• - الموافق2025/06/13م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
صراخ عال وأفعال غائبة.. ترامب بين خطاب القوة وواقع التردد

هذا التباين بين التهديد المطلق والانفتاح المبالغ فيه، هو ما يمكن أن نصف به النهج الترامبي في عهدته الثانية، وهو الأمر الذي يضعف من مصداقية مؤسسة الرئاسة حيث يجعل من القرارات عرضة للتقلب، ويحول السياسة الأمريكية إلى مسرح تتغير فيه المواقف بسرعة


منذ عودته إلى البيت الأبيض، يواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انتهاج أسلوبه المألوف في السياسة الخارجية: إطلاق تهديدات نارية، ثم التراجع عنها أو الإحجام عن تنفيذها. خطابٌ عالِ النبرة، سريع الإيقاع، يشي بعزمٍ لا يتزعزع، لكنه سرعان ما يتحوّل إلى صدى خافتٍ خلف الأبواب الدبلوماسية المغلقة، هذا النمط المتكرر الذي اتسمت به مواقف ترامب تجاه خصوم الولايات المتحدة وحلفائها على السواء، لم يعد يثير الخوف أو الدهشة في الأوساط الدولية، بل تحوّل إلى مادة للسخرية أحيانًا، وللتشكيك في جدية السياسة الأمريكية أحيانًا أخرى. ومع تكراره في أكثر من ملف دولي، أصبح هذا السلوك مرآة صافية لنهج سياسي يرتكز على الصخب والوعيد، دونما أفعال حاسمة أو استراتيجيات متماسكة تترجم الأقوال إلى واقع مستدام.

خطاب ناري بلا تنفيذ

طوال ولايته الأولى ومنذ بداية ولايته الثانية، اتخذ دونالد ترامب من التصعيد اللفظي أداة رئيسية في تعامله مع خصوم الولايات المتحدة. كان يظهر في المؤتمرات الصحفية والتغريدات الصباحية وكأنه على وشك إطلاق العنان لحرب عالمية، لكنه في الواقع كثيرًا ما ينكفئ عند أول منعطف، أو يبدّل نبرته فجأة نحو المهادنة والدبلوماسية. كانت كوريا الشمالية أبرز الأمثلة على هذا النمط: ففي عام 2017، صعّد ترامب من لهجته تجاه بيونغ يانغ، مهددًا إيّاها بـ "النار والغضب" إذا ما استمرت في تجاربها النووية. بدا التصعيد غير مسبوق، وأوحت كلماته بأن العالم على شفير مواجهة كبرى. لكن المشهد لم يلبث أن تغيّر تمامًا، حين تحوّل هذا الغضب إلى لقاءات دافئة مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، حملت طابعًا احتفاليًا أكثر منها مفاوضات جادة، دون أن تُفضي إلى أي تقدم ملموس في مسألة نزع السلاح النووي.

المفارقة هنا ليست في التراجع بحد ذاته، بل في الطريقة الدراماتيكية التي يتحول بها الخطاب من حافة الحرب إلى مشاهد التقاط الصور وتبادل المجاملات، ما حدث فيما يخص ملف كوريا الشمالية لم يكن مجرد تحول في التكتيك، بل انقلاب في الرواية بأكملها، وكأن ترامب قد تبرأ من خطابه السابق دون أي تفسير مقنع.

 

صحيفة "واشنطن بوست" رصدت أكثر من 32 تهديداً قوبلت بتراجع أو تأجيل، وجميعها بقيت على الورق، بلا تنفيذ حقيقي، صحيفة "فايننشال تايمز" أطلقت على هذا الأسلوب اسم أسلوب تاكو "Taco" أو "Trump Always Chickens Out"، أي "ترامب دائماً يتراجع"،

يتكرر هذا النمط في ملفات أخرى، فحين تصاعد التوتر مع إيران، هدّد ترامب بمحو البلاد من الخارطة، ثم عاد ليؤكد استعداده للحوار "دون شروط مسبقة". وعندما بلغ التصعيد ذروته بعد اغتيال قاسم سليماني، بدا أن الرد الأمريكي سيأخذ منحى أكثر حسمًا، لكنه توقف عند حدٍ معين، وبدأت الإدارة تركز على "الردع الاستراتيجي" دون الدخول في مواجهة شاملة.

التصريحات العالية كانت تبث من البيت الأبيض، لكن الفعل السياسي ظل مترددًا، أشبه بظلٍ باهتٍ للتهديدات الجارفة التي سبقتها، السلوك الترامبي هنا لا ينطوي على تناقض فحسب، بل يعكس نمطًا متكررًا: خطاب صاخب يُستخدم كأداة ضغط نفسي، لكنه غالبًا ما يفتقر إلى نية التنفيذ أو خطة متكاملة. وهو ما يترك خصوم أمريكا أقل خوفًا وأكثر استعدادًا للمناورة، بعدما أدركوا أن التهديدات القادمة من واشنطن قد تكون مجرد دخان بلا نار. بهذا المعنى، يصبح الخطاب الترامبي فاقدًا لقيمته الردعية، بل ويُضعف من الهيبة التقليدية التي طالما ارتبطت بالرئاسة الأمريكية في إدارة الأزمات الكبرى.

في ضوء هذه الوقائع، يصعب فصل استراتيجية ترامب عن طبيعته الشخصية كـ "رجل صفقة" أكثر من كونه رجل دولة. فهو يرفع السقف إلى الحد الأقصى في البداية ليبدو صلبًا، لكنه يعود ليعرض التفاوض بطريقة استعراضية، وكأنها مشهد في برنامج واقعي، لا سياسة دولية. هذا التباين بين الانفعال الأولي والتراجع اللاحق، بين التهديد المطلق والانفتاح المبالغ فيه، يضعف من مصداقيته ويجعل قراراته الخارجية عرضة للتقلب، ويحول السياسة الأمريكية إلى مسرح تتغير فيه الحبكات بسرعة، بينما يبقى العالم متفرجًا مرتبكًا، لا يدري أين تنتهي الجملة وأين يبدأ الفعل.

التهديدات تفقد تأثيرها

من بات يعتمد أسلوب ترامب في التهديد كتكتيك سياسي، سرعان ما اكتشف الخصوم سواء دولاً أو كيانات دولية أن وراء الكلام القوي لا يقف فعل ملزم، صحيفة "واشنطن بوست" رصدت أكثر من 32 تهديداً قوبلت بتراجع أو تأجيل، وجميعها بقيت على الورق، بلا تنفيذ حقيقي، صحيفة "فايننشال تايمز" أطلقت على هذا الأسلوب اسم أسلوب تاكو "Taco" أو "Trump Always Chickens Out"، أي "ترامب دائماً يتراجع"، وقد لاحظنا ذلك عندما رفع سقف الرسوم الجمركية على معظم دول العالم، بلغت 145٪ على الصين، لكنها سرعان ما تم تعليقها لفترة من الزمن، الملاحظ أن الخصوم باتوا يدركون جيدًا أسلوب تاكو، وبالتالي باتوا يميزون بين اللعب الإعلامي والأفعال الواقعية، فأحياناً يستخدم ترامب التهديد لصنع أزمة قابلة للحل بمظهر الانتصار.

هذا التراجع لا يقلل من هيبة الرئاسة الأمريكية فحسب، بل يفتح الباب للتحدي والتجريب، فالدول مثل إيران وكوريا الشمالية بدأت تجرّب حدود واشنطن، وتكتشف أن التهديدات قد لا تُترجم، حتى مناورات إرسال الطائرات أو السفن تنتهي غالباً إلى تهدئة، الأمر ذاته يؤثر على الحلفاء داخل الناتو أو في الشرق الأوسط، حيث تراجع تجاوبهم مع السياسات الأمريكية، والملاحظ أن الاستمرار في هذا التناقض بين التصعيد والتهدئة، بين الصوت العالي وخلوّ الأفعال، أضعف تأثير التهديدات الأمريكية، وأرسى مناخاً يؤسس لفكرة أن الرئيس الأمريكي يتحدث ليظهر، وليس لتنفيذ قرارات حقيقية تؤثر على الساحة الدولية.

براغماتي في مواجهة الأزمات

عندما يرتفع التوتر الدولي إلى ذروته، يبرز التردد في نهج ترامب كعامل مقلق يزيد من تعقيد الأزمة ويعكس عدم وضوح اتجاه جدي، ففي الأزمة الأوكرانية مثلًا، بدا موقفه متأرجحًا بشكل أثار الشكوك حول مدى التزامه الحقيقي بحماية الحلفاء ومواجهة التهديدات الروسية. فمن جهة، حرص ترامب على الظهور بمظهر الصديق المتفهم لفلاديمير بوتين، متجاهلًا في مرات عديدة تحذيرات أجهزة الاستخبارات الأمريكية بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا وحتى تدخلات موسكو في الانتخابات الأمريكية نفسها، وقد ظهر هذا الميل بوضوح في تصريحاته المتكررة التي تعكس أحيانا تبريرًا للرواية الروسية فيما يخص الحرب على أوكرانيا. ومن جهة أخرى، حين تعلق الأمر بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لم يتعامل ترامب معه كشريك في معركة جيوسياسية ضد التوسع الروسي، بل استغل موقف أوكرانيا الحرج للضغط السياسي والاقتصادي، مثلما ربط المساعدات العسكرية لأوكرانيا بالحصول على جزء من معادنها النادرة، بهذا السلوك المتأرجح بدا ترامب أقرب إلى متفرج براغماتي على نزاع دموي في قلب أوروبا، منه إلى زعيم لقوة عظمى يُفترض بها ـ كما يظن البعض ـ أن تضبط ميزان الأمن العالمي.

 

عهد ترامب عمّق هذا الانحياز إلى إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة، لا بوصفه موقفًا استراتيجيًا تقليديًا، بل كتحالف أيديولوجي تغذيه حسابات سياسية داخلية، فلا يمكن نسيان أن ترامب هو من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس

ومع أن ترامب يدّعي أن هدفه هو التسوية في أوكرانيا، فإن انكفائه عن تحقيق مكاسب براغماتية يعكس فشلًا في إدراك طبيعة التعقيدات الجيوسياسية للصراع، فضلًا عن عجزه عن لعب دور الوسيط الفعّال أو صانع التوازنات. فبدلًا من صياغة مبادرة واقعية تقرّ بمصالح جميع الأطراف، اكتفى ترامب بإطلاق تصريحات فضفاضة عن ضرورة السلام دون أن يطرح رؤية واضحة أو خطة قابلة للتطبيق، وبرغم تأكيده المتكرر على أنه يستطيع "إنهاء الحرب في 24 ساعة"، فإن مواقفه السابقة تفتقر إلى أي مؤشرات ملموسة تدعم هذا الادعاء، بل إن تردده في دعم أوكرانيا بوضوح، واستخدامه العلاقة معها كورقة في صراعاته السياسية، جعلا من دعاوى التسوية أقرب إلى المزايدة الخطابية منها إلى المساعي الجدية.

ضجيج بدون فعل

في حرب غزة، لم يخرج ترامب عن نمطه المعتاد في إطلاق التصريحات النارية دون تبنّي خطوات عملية ملموسة. فعلى الرغم من تباهيه المتكرر بعلاقته القوية مع إسرائيل، ووعوده السابقة بأن الردع الأمريكي سيمنع التصعيد، فإن موقفه إزاء التصعيد الدموي في غزة بدا هشًّا ومفتقرًا لأي استراتيجية فعّالة. لم يقدّم ترامب مبادرة واضحة للتهدئة، ولم يسعَ لتفعيل أدوات ضغط حقيقية على الأطراف الفاعلة، بل اكتفى بتغريدات تدين ما وصفه بـ "الإرهاب" وتؤكد "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، بينما ظلّ صامتًا أمام المجازر المتكررة بحق الفلسطينيين والدمار الهائل الذي يشهده القطاع، وهكذا ظهر مجددًا كزعيم يلوّح بالقوة لكنه يتراجع حين تحين لحظة الفعل، مما ساهم في تعميق مأزق الدور الأمريكي في المنطقة، لا كطرف قادر على فرض الحلول، بل كمراقب متردد يُجيد رفع الصوت ويعجز عن ترجمته إلى تأثير حقيقي.

وإن كان الأمر فيما يخص إسرائيل مختلفًا بعض الشيء، لأن الولايات المتحدة تقف تقليديًا في صفها دون مواربة، ولا شك أن عهد ترامب عمّق هذا الانحياز إلى إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة، لا بوصفه موقفًا استراتيجيًا تقليديًا، بل كتحالف أيديولوجي تغذيه حسابات سياسية داخلية، فلا يمكن نسيان أن ترامب هو من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعترف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، واعتبر ذلك إنجازات تاريخية، وكانت تلك خطوات أحادية أغلقت أبواب التفاوض وعمّقت الانقسام. وفي حرب غزة، لم يكن التردد الذي أبداه ترامب نابعًا من حيرة سياسية، بل من ركون مريح إلى موقف منحاز سلفًا، يراه أنصاره التزامًا ثابتًا، ويراه خصومه تخليًا عن أي دور متوازن لأمريكا كوسيط.

لقد كشف نهج ترامب في السياسة الخارجية عن مفارقة لافتة: رئيس يرفع سقف الخطاب إلى أقصى حد، لكنه يفتقر إلى الإرادة السياسية لترجمة ذلك إلى أفعال. فبينما سعى لإظهار صورة الزعيم القوي الذي لا يتردد في مواجهة الخصوم، جاءت أفعاله ـ أو بالأحرى تراجعاته المتكررة ـ لتقوّض هذه الصورة وتُفرغ تهديداته من مضمونها. ومع تكرار هذا النمط، تآكلت هيبة الردع الأمريكي، وبدأ الحلفاء بالتشكيك في التزامات واشنطن، فيما بات الخصوم أكثر جرأة في اختبار حدودها. وفي عالم يموج بالأزمات والتحولات، لم يعد الخطاب المرتفع كافيًا لبناء النفوذ أو الدفاع عن المصالح. إن غياب الاتساق بين القول والفعل لا يُنتج إلا فراغًا استراتيجيا، وسوء تقديرٍ للمواقف، واضطرابًا في التحالفات. وهذا تمامًا ما خلّفه ترامب وراءه: سياسة خارجية بصوت عالٍ، ولكن بأثر منخفض، تلوّح بالقوة، لكنها كثيرًا ما تختار الانسحاب.

أعلى