نحن بصدد أسوأ عقد ليس لما يحدث في العالم من صراع اقتصادي بل بسبب عملية إزاحة لنظام قديم وإبداله بنظام جديد قائم على منطق القوة، انتهى عصر العولمة والتجارة الحرة، والقطب الأوحد إلى عالم متعدد الأقطاب.
المصدر: الغارديان البريطانية
بقلم: غوردون براون
رئيس وزراء بريطانيا السابق من 2007 إلى 2010.
بعد أسبوع بدأ بأسوأ تقلبات مالية في التاريخ الحديث وانتهى بأخطر تصعيد حتى الآن
في الصراع الصيني-الأمريكي، حان الوقت لتمييز التحولات التكتونية عن الاهتزازات
العابرة. إذا لم يتغير شيء، فقد يُذكر عقد العشرينيات من هذا القرن كـ"عقد
الشيطان"، وهو المصطلح الذي استخدمه المؤرخون لوصف ثلاثينيات القرن الماضي.
وسيتميّز هذا العقد ليس فقط بسبعة ملايين وفاة بسبب كوفيد-19، وتزايد الفقر وعدم
المساواة، بل أيضاً بأوكرانيا الممزقة، وغزة المحترقة، والفظائع التي لم تلقَ تغطية
في إفريقيا وآسيا، وكلها تشهد على الإزاحة العنيفة لنظام عالمي قائم على القواعد،
واستبداله بآخر قائم على القوة.
في الواقع، كل ركيزة من ركائز النظام العالمي القديم تتعرض الآن للهجوم
—
ليس فقط التجارة الحرة، بل سيادة القانون، والأولوية التي أوليناها طويلاً لحقوق
الإنسان والديمقراطية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، والتعاون المتعدد الأطراف بين
الدول، بما في ذلك المسؤوليات الإنسانية والبيئية التي كنا نقبل بها كمواطنين
عالميين.
تغيّرات القوى ليست جديدة؛ إنها جوهر التاريخ. ففي غضون قرنين، صعدت وسقطت أربعة
أنظمة عالمية. الأول هو توازن القوى بعد هزيمة نابليون في أوائل القرن التاسع عشر،
والثاني هو نظام معاهدة فرساي بعد انهيار أربعة إمبراطوريات حاكمة بعد الحرب
العالمية الأولى
—
وكلاهما انتهى بكوارث حربية. ثم جاء النظام الذي تأسس بعد 1945 بقيادة الولايات
المتحدة والأمم المتحدة، وبعد عام 1990، مع تفكك الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، ظهر
ما وصفه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بـ"النظام العالمي الجديد".
لكن اليوم، ومع انتقال الثقل الاقتصادي شرقاً، وصعود النزعة التجارية الجديدة، لم
يعد ما يُعرف بـ"توافق واشنطن" يحظى بالدعم
—
لا في واشنطن نفسها ولا في غيرها. باتت العولمة تُرفض من قبل الملايين بوصفها فوضى
غير عادلة. ولم تعد التجارة المفتوحة هي الشعار، بل قيود التجارة التي تُقدَّم الآن
على أنها الطريق إلى الازدهار الوطني.
|
فنحن لا نعيش فقط عصراً أكثر حمائية، بل نتحرك من عالم أحادي القطب كانت
الولايات المتحدة فيه القوة المهيمنة الوحيدة، إلى عالم تتعدد فيه مراكز
اتخاذ القرار |
لقد استغل دونالد ترامب هذه التحولات العميقة، فاستثمر أولاً الفجوة الواسعة بين
وعود العولمة ونتائجها الحقيقية على حياة الناس اليومية، ليصبح أبرز مناهضي العولمة
في العالم.
ثم رأى كيف يمكن، عبر ضربات وسائل التواصل الاجتماعي المتواصلة على الهواتف، إحياء
نظرية "الرجل العظيم" في التاريخ، على غرار بوتين، شي، أردوغان وكيم جونغ أون،
الذين أثبتوا أن القادة الشعبويين السلطويين قادرون على فرض أجندتهم.
لكن عدم قابلية ترامب للتنبؤ تُمثّل خطراً أكبر. يبدو أن شعاره هو "دعوا الفوضى
تسود ولا تكبحوها". ورغم بقاء الأمل في عودة شيء من الحكم الطبيعي، فإن هذا لم يعد
أساساً عقلانياً لأي تخطيط مستقبلي. ومع قيام كل من الولايات المتحدة والصين بتسريع
وتيرة المواجهة، يبقى السؤال: هل نتجه نحو "عالم واحد بنظامين"؟ أم نحو فوضى تشبه
تاريخ معظم القرون الماضية؟ وهل لا يزال بالإمكان بناء نظام عالمي مستقر ومستدام؟
الواضح أن النظام العالمي الرابع لم يعد قابلاً للاستعادة.
فنحن لا نعيش فقط عصراً أكثر حمائية، بل نتحرك من عالم أحادي القطب كانت الولايات
المتحدة فيه القوة المهيمنة الوحيدة، إلى عالم تتعدد فيه مراكز اتخاذ القرار.
ومع تزايد الترابط العالمي، صرنا أكثر عرضة للأزمات
— من
الأوبئة والطوارئ المناخية إلى العدوى المالية. والأسوأ أن الدول باتت قادرة على
استخدام هذا الترابط كسلاح، عبر التحكم في نقاط الاختناق لتحقيق مصالحها.
لذلك، إذا أردنا نظاماً قائماً على القيم، علينا الاتفاق في لحظة ما على ميثاق
عالمي محدث لمستقبلنا المشترك، يستند إلى ميثاق الأطلسي لعام 1941 وميثاق الأمم
المتحدة لعام 1945، لكنه موجه نحو قرن مختلف تماماً.
قال ويليام بيفريدج في تلك الحقبة: "اللحظة الثورية في التاريخ العالمي تتطلب
ثورات، لا ترقيعات". وخلال الأيام الماضية، صدرت دعوات للتعاون المتعدد الأطراف من
قادة إسبانيا والبرازيل وجنوب إفريقيا، رؤساء المؤتمرات العالمية الثلاث هذا العام:
المؤتمر الرابع لتمويل التنمية، مؤتمر الأمم المتحدة الثلاثين للمناخ، ومجموعة
العشرين. وقد كتب رؤساء وزراء ماليزيا وكولومبيا وجنوب إفريقيا: "إما أن نعمل معاً
لفرض القانون الدولي، أو نخاطر بانهياره".
يجب أن تتعهد كل الدول التي تؤمن بالتعاون الدولي بتأسيس "تعددية جديدة"، تقدم
حلولاً عالمية لمشاكل عالمية لا يمكن للدول منفردة أو الاتفاقات الثنائية أن
تحلّها. وثانياً، كخطوة عملية، يجب أن يتعاون هذا التحالف في المجالات التي لا تملك
الدول وحدها إجابات لها
— الأمن
العالمي، المناخ، الصحة، الحاجات الإنسانية، وتدفق التجارة. كما ينبغي لها تحديث
المؤسسات الدولية القائمة.
وثالثاً، ينبغي أن نحاول بناء جسر إلى المشككين أمثال ترامب، عبر الاتفاق معه على
ضرورة المعاملة بالمثل وتقاسم الأعباء بين الدول، ونقترح طرقاً مبتكرة وعادلة
لتوفير الموارد اللازمة لترجمة هذه الالتزامات إلى أفعال. ومن خلال معالجة إخفاقات
عصر "فرط العولمة"، يمكننا السعي لعالم منفتح على التجارة، لكنه يشمل أيضاً من
تُركوا خلف الركب.
قبل مائتي عام، وفي لحظة مصيرية مشابهة، دعا زعيم بريطاني إلى "استدعاء عالم جديد
لإعادة التوازن إلى العالم القديم"، ودروس التاريخ تعلمنا أن النظام الجديد الذي
يدوم يجب أن يُبنى على صخرة المبادئ، لا على رمال المصالح الضيقة والمتقلبة.
في قلب ميثاق الأطلسي، الذي استوحاه روزفلت، كانت هناك مجموعة من المبادئ تحتفي
بالحريات الأساسية
—
ضد استخدام القوة والحمائية، ومع تقرير الشعوب لمصيرها، ومع العقود الاجتماعية
الوطنية التي تردم الهوة بين الأغنياء والفقراء. وحتى وإن لم يكن ترامب يتبنى أيّاً
من هذه الأهداف اليوم، لم نفقد كل شيء: إذ تُظهر بيانات التحالف الأمريكي للقيادة
العالمية أن 82٪ من الأمريكيين يعارضون العزلة، ويؤمنون بأن الولايات المتحدة أقوى
حين تكون منخرطة في العالم. وإذا لم يعد بمقدورها قيادة عالم أحادي القطب عبر
الإملاءات، فلا يزال بإمكانها قيادة عالم متعدد الأقطاب عبر الإقناع.
ورغم الجهود الشجاعة من كير ستارمر، لا يمكن لأيٍّ منا ضمان أن أوكرانيا
—
ومواردها
— لن
تُقسَّم، مما يشجع الطغاة في كل مكان. لكن بإمكاننا وضع بوصلة أخلاقية ترشدنا،
وتجهزنا للتحديات القادمة. ما زلنا في خطر تكرار انحدار ثلاثينيات القرن الماضي نحو
الفوضى، لكن يمكننا، بتعاون الدول، أن نخلق لحظة أربعينيات جديدة، ونبدأ المهمة
الجبارة لبناء النظام العالمي الخامس في التاريخ الحديث.