دعوةٌ لاستحضار نعمة المسكن وشكر المنعِم عليها، بعمارة البيوت بالقرآن والطاعة وتنزيهها عن المعاصي، مقرونة بالرفق بالخلق وبالأخصّ المستأجرين إحياءً لروح الأخوّة والرحمة.
الحمد لله الرحمن الرحيم، الرزاق الكريم؛ قسم الأرزاق بين العباد، وسخر بعضهم لخدمة
بعض؛ ليصلح عيشهم، وتعمر أرضهم، ويبقى جنسهم؛ رحمة منه سبحانه بعباده، نحمده على ما
هدانا واجتبانا، ونشكره على ما أعطانا وأولانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ زهد في الدنيا فرضي منها بالقليل، وخير نساءه
بين الصبر والتسريح الجميل، فاخترنه على الدنيا وزينتها، صلى الله وسلم وبارك عليه
وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى
وأطيعوه، وراقبوه في عبادتكم وعملكم، وفي كسبكم وعيشكم، وفي سفركم وإقامتكم؛ فإن
الله تعالى رقيب عليكم، عليم بأفعالكم، محيط بكم، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ﴾ [البقرة: 235].
أيها الناس: حين تؤلف النعم وتعتاد
يضعف عند كثير من الناس استحضارها، ويقل فيهم شكر الله تعالى عليها، ولا يظنون
زوالها. فإذا فقدوها عرفوا قيمتها، وعلموا تقصيرهم في شكرها، فيندمون ويتلاومون
ولات حين مندم.
ومن النعم الدائمة المألوفة المعتادة:
نعمة البيوت والمساكن، سواء كانت بيوت الحاضرة المبنية في المدن والقرى، أم بيوت
البادية من الخيام وبيوت الشعر المنصوبة في الصحراء والبراري، وقد امتن الله تعالى
على العباد بهذين النوعين من البيوت؛ فقال تعالى ﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا
تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا
وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ [النحل: 80].
وحين اتخذت ثمود بيوتا في الجبال تنحتها ذكّرهم رسولهم عليه السلام بنعمة هذه
البيوت وهو يدعوهم إلى عبادة الله تعالى، ونُقل ذلك إلينا في القرآن الكريم الذي
نتعبد الله تعالى بتلاوته؛ لئلا نغفل عن نعمة البيوت، قال صالح عليه السلام يخاطب
قومه ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ
فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ
بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾
[الأعراف: 74]، وفي آية أخرى قال لهم ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا
فَارِهِينَ﴾ [الشعراء: 149]، أي: حاذقين في بنائها، ماهرين في تشييدها، متكبرين
بما أعطيتم من معرفة ومهارة؛ ولذا لم يشكروا نعم الله تعالى عليهم بما رزقهم من
قصورهم وبيوتهم؛ فحق عليهم العذاب ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ
الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ *
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ﴾ [الحجر: 80-83]. وأين قصور ثمود وبيوتهم من بيوت
الناس اليوم، ومن قصورهم المشيدة، وأين منها ناطحات السحاب التي هي أكبر من جبال
ثمود؛ فسبحان من علم الإنسان ما لم يعلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستحضر نعمة البيوت على الدوام، ويحمد الله تعالى
عليها إذا أراد النوم؛ كما في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى
الله عليه وسلم
«كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى
فِرَاشِهِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا، وَسَقَانَا،
وَكَفَانَا،
وَآوَانَا فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ، وَلَا مُؤْوِيَ»
رواه مسلم. وكم من أناس ليس لهم مأوى يؤوون إليه، ولا سكنا يسكنون فيه؛ فلا يتقون
الشمس ولا البرد، ولا يسترون من أعين الناس. وفي البلاد التي ابتليت بالحروب هدمت
بيوتهم وعماراتهم على رؤوسهم، فماتوا تحت أنقاضها، ومن كتب لهم بقية من عمر هاموا
على وجوههم مشردين؛ فلا مكان يأوون إليه، ولا بيوت تكنهم من الحر والقر، فلا يليق
بالمؤمن أن يغفل عن هذه النعمة العظيمة، وينبغي له أن يستحضرها على الدوام، وأن
يلهج لله تعالى بشكرها.
والبيوت الواسعة سعادة لأهلها؛ كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«ثَلَاثٌ
مِنَ
السَّعَادَةِ...الْمَرْأَةُ
تَرَاهَا تُعْجِبُكَ، وَتَغِيبُ فَتَأْمَنُهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِكَ،
وَالدَّابَّةُ تَكُونُ وَطِيَّةً فَتُلْحِقُكَ بِأَصْحَابِكَ، وَالدَّارُ تَكُونُ
وَاسِعَةً كَثِيرَةَ الْمَرَافِقِ» رواه
الحاكم وصححه.
وما بيوتنا في بيوت من سبقونا؟ ما بيوتنا في بيوت أجدادنا؟ وما فيها من أنواع المتع
والراحة واللذة.. كانت بيوتهم من الطين، وسقوفها من الخشب، فإذا تتابع المطر خافوا
سقوط منازلهم؛ فالماء يذيب الطين، وثمة سنة في نجد تسمى سنة الهدم سنة ست وسبعين
وثلاث مئة وألف، أي: قبل إحدى وسبعين سنة، تتابع المطر على مدن نجد وقراها طيلة
شهرين، فسقطت آلاف البيوت على رؤوس ساكنيها، ومن نجو من الهدم شردوا. ودونت هذه
السنة في التواريخ، وقرضت فيها القصائد من شعراء فقدوا فيها أحبتهم. وأما بيوت
اليوم في المدن العامرة وكذلك في القرى فأغلبها من الخرسانة القوية، ولا قوي أمام
أمر الله تعالى، لكنها أمتن مما سبق وأحفظ للناس بأمر الله تعالى، فأي نعمة نرفل
فيها؟!
وكانت إضاءتهم في بيوتهم السرج، تسرق أبصارهم ولا تضيء لهم كما ينبغي، خاصة من
يقرؤون ويكتبون عليها، فكم عانى العلماء منها. وكان أكثرهم لا يكتب إلا في النهار.
وأما الآن فأنواع الإضاءة وأشكالها تبهر الناظرين، ولا رائحة منها تؤذي، ويضيئها
الواحد ويطفئها وهو مضطجع من سعة الراحة.
ويقضون حاجتهم في الكنف، وهي منفصلة عن البيوت لئلا تؤذيهم برائحتها، ويصبون الماء
بالأباريق، ويغتسلون بها، ويسخنون الماء في الشتاء، والآن دورات المياه داخل الغرف،
ومهيأة بكل ما يحتاجه الواحد في قضاء حاجته وفي وضوئه واستحمامه، وهذه أمور دائمة
مع الإنسان؛ فراحته فيها راحة دائمة، كما أن المشقة فيها مشقة دائمة، فنحمد الله
تعالى على ما أعطانا.
وفي بيوتنا تكييف يقضي على وطأة الحر، ويحول البيوت لمن أراد إلى ثلاجات، وما كان
المتقدمون يملكون ذلك ولو كانوا ملوكا وخلفاء وسلاطين. وفي الشتاء أنواع المدافئ
تعرض في السواق، فلا يجد الواحد في بيته حرا ولا بردا، ويا لها من نعمة، ينام فيها
نوما هانئا.
ناهيكم عن سعة البيوت وما فيها من المرافق، وما هي مملوءة به من أنواع الأثاث
والأواني والأغطية والنمارق والثياب وغيرها، فهي بيوت مكتملة لراحة ساكنيها.
فنحمد الله تعالى على نعمائه، ونشكره على إحسانه، ونسأله المزيد من فضله.
وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى
آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ *
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 131-
132].
أيها المسلمون: شكر الله تعالى على نعمة
الاستقرار في البيوت والمساكن حتم لازم على كل مؤمن؛ لاستدامة النعم، وإقرارا بفضل
المنعم، ومن الشكر عمران البيوت بطاعة الله تعالى، وتطهيرها من المعاصي كالمعازف
ونحوها، ولا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة، قال ابن مَسْعُودٍ رضي الله عنه:
«إِنَّ
هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَأْخُذَ
مِنْهُ شَيْئًا فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ
أَصْغَرَ
الْبُيُوتِ
بَيْتٌ لَيْسَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل شَيْءٌ، كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ
الَّذِي لَا عَامِرَ لَهُ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لِيَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ أَنْ
يَسْمَعَ فِيهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُقْرَأُ فِيهِ».
والبيوت ستر لأصحابها، ولزومها من النعم، قال أبو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه:
«نِعْمَ
صَوْمَعَةُ
الرَّجُلِ
بَيْتُهُ، يَكُفُّ فِيهَا بَصَرَهُ وَلِسَانَهُ، وَإِيِّاكُمْ وَالسُّوقَ
فَإِنَّهَا تُلْغِي وَتُلْهِي» وقال
قَتَادَةُ رحمه الله تعالى:
«كَانَ الْمُؤْمِنُ لَا
يُرَى إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ: فِي مَسْجِدٍ يَعْمُرُهُ، أَوْ
بَيْتٍ
يَسْتُرُهُ،
أَوْ حَاجَةٍ لَا بَأْسَ بِهَا».
ومن رزقه الله تعالى مساكن يؤجرها فليرفق بمستأجريها، ولا يضارهم فيها بما يشق
عليهم؛ فيزيد عليهم كل عام، وفي الحديث:
«مَنْ
ضَارَّ
أَضَرَّ
اللَّهُ
بِهِ،
وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ»
رواه أبو داود. وينبغي لملاك العقار المؤجر أن يعاملوا الناس بالحسنى؛ فيرفقوا
بالضعيف، ويجبروا الكسير، ويصبروا على المتعثر، ويضعوا عن المعسر؛ فإن ذلك من تفريج
الكرب، وحري بمن فعل ذلك أن يوفقه الله تعالى، ويبارك في رزقه، ويفرج كربه؛
«وَمَنْ
فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً
فَرَّجَ
اللهُ
عَنْهُ
بِهَا
كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
رواه مسلم. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لأهل العفو والسماحة؛ فقال
صلى الله عليه وسلم:
«رَحِمَ اللهُ رَجُلًا
سَمْحًا
إِذَا
بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى»
رواه البخاري.
وينبغي أن تكون العلاقات بين الناس قائمة على الأخوّة والمحبة والرحمة، عملا بقول
الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، وقول النبي
ﷺ:
«الرَّاحِمُونَ
يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي
السَّمَاءِ» رواه أبو داود.
وصلوا وسلموا على نبيكم...