• - الموافق2025/06/05م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عشرون عامًا من الحنين إلى الحج

لقد مرّت عشرون عاماً من عمري وأنا أنتظر أن يتحقق حلمي لأداء فريضة الحج، وانتظر بشوق يكوي الحشا تلك اللحظة التي أطأ فيها تراب مكة المكرمة، وأسير بين جنبات المسجد الحرام، وأقول لربي: "لبيك اللهم لبيك" وبالحج أتمّ الركن الخامس من أركان الإسلام.


ونحن نعيش الآن في خير أيام الدنيا، الليالي العشر التي أقسم الله بها، تذكّرت حِقبة تأريخيةً من حياتي ولازلتُ أعيشها حتى الآن، حيثُ مرّت عشرون سنة من الانتظار وكأنها عشرون قرناً من الشوق لأداء فريضة الحج التي لم تتحقق، بل عشرون خريفاً من البكاء الصامت والأنين الخافت، والتنهيدة التي ما برحت تملأ صدري منذ أن ودّعت الحجاج عام 2005 في بغداد وقد نويت الحج منذ تلك اللحظة، ولمّا وفقني ربي لأداء مناسك العمرة في صيف العام 2012 وكانت المرّة الأولى في حياتي التي حططت فيها رحلي ببيت الله الحرام، وأنا أصوّب نظري إلى الكعبة المشرّفة وأقول في نفسي: "لعلّها لا تكون آخر العهد" والحمد لله اعتمرت مرات عدة، لكن الحج الذي ملأ كياني وروحي وخططت له سنين طوال لازلت انتظره حتى الساعة، وأرجو الله أن لا يخيب رجائي، وهو القادر على كل شيء.

ما زلت أذكر تلك اللحظة، في أول صلاة فجرٍ صليتها بالحرم كأنها الآن، حين تسلّلتْ دموعي وأنا أستعرض شريط حياتي واستغيث بالله من ذنوبي معلناً توبتي في رحاب بيته العتيق، بل واذكر قبلها وأنا أطوفُ بعد منتصف تلك الليلة الفريدة، وأردد: "اللهم إن كان هذا آخر عهدي ببيتك فاجعلني عندك من المقبولين"، وقلبي يرتجف ويكاد أن يُخلع من مكانه مهابة وجلالاً وتعظيماً لبيت الله الحرام.

لقد مرّت عشرون عاماً من عمري وأنا أنتظر أن يتحقق حلمي لأداء فريضة الحج، وانتظر بشوق يكوي الحشا تلك اللحظة التي أطأ فيها تراب مكة المكرمة، وأسير بين جنبات المسجد الحرام، وأقول لربي: "لبيك اللهم لبيك" وبالحج أتمّ الركن الخامس من أركان الإسلام.

وكل عام حين أرى جموع الحجاج تغادر لأداء الحج، أشعر كأن جزءًا من قلبي يُنتزع من مكانه ويُرسل معهم، ولمّا أراهم يلبّون وأنا أردد خلفهم الحسرة، وأراهم يطوفون وأنا أطوف بدمعي على وسادتي، أقول لنفسي: ما أثقل شعور العجز حين يكون الشوق في أقصاه، والروح تتوق إلى الله  جل وعلا -  لكن الجسد مربوط بأغلال الواقع وبالظروف وبالقرعة وبالموافقات، وبما لا يُقال!!

الجدير بالقول هو أن قصتي ليست بدعاً من القول، بل هي حكاية كثير من العراقيين ممن لم يُكتب لهم الحج، إما بسبب زحام الحجاج العراقيين أو بسبب غلق القرعة لسنوات عدة، ومن لم يوفق في القرعة ربما يدركه الموت وقد لا يوفق لأداء هذه الفريضة، أو ربما يكون محكوما بالواقع والظروف التي يعيشها، أو المرض التي ينهش جسده، وسط غياب الإيثار عند كثير من الحجاج الذين أدّوا المناسك لمرات عدة، فلكل منا وجعه الخاص وجرحه الذي ينزف في داخله ويكوي أحشاءه دون أن يُرى، ولأنني لم أحج فإنني أتألم كلما شاهدت صور الحجاج، كأنها طُبعت على قلبي لا على الشاشة.

وقد انتظرت عشرين عامًا ولازلت، كل عام أُمنّي النفس، وأقول: "لعله هذا العام يتحقق حلمي"، ثم تمرّ الأعوام كأنها شريط طويل من الإنتظار الممزوجة بالأمل، وليس من السهل أن تكتب عن هذا الحنين الذي يقطع نياط القلب، إذ أنه ليس شعورًا عابرًا بل عمرا كاملا من الانتظار.

ويكفي القارئ أن كل سطرٍ في هذا المقال كُتب من وجع وحنين ومن صبر ومكابدة، لكنه في الوقت ذاته كُتب أيضًا من يقين ومن ثقة أن الله لا ينسى من اشتاق إليه ويبتغي مرضاته ويطمع بجنته ودار مقامته.

اللهم افتح لنا من رحمتك بابًا، وارزقنا حجًّا قبل الممات، وزيارةً لا تُنسى، وسجدة هناك لا نقوم بعدها إلا وقد غُفرت ذنوبنا.

اللهم إنك تعلم كم بكيت، وكم رجوتُ، وكم دعوتُ، وكم أحببتُ بيتك، فأجبني يا أرحم الراحمين، واكتبني من الحجاج، ومن العابرين على أطهر أرض، ومن الواقفين في عرفات، ومن الطائفين حول الكعبة، ومن الراكعين في روضة حبيبك، اللهم بلّغني حجّ بيتك، وزيارة حبيبك، وارضَ عني، وارزقني ختامًا طيبًا يُرضيك.

 


أعلى