• - الموافق2025/10/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مسارات التحوُّل الأمريكي من 7 أكتوبر 2023م إلى أكتوبر 2025م

بعد صدمة السابع من أكتوبر، تخلت واشنطن عن استراتيجية الهيمنة والدعم المطلق لإسرائيل، وانتقلت عبر مراحل متعددة من التفويض العسكري والردع البحري إلى سياسة احتواء الضرر. أجبرتها التكاليف السياسية الداخلية والضغوط الدولية المتزايدة على تبني "دبلوماسية البقاء"


تمهيد

شكّل السابع من أكتوبر 2023م لحظة ارتباكٍ غير مسبوقة في دوائر صُنْع القرار الأمريكية؛ فالمؤسسات الأمنية والاستخبارية، التي كانت مطمئنة إلى أنّ الشرق الأوسط يعيش مرحلة «استقرارٍ تحت السيطرة»، وجدت نفسها فجأة أمام أزمةٍ تُعيد تعريف أولوياتها.

داخل البيت الأبيض، تحوَّل الملفّ (الفلسطيني-«الإسرائيلي») من بندٍ ثانوي في جدول الأمن القومي إلى محورٍ طارئ يفرض نفسه على كلّ اجتماع. وزارة الدفاع أعادت مراجعة انتشار قواتها في المنطقة، ووزارة الخارجية أعادت حسابات التوازن بين دعم «إسرائيل»، والحفاظ على العلاقات مع الحلفاء العرب.

كان واضحًا أن الطوفان كحَدَث لم يضرب «إسرائيل» وحدها، بل ضرب التصوُّر الأمريكي ذاته لماهية النظام الإقليمي الذي عملت واشنطن على هندسته منذ نهاية «الربيع العربي».

ومنذ ذلك اليوم، بدأت الإدارة الأمريكية بالتحرُّك وفق مراحل متعاقبة من التفاعل وإعادة التقدير، انتقلت خلالها من إدارة الأزمة بردّ الفعل إلى محاولة إعادة صياغة وجودها ودورها. منذ ذلك اليوم، مرت السياسة الأمريكية في مراحل وتحولات رئيسية، يرصدها المقال في خمسة مسارات يُعبِّر كل مسار منها عن انتقالٍ نَوْعي في سلوك واشنطن؛ من الصدمة إلى الانفعال، إلى التكيُّف، ثم إلى إعادة التموضع.

التحوّل الأول: من الثقة بالهدوء إلى صدمة الطوفان (أكتوبر - نوفمبر 2023م)

عشية السابع من أكتوبر 2023م كانت واشنطن تتصرّف كما لو أنّ الشرق الأوسط دخلَ إلى «نظام هدوءٍ تحت السيطرة». قبل ثمانية أيام فقط من «طوفان الأقصى»، أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان أن «المنطقة أكثر هدوءًا اليوم ممّا كانت عليه منذ عقدين، وهو تصريح عكس ثقةً مفرطةً في هندسة الاستقرار عبر التخلّي عن الانخراط المباشر والاكتفاء بإدارة المشهد عبر قواعد مُستقرة. الثقة في هندسة الهدوء المُدار وصل صداه إلى «جو بايدن» الذي تباهَى في رحلته الأولى إلى المنطقة عام 2022م بأنّه «أول رئيس أمريكي يزور الشرق الأوسط منذ 11 سبتمبر من دون قواتٍ منخرطة في مهمة قتالية».

بدا المشهد، في ذلك الوقت، وكأنّ الولايات المتحدة أنهت عهد الحروب المفتوحة، وبدأت عهد إدارة التوازنات عن بُعْد.

ثم جاء «طوفان الأقصى» ليس مجرد هجومٍ عسكري على «إسرائيل» فقط، بل كانت صدمة إستراتيجية كشفت حدود الرؤية الأمريكية للمنطقة. فكل ما بُنِيَ على فرضية أن الصراع يمكن احتواؤه بالمال والتطبيع انهار خلال ساعات. ومعها سقطت فكرة «الشرق الأوسط المستقر» التي استخدمتها واشنطن لتبرير سياسة الهدوء المُدار، وما ترتب عليه من انسحاب جزئي من المنطقة.

 التحوُّل الثاني: من الدعم المُطلَق لـ«إسرائيل» إلى التفويض الكامل

في الساعات الأولى بعد هجوم السابع من أكتوبر، تحرَّكت واشنطن وفق ما يشبه «خطة الطوارئ القديمة»: إعلان دعمٍ فوري وغير مشروط لـ«إسرائيل»، وإرسال حاملات طائرات إلى شرق المتوسط، وتفعيل غُرَف التنسيق الاستخباري المشتركة.

كان ردّ الفعل انعكاسًا مباشرًا للعقيدة الأمريكية الثابتة منذ عقود: (أمن «إسرائيل» جزء من الأمن القومي الأمريكي). لكنّ ما بدأ كموقف تضامني سرعان ما تحوّل إلى تفويضٍ سياسي وعسكري مفتوح.

خلال الأسبوع الأول، ألقى الرئيس جو بايدن خطابًا قال فيه: إنّ «الولايات المتحدة ستقف مع «إسرائيل» كما وقفت مع نفسها بعد 11 سبتمبر». هذا التشبيه لم يكن لغويًّا فقط، بل كان تأسيسيًّا؛ إذ منحه غطاءً سياسيًّا كاملًا للتحرك العسكري «الإسرائيلي» في غزة.

تبع ذلك إعلانُ البيت الأبيض عن حزمة مساعداتٍ عاجلة، وفتح مخازن الطوارئ الأمريكية في «إسرائيل» لتزويدها بالذخائر الموجَّهة بدقة. وفي الكونغرس، أُقِرَّتْ خُطَّة تمويل طارئة بلغت أكثر من 100 مليار دولار، خُصِّص منها نحو 14 مليارًا مباشرةً لدعم العمليات العسكرية «الإسرائيلية».

ومع تصاعد العمليات، بدأت تتضح ملامح التحوُّل: واشنطن لم تَعُد تكتفي بالدعم الدبلوماسي أو اللوجستي، بل أصبحت شريكًا في إدارة الحرب من خلف الستار. كبار المسؤولين الأمريكيين توافدوا إلى تل أبيب بوتيرة غير مسبوقة: بلينكن، أوستن، ثم بايدن نفسه في زيارة مفاجئة بعد عشرة أيام من الهجوم. كان الهدف المعلن هو «منع التصعيد»، لكنّ الرسالة الواقعية كانت «ضمان استمرار الحرب في الاتجاه المطلوب أمريكيًّا-إسرائيليًّا».

هذا الانخراط العميق وضَع الإدارة أمام معادلة معقّدة: الدعم المُطلق لـ«إسرائيل»، فيما أسمته حرب الوجود، مع مخاوف مُتصاعدة من أن يؤدي ذلك إلى مواجهةٍ إقليمية أوسع. لذلك، حاولت واشنطن رسم «حدود غير معلنة للتفويض» تتضمَّن تقديم دعم مفتوح، لكنْ ضمن سقفٍ يَحُول دون اندلاع مواجهةٍ مباشرة مع إيران أو «حزب الله».

بعبارة أخرى، كانت الولايات المتحدة تمنح «إسرائيل» الضوء الأخضر في غزة، وتُبْقِي الضوء الأصفر مشتعلًا في الجنوب اللبناني.

وهكذا، انتهت المرحلة الأولى لما بعد الطوفان، بتكريس واقعٍ جديد: «إسرائيل» تُقاتِل، وواشنطن تُموِّل وتُبرِّر وتضبط الإيقاع من قريب وبعيد.

هكذا بدا التحوّل الثاني في المسار الأمريكي من الدعم السياسي إلى التفويض الميداني.

التحوُّل الثالث: الردع المتنقّل: البحر كأداة للردع والسياسة

في ربيع 2024م، ومع تصاعد التوتر على الجبهة اللبنانية، اتخذت الولايات المتحدة قرارًا بإعادة تموضع قواتها البحرية في شرق البحر المتوسط. جاء هذا التحرُّك بعد تقديراتٍ استخباراتية أمريكية بأنّ احتمال توسّع الصراع من غزة إلى لبنان بات مرتفعًا، وأنّ أيّ مواجهة مفتوحة بين «حزب الله» و«إسرائيل» قد تُحْدِث خللًا إستراتيجيًّا في ميزان الردع الإقليمي، قد يدفع المنطقة إلى حربٍ شاملة لا ترغب واشنطن فيها في تلك المرحلة على الأقل.

في مايو 2024م، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) -فيما يمكن تعريفه بحسب بيان الوزارة «بالردع الوقائي»-، إرسال حاملتي الطائرات «جيرالد فورد» و«دوايت أيزنهاور» إلى شرق المتوسط، قبالة السواحل اللبنانية، مع مجموعة ضاربة من المدمرات والغواصات المُجهَّزة بصواريخ «توماهوك» في إجراءٍ لم يكن دوريًّا أو حتى تقليديًّا بقدر ما كان إرسال إشارات لـ«إسرائيل» بأنّ واشنطن ستتكفل بحماية الحدود الشمالية لـ«إسرائيل»، ومنع الانزلاق الميداني للمواجهة. وبنفس الوقت تهديدات من حديد ونار إلى «حزب الله» بأن أيّ توسُّع أو انخراط في عملية الطوفان سيستدعي ردًّا أمريكيًّا مُباشرًا.

ورغم أنّ التبرير الرسمي كان «حماية المصالح الأمريكية، وضمان حرية الملاحة»؛ إلا أن الرسالة كانت سياسية بالدرجة الأولى: واشنطن عادت إلى الشرق الأوسط بقوة السلاح لا عبر التصريحات أو إدارة التوازنات.

على المستوى السياسي، مثَّل هذا الانتشار البحري تراجعًا عمليًّا عن مبدأ «الانسحاب المُنَظَّم من الشرق الأوسط» الذي تبنّته إدارة بايدن في بدايتها. فبعد أن رأت واشنطن في المنطقة عبئًا إستراتيجيًّا لا ضرورة له، اكتشفت أنّ الانسحاب الكامل يعني ترك الساحة لروسيا وإيران وتركيا، وهو ما اعتبرته تهديدًا مباشرًا لتوازن القوى.

فيما اعتبرت واشنطن هذا الانتشار فرصة يجب استثمارها في إعادة نشر وتنشيط التنسيق مع حُلفائها الأوروبيين في إطار ما سُمِّي آنذاك حماية الملاحة بالشرق الأوسط. في حين أن المُسمَّى لا يُعَبِّر عن الحقيقية الإستراتيجية لهذا الانتشار الذي أعادَ تثبيت الحضور الأمريكي في الممرات الحيوية المُمتدة من قناة السويس حتى مضيق هرمز دون الحاجة إلى قوات برية أو حتى خوض معارك طويلة.

في المُحَصِّلة؛ شكَّل هذا المسار نقطة تحوُّل في سلوك واشنطن بعد السابع من أكتوبر 2023م: عودة إلى استخدام القوة كأداة سياسية، لكنْ بضوابط دقيقة وضمن معادلة «الردع المُنظَّم- بلا مواجهة»؛ فكان البحر هو المسرح الأنسب لهذه السياسة؛ مساحة رمزية وعمليّة لإظهار القوة من دون الغرق في حربٍ جديدة.

التحوّل الرابع: من إدارة التصعيد إلى احتواء الضرر

مع بداية النصف الثاني من عام 2024م، بدأت ملامح الإرهاق السياسي والعسكري تظهر بوضوح في السلوك الأمريكي تجاه اختراع حرب الوجود «الإسرائيلية».

 فبعد شهورٍ من الانخراط الميداني غير المباشر، والضغط المتواصل لحماية «إسرائيل» من التورّط الإقليمي؛ وجدت واشنطن نفسها أمام مشهدٍ أعقد مما تصوّرت: حرب مفتوحة في غزة بلا أُفق سياسي، جبهة لبنانية بحالة انفجار تصاعدي، وتزايد هجمات الفصائل المدعومة من إيران في العراق وسوريا واليمن.

تصاعدت القناعة داخل الإدارة بأن استمرار التصعيد لن يخدم المصالح الأمريكية؛ فالتكلفة السياسية في الداخل كانت ترتفع، والانتقادات من الحزب الديمقراطي والجناح التقدُّمي أصبح من الصعب إدارتها. بالتزامن مع ذلك بدأت دول أوروبية تُعبِّر عن ضيقها من الانحياز الأمريكي لـ«إسرائيل»، ومن انتشار مفردات ازدواجية المعايير. ومع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، أصبح من الضروري الانتقال من إدارة التصعيد إلى احتواء الضرر.

في تمام هذه المرحلة، تَغيَّر الخطاب الرسمي تدريجيًّا. فبينما كانت واشنطن تتحدث في نهاية 2023م عن «حق «إسرائيل» في القضاء على حماس»، بدأ مسؤولوها في منتصف 2024م يتحدثون عن «ضرورة خفض العنف»، و«توسيع الممرات الإنسانية».

هذا التحول اللغوي، وإن لم يحمل في جوهره تغييرًا حقيقيًّا في الوضع الميداني في غزة؛ إلا أنه لم يكن مجرد تعديلٍ في المفردات، بل يُعدّ انعكاسًا لتغيُّر في الرؤية الإستراتيجية: لم تعد المسألة «كيف تنتصر «إسرائيل»، بل «كيف تتوقف الحرب دون أن تبدو أمريكا خاسرة».

وفي مايو من العام ذاته، ظهر أول كبحٍ أمريكي لـ«إسرائيل» عندما لوَّح بايدن بتجميد تسليم القنابل الثقيلة إذا أقدمت «إسرائيل» على اقتحام رفح. كان ذلك تحوّلًا خافتًا، لكنّه جوهريّ في إستراتيجية كيف تنتهي الحرب دون أن تبدو أمريكا خاسرة؛ إذ وضَّح الموقف لأول مرة أن المساعدات العسكرية ليست مجانية وأنها أداة ضغطٍ على الحليف «الإسرائيلي».

تزامن هذا الموقف مع أكبر موجة احتجاجات سياسية في الولايات المتحدة منذ حرب العراق، كما وُصِفَت إعلاميًّا؛ حيث خرجت مظاهرات ضخمة في الجامعات والمدن الكبرى، من نيويورك إلى لوس أنجلوس، تطالب بوقف الدعم العسكري لـ«إسرائيل».

مع بدء الحملات الانتخابية للحزب الديمقراطي، بدأ مصطلح الإبادة الجماعية في غزة يطفو بقوة في الخطاب الشعبي والإعلامي، بعدما تبنَّته تقارير حقوقية ومنظمات دولية، منها «هيومن رايتس ووتش» و«العفو الدولية»، لوصف ما يحدث في القطاع.

حاول البيت الأبيض في البداية إنكار المصطلح عبر منابره الإعلامية، لكنّه سرعان ما أدرك أن الأزمة لم تَعُد قضية خارجية، بل أزمة رأي عام داخلي تُهدّد صورته الأخلاقية.

ومع مطلع 2025م، انفجرت أزمة جديدة: صور المجاعة في شمال غزة تصدّرت الشاشات، فيما كانت واشنطن تُنكر لأشهرٍ وجود أزمة إنسانية حقيقية. وعندما بدأت التقارير الأممية تتحدَّث عن مجاعةٍ وشيكة، وجدت الإدارة نفسها في مواجهة ضغطٍ داخلي ودولي غير مسبوق.

وهكذا أعلن البيت الأبيض عن إنشاء ممراتٍ إنسانية عبر مصر والأردن، إضافة إلى ميناء عائم في شاطئ غزة لتوزيع المساعدات. كانت تلك أول مرة منذ عقود تُنشئ فيها الولايات المتحدة مراكز إغاثة أمريكية في منطقةٍ تُشارك في قصفها وإبادتها؛ مشهدٌ يُلخِّص التناقض بين القوّة والضمير في السياسة الأمريكية.

عمليًّا، دفعت واشنطن باتجاه وقفٍ متدرّج لإطلاق النار عبر وساطاتٍ متعددة، كانت مصر وقطر في مركزها. ومع أن البيت الأبيض أبقى التزامه العسكري قائمًا، إلا أنّ قراراته بدأت تميل نحو ضبط الميدان أكثر من تغذيته. فقد استخدمت الإدارة نفوذها للحدّ من العمليات «الإسرائيلية» في جنوب غزة، وهو ما لم يحدث، وبدأت في الوقت نفسه حوارًا غير مباشر مع طهران عبر سلطنة عُمان لتجنُّب أيّ مواجهة إقليمية. وهو أيضًا لم يحدث.

ما أقصده أن هذا التحوّل الأمريكي الطفيف يُلخِّص إستراتيجية من «فتح النار» إلى «احتواء النار» عبر انخراطٍ مُتزايد ضمن آلية تنسيق المساعدات الإنسانية؛ عبر إستراتيجية تُمكِّن واشنطن من استعادة دورها كوسيطٍ ضروري بعد أن فقدت صورتها كوسيطٍ نزيه. والمقصد لم يكن إنسانيًّا، قطعًا كان سياسيًّا لإدارة التوازنات الداخلية والخارجية.

هكذا شكَّل التحوُّل الرابع لحظة واقعية أدركت فيها واشنطن أنّ الحفاظ على ما تبقّى من نفوذٍ في المنطقة أهمّ من السعي لتحقيق نَصْرٍ لا تمتلك أدواته، وإن تحقّق بمزيد من القوة فقد كسبت فيه واشنطن أعداء للأبد. وهكذا شكَّل هذا التحوُّل من المُبادرة إلى الدفاع السياسي.

التحوُّل الخامس: من سياسة الهيمنة إلى دبلوماسية البقاء

في خريف 2025م، بدت واشنطن وقد استنفدت معظم أدواتها في إدارة المشهد الشرق أوسطي. فبعد عامين من الحرب، والضغوط الشعبية والدولية التي ترتَّب عليها دخول «إسرائيل» إلى المحاكم الدولية باعتبارها دولة ترتكب إبادة جماعية؛ اكتشفت الإدارة الأمريكية أنّ مشروعها القائم على «الهيمنة عبر الردع» لم يعد قابلًا للاستمرار، وأنّ السيطرة على تفاعلات المنطقة بعد قصف الوفد الفلسطيني المُفاوض في قطر، باتت خارج حدود القدرة الأمريكية.

المسألة لم تعُد كيف تُوجِّه الأحداث، بل كيف تتفادى الانهيار الكامل للنظام الإقليمي الذي نصبت نفسها فيه كشرطي للعالم على مدى عقود.

في لحظة الإدراك هذه بدأت تتبلور داخل مجلس الأمن القومي الأمريكي مُقاربة جديدة في إطار نظرية «الإستراتيجية المرنة» تُلخِّص في جوهرها بالانتقال من منطق القوة المُقرّرة إلى منطق النفوذ المُنسّق. بمعنى: بدل أن تفرض واشنطن رؤيتها بوصاية الحديد والنار، تُقدِّم نفسها كـ«ضامن للتوازن» لا كـ«مُخترع النظام»، وهو تحوُّل لم يكن خيارًا بقدر ما كان استجابة اضطرارية أمام واقع انعكست تداعياته على العالم بأكمله.

وفي خضم هذا التحوّل، جاء الحدث الفاصل في خريف 2025م: إعلان الرئيس دونالد ترامب عن «خطة السلام من أجل الازدهار الدائم»؛ وهو الإعلان الذي مثَّل تتويجًا للمنحنى الجديد في السياسة الأمريكية.
الخطة التي جرى الكشف عنها من البيت الأبيض بدت كاستعادة رمزية للغة
«صفقة القرن»، لكنها هذه المرة أكثر براغماتية وأكثر غرورًا.

فقد نصّت على وقفٍ تدريجيٍّ لإطلاق النار في غزة، وتشكيل إدارةٍ مدنيةٍ انتقالية تحت إشرافٍ دولي تشارك فيه شخصياتٌ فلسطينية مستقلة بدعمٍ من مصر وقطر، على أن تتولى لجنةٌ دولية الإشراف على إعادة الإعمار، تُموَّل خليجيًّا وتُدار ماليًّا عبر البنك الدولي.

لم تكن «خطة السلام» في جوهرها مشروعًا للحلّ بقدر ما كانت تجسيدًا لدبلوماسية البقاء في أبهى تجلياتها؛ إذ أرادت واشنطن من خلالها أن تعود إلى الطاولة لا كقوةٍ مفروضةٍ على الجميع، بل كقوةٍ لا يمكن تقليص طموحاتها الإستراتيجية أو تجاوزها.

بيت القصيد

بين أكتوبر 2023م وأكتوبر 2025م يُشير تتبُّع المسار الأمريكي في «حرب الإبادة ودعم اليمين الإسرائيلي» إلى أنّ التحولات الخمسة التي يرصدها المقال في مسار السياسة الأمريكية؛ لم تكن تحرُّكات ظرفية طارئة بقدر ما هي انعكاس لتحوُّلات بنيوية في إدراك الولايات المتحدة لدورها المنوط بحدود قدرتها على توجيه دينامية الشرق الأوسط.

بدءًا من مرحلة الصدمة الأولى التي أسقطت فرضية «الهدوء المُدار» التي مثَّلت بداية تفكُّك النموذج القائم عن الإدارة والسيطرة عن بُعْد، تلتها مرحلة التفويض الكامل وفتح مخازن السلاح الإستراتيجية، التي عكست تجسيدًا مؤقتًا لمنطق القوة المُطلقة التقليدي، وصولًا إلى التحوّل الثالث، الذي شكَّل انسحابًا من سياسة الانخراط المُباشر إلى انتهاج سياسة «الردع بالرمز».

غير أنّ تصاعد الكُلفة السياسية الداخلية والعالمية -وخاصةً بعد دخول «إسرائيل» المحاكم الدولية-؛ دفعها إلى تبنّي نَهْج «احتواء الضرر» الذي شكَّل أساسًا في نقل أولوياتها من تحقيق نَصْر «إسرائيل» المُطلق إلى إدارة الانكشاف دون الانسحاب؛ ليترتب عليه حضور «دبلوماسية البقاء» في انعكاس طبيعي للإدراك الأمريكي بأن مرحلة انكشاف الهيمنة الأحادية بلغت حدّ الانهيار، وأنّ أولوية الحفاظ على النفوذ أصبحت مرهونة بقبول التعددية الإقليمية في الشرق الأوسط.

وبذلك يمكن القول: إنّ واشنطن انتقلت خلال هذه الفترة من موقع المُهندس للنظام الإقليمي إلى موقع المُشارك في إعادة تشكيله، في تحوُّلٍ يُعبِّر عن لحظة إعادة تموضعٍ قسري داخل نظامٍ عالمي يتغيّر من حولها بوتيرةٍ أسرع من قدرتها على فرضه أو احتوائه.

 

 

أعلى