهم لإعلاء راية الإسلام.

وإيمانًا بجهود هؤلاء الأبطال، وتكريمًا لهم، وثناءً على دورهم في كتابة التاريخ الإسلامي بأحرف من نور؛ يجب علينا أن نَذْكُر من آنٍ لآخر دَوْرهم؛ ليعلم الجميع أن لنا تاريخًا سيظل راسخًا في ذاكرتنا نفخر به، ونُذكِّر به الأجيال القادمة، ثم نستخرج من كل ذلك عِظات وعِبَرًا تُنير المستقبل أمامنا.

ومِن ضمن هذه المعارك الكبرى التي خلَّدها التاريخ الإسلامي: موقعة حطين، وعين جالوت، ومعركة المنصورة، في فترة العصور الوسطى؛ حيث تحالفت الدول الأوروبية في العصور الوسطى باسم «الحروب الصليبية»؛ بهدف الاستحواذ على الشرق ونَهْب ثرواته، واستطاعت الحملة الأولى عبور سهول الأناضول عام 490هـ/ 1097م، واحتلت أنطاكية بنفس العام، ثم توالت انتصاراتهم في غفلةٍ من الحكام العرب، ففي عام 492هـ/ 1099م احتلوا بيت المقدس، وقتلوا أهلها، وأخضع الصليبيون بقية المدن بفلسطين لسلطانهم.

ومع استمرار التشرذم والتنازع بين الحكام العرب استطاع الصليبيون السيطرة على أكثر سواحل الشام؛ فملكوا يافا وغيرها من القلاع والحصون، ثم أخذوا حيفا، واستولوا بعد ذلك على عكا عام 497هـ/ 1103م، ثم احتلوا مدن الشام، ومنها طرابلس وبيروت وصيدا عام 503هـ/ 1110م[1]، وبذلك اختفت فلسطين كأرض عربية، وبدأ الحكام العرب يشعروا بمدى الكارثة؛ فظهر نور الدين زنكي وجاهَد جهاد الأبطال، وتلاه القائد البطل الذي أدهشَ الغرب، وأصبح مادة ثرية لمؤرخي وكُتّاب الغرب في تلك الفترة، الرجل الذي أعاد للشعوب العربية عزّتها وكرامتها؛ ألا وهو القائد صلاح الدين الأيوبي، صاحب الصدى الأكبر بتلك الفترة كحاكم عربي مسلم ارتبط اسمه بموقعة حطين، بعد جمع شمل العرب ووحدة جيوشها تحت لواء جيشه من أجل هدف واحد؛ وهو استعادة الأراضي المحتلة وطرد الصليبيين.

معركة حطين وبيت المقدس

كان الطريق إلى فتح بيت المقدس مليئًا بالعثرات والمخاطر، ومن أجل تأكيد الوحدة بين المسلمين استطاع صلاح الدين في محرم سنة 579هـ/ 1183م أن يضمّ حلب لسلطانه، ثم اتّجه إلى دمشق، ومنها بدأ التمهيد لأعماله العسكرية ضد الصليبيين؛ فقد عاش صلاح الدين حياته مجاهدًا من أجل الأمة العربية، فدخل مع الصليبيين معارك عدة، فأخذ منهم الكرك، ثم كانت موقعة حطين في ربيع آخر عام 583هـ/ يونيو1187م في مواجهة جيوش الصليبيين في الشرق الإسلامي، والتي انتهت بالنصر، وهي واحدة من أهم المعارك في التاريخ الإسلامي.

وكان هذا النصر هو بارقة الأمل، والضوء الذي أضاء الطريق لانتصارات صلاح الدين المتتالية على الفرنجة؛ حيث توجَّه إلى عكا، ويافا، وبيروت، وجبيل، ثم عسقلان، وغزة، وانتصر عليهم، ثم فتح عكا، وبيت المقدس -حُلم كل عربي- في 27 رجب 583هـ/ 2 سبتمبر1187م.

وتظهر إنسانيته بتسامحه وتعامله مع أهالي بيت المقدس، ولم يبقَ للصليبيين بكل قوتهم، وجيوشهم إلا «صور»؛ فقد حرَّر صلاح الدين مدينة بيت المقدس من أيدي الصليبيين بعد أن حكموها قرابة مائة عام، كما حرَّر كثيرًا من مدن الشام، ومنها عكا.

ولكن كان لا يزال عند الصليبيين بعض القوة التي تمثَّلت في ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا عندما جمع قوى الصليبيين مرة أخرى بجيش جرار تحت قيادته؛ طمعًا في نَصْر يفخر به أمام ملوك أوروبا، وفي غفلةٍ من الجيش المسلمين استطاع ريتشارد أن يُحقّق نصرًا في موقعة أرسوف، وعلى إثر ذلك عُقِدَ صلح الرملة عام 588هـ/ 1192م بموافقة الطرفين، وبمقتضى هذا الصلح تُركت مدينة بيت المقدس في يد صلاح الدين، وتُرِكَ ساحل الشام من صور إلى يافا في أيدي الصليبيين، وكان نتيجة ذلك أن أصبحت عكا مركزًا سياسيًّا للصليبيين بدل بيت المقدس[2].

لقد كانت معركة حطين هي باقة الأمل التي من خلالها تم القضاء على الصليبيين ووقف تقدمهم بالمنطقة، وتُوِّج هذا النصر باسترداد مدينة بيت المقدس التي طال انتظارها؛ فكانت الحلم الذي أصبح حقيقة، وكانت الضربة التي هزَّت كيان المستعمر الصليبي بالمنطقة إلى الأبد؛ وهذا بفضل الله وعزته، وقيادة حكيمة، وسياسي بارع هو القائد صلاح الدين الأيوبي؛ وبعد ذلك تفتحت عيون القدس العربية للعلوم والمعارف لرفعة بني الإنسان ورُقيّهم؛ فكانت مجمعًا للمدارس ورمزًا لكل راغب في العلم والمعرفة، وأثبتت القدس العربية على مدى التاريخ أنها مدينة السلام لكل بني الإنسان.

معركة المنصورة

لقد ظل الوضع ساكنًا بين العرب وبين الصليبيين بعد صلح الرملة مائة سنة أخرى؛ أملاً في الاستيلاء على بيت المقدس، ولكن دون جدوى، وتغيَّر تفكير قادتهم؛ حيث شعر الصليبيون أن مفتاح بيت المقدس يكون من مصر قلب العروبة والإسلام، وكان ذلك من خلال أحداث الحملة الصليبية السابعة على مصر بقيادة لويس التاسع عام 646هـ/ 1248م، عندما جاء الفرنج دمياط ونهبوها، وقتلوا المسلمين، وكان الملك الصالح نجم الدين أيوب حاكم مصر على فراش المرض، بينما المماليك رجاله المقربون ونواة جيشة هم مَن يقودون المعركة، وقد وافته المنية والفرنج يزحفون نحو فارسكور؛ فتحالف أمراء المماليك على الجهاد، وفي محرم 648هـ/ أبريل1250م قاتلوا الفرنج قتال الأبطال وكسروهم، أما مَلِكهم لويس التاسع فوقع في الأَسْر ودفَع فدية تُقدَّر بمائتي ألف دينار[3].

وكان بلاء فرسان المماليك في معركة المنصورة هو بداية ظهورهم وبداية الطريق الذي أتاح لهم قوة وسلطة كانت بعيدة عن طموحهم وحتى معاصريهم في يومٍ ما. وبذلك ساعدت الظروف هؤلاء المماليك على اعتلاء عرش مصر، بعد سقوط الورثة الشرعيين للدولة الأيوبية أمامهم، وكان على أفراد طبقة المماليك عبء الدفاع عن البلاد وعن الأمة العربية ضد الأخطار الخارجية.

عين جالوت

كانت معركة عين جالوت أول اختبار حقيقي للمماليك؛ وقد تَوَّج الجيش المملوكي جهوده وثباته من أجل تحقيق النصر، وأوقف زحف التتار على الأمة العربية في واحدة من أهم المعارك الحربية في التاريخ الإسلامي -عين جالوت-، ولثبات قطز وشجاعة بيبرس انكسر عسكر التتار في 25رمضان 658هـ/ 4سبتمبر1260م، وتولَّى الظاهر بيبرس حُكم مصر بعد هذه المعركة، وكرَّس جهوده ضد الصليبيين؛ فحاربهم عشر سنوات، واستولى خلالها على صفد ويافا عام 666هـ/ 1268م، ثم على أنطاكية وغيرها من حصونهم المنيعة.

وظهَر بعد ذلك الملك المنصور سيف الدين قلاوون سلطان دولة سلاطين المماليك (678-689هـ/ 1279-1290م)، فكان عند حُسْن الظن به؛ حيث جرَّد عليهم الحملات الحربية، وأخذ منهم اللاذقية وطرابلس عام 688هـ/ 1289م، وذلك مع حروبه الكثيرة ضد المغول[4].

لقد غيَّرت هذه الموقعة التاريخ الإسلامي بالقضاء على جحافل التتار؛ نظرًا لأن مصر في ذاك الوقت كانت آخر القوى الإسلامية في المنطقة، وسقوطها يعني الخضوع لهذه الجيوش والجماعات البربرية، ولم يكن مُستبعَدًا أن تمتدّ أيديهم لبلاد الحرمين الشريفين قلب وعقل كلّ مسلم؛ فقد كان النصر من عند الله، ولم يخذلهم الله في دعائهم؛ فكان خير نصر حُفِظ به شرف وكرامة الأمة الإسلامية.

استعادة أنطاكية

في أثناء الحملات الصليبية على الشرق؛ وبالأخص الشام (سوريا)، استطاع «بوهيمند» تأسيس أول إمارة صليبية بأنطاكية، وحدث ذلك عن طريق عمليات الحصار الطويل، والذي كان يهدف إلى تجويع الحاميات العسكرية، فقد كانت هذه المدينة تحتل مكانة خاصة لدى الصليبيين؛ بسبب مناعة حصونها، وبسبب تحكُّمها في الطرق الواقعة شمال الشام، وربما يكون من المهم أن نشير إلى أن القوات الصليبية لم تتمكن من احتلال المدينة الحصينة في الحملة الأولى عام491ه/ 1098م بالقوة العسكرية، وإنما فتح أحد الخونة من حُرّاس أبوابها -بعد أن جنَّده بوهيمند- أبواب أحد أبراج المدينة للقوات الصليبية قبل فجر اقتحامها.

وكانت سياسة سلطان المماليك الظاهر بيبرس تجاه الصليبيين في فلسطين وبلاد الشام تقوم على محاولة الإفادة من منازعاتهم وخلافاتهم الداخلية؛ فكان يهادن بعض أمرائهم دون البعض الآخر؛ حتى تتوفر له حرية الحركة ضدهم جميعًا. في البداية ركّز بيبرس جهوده العسكرية ضد الصليبيين ومستوطناتهم وحصونهم على سواحل بلاد الشام الشمالية والجنوبية. وبعد مناورة كبيرة قامت بها جيوش هذا السلطان والقائد العسكري الفذّ، فوجئ الصليبيون بالقوات المصرية تفرض حصارها على مدينة أنطاكية الحصينة تعاونها الجيوش الشامية[5]؛ فقد استطاع الظاهر بيبرس تشتيت نظر الصليبيين، واستطاع جَمْع القوات المصرية والشامية على قلب رجل واحد من أجل تحرير البلاد العربية المحتلة.

على أيّ حال، تمكنت الجيوش الإسلامية، بقيادة السلطان الظاهر بيبرس، من اقتحام مدينة أنطاكية في شهر رمضان 666هـ/ 1286م، وفرَّت حاميتها إلى القلعة؛ حيث طلب الصليبيون الأمان من السلطان، واستولى المسلمون على المدينة التي ظلت رهن الأَسْر الصليبي منذ الحملة الصليبية الأولى؛ أي على مدى أكثر من مائة وخمسين عامًا.

وعلَّق المؤرخ قاسم عبده قاسم على هذا الفتح فقال: «يُعدّ هذا أعظم فتح حقَّقه المسلمون على حساب المستوطنات الصليبية منذ استرداد صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس عام 1187م؛ فقد نجحت دولة سلاطين المماليك في أول اختبار لجدارتها بدور القوة المدافعة عن العالم الإسلامي»[6].

كانت أنطاكية جزءًا من العالم الإسلامي لا نستطيع تجاهله أو نسيانه، وحتى إن تعرَّض المجتمع الإسلامي لبعض الانكسارات؛ فلا بد من وقتٍ لجمع الشتات والاستفاقة والوحدة لإعادة أيّ أرض مغتصبة مهما كانت التضحيات.

استعادة عكا

تأتي صعوبة استرداد عكا مرة أخرى من أيدي الصليبيين؛ نظرًا لأهميتها وموقعها عند الصليبيين، وبذلك يُعدّ القائد القادر على استعادة هذه المدينة بطلًا من أبطال الأمة الإسلامية. وتُعدّ مدينة عكا من المدن المهمة في التاريخ الإسلامي، وترجع أهميتها التاريخية إلى أنها كانت من المراكز البحرية الهامة لانطلاق الحملات البحرية الإسلامية جهة أوروبا، وسبَّبت هذه المدينة قلقًا كبيرًا لدول أوروبا بسبب هذه الحملات، وكانت دائمًا هدفًا مباشرًا للسيطرة عليها، وكان لحُكّامنا دور هام في الحفاظ عليها واستعادتها.

فقد كان السلطان الأشرف خليل ابن قلاوون -سلطان المماليك- فارسًا من طراز خاص؛ قدَّر الله له طريق الكفاح من أجل تطهير الأراضي العربية من بقايا الصليبيين بمجرد تولّيه سلطنة البلاد، كانت عينه على أهم معقل لهم -عكا- التي عجَز الكثير من الحكام العرب عن استردادها، ولكنَّه أعدَّ جيشًا ضخمًا، وفي عام 690هـ/ 1291م حاصَر هذه القلعة الحصينة، ورماها بالمدافع، وضيَّق عليها الخناق والحصار أربعين يومًا حتى سقطت في يده يوم الجمعة 15جمادى الآخر690هـ/ 15يونيو1291م، بينما سارع الصليبيون بالفرار في سفن حربية إلى قبرص، وكان فتح عكا ذا صدًى كبير على بقايا الصليبيين في سواحل الشام؛ فأدْخَل الرعب في قلوبهم؛ فهربوا من صيدا وبيروت، وتسلَّمها المماليك[7].

وبذلك استطاع السلطان الأشرف خليل أن يُحرِّر هذه المدينة بعد أن أخذها الصليبيون من صلاح الدين وقطع دابر الصليبيين من المشرق العربي.

بل يمكن أن نقول: لقد استطاع المماليك إنهاء الحروب الصليبية التي أزعجت الشرق الأدنى قرابة قرنين من الزمان، واستطاع الأشرف خليل بن قلاوون أن يُسطّر اسمه بحروف من نور باسترداده أهم معاقل الصليبيين -عكا-، بل وقطع أيّ أمل لهم في العودة للمشرق مرة أخرى.

وبشكلٍ عام، فإن الحديث عن المعارك الإسلامية الكبرى يحتاج إلى الكثير من المجلدات حتى نستطيع أن نسرد أحداثها وبيان آثارها؛ ولذا سنظل أُمَّة تباهي العالم أجمع بفضل معاركها لاسترداد حقها، والتي تدرس بعضها بالمعاهد والجامعات العالمية بأوروبا بفضل التخطيط والرؤية القيادية؛ وسنظل أمة تفخر بثقافتها على العالم أجمع.

 


 


[1] قاسم عبده قاسم، في تاريخ الأيوبيين والمماليك، (دار عين، القاهرة، 2001م)، ص8، ص15، هامش (1)؛ عادل عبد الحافظ حمزة، العلاقات السياسية بين الدولة الأيوبية والإمبراطورية الرومانية، (الهيئة، القاهرة، 2001م)، ص43- 44.

[2] ابن شداد، النوادر السلطانية، (دار المنار، القاهرة، 2000م)، ص49- 52 ،233؛ المقريزي، السلوك، (دار الكتب، القاهرة، 2009م)، ج1، ص92 وما بعدها؛ ابن إياس، بدائع الزهور، (دار الكتب، القاهرة، 2008م)، ج1ق1، ص248، 249؛ علي السيد، القدس في العصر المملوكي، (الفكر للدراسات، القاهرة، 1986م)، ص5- 6.

[3] المقريزي، المصدر السابق، ج1، ص346 - 356، الخطط، (مكتبة الآداب، القاهرة، 1996م)، ج1، ص357، 358؛ ابن إياس، بدائع الزهور، المصدر السابق، ج1، ص277-282.

[4] العيني، (دار الكتب، القاهرة، 2010م)، ج1، ص233، 234، 243، 244، 259 ،396-398، ج2، ص380383؛ ابن إياس، المصدر السابق، ج1ق1، ص306، 359، 362، 363.

[5] ابن العبري، تاريخ مختصر الدول، (دار الرائد، بيروت، 1983م)، ص341، 342؛ قاسم عبده قاسم، عصر سلاطين المماليك، (دار عين، القاهرة، 2007م)، ص103.

[6] قاسم عبده قاسم، المرجع السابق، ص104.

[7] العيني، المصدر السابق، ج3، ص39، 54-65؛ ابن تغري بردي، النجوم الزاهرة، (دار الكتب، 2005م)، ج8، ص5، 6؛ ابن إياس، المصدر السابق، ج1ق1، ص 368-370، 377.

أعلى