بصرف النظر عن دوافع الرئيس الأمريكي باحتلال غزة، فإنه يطرح شيئا بدون خطة واضحة للتطبيق، بل يستحيل تطبيقها على أرض الواقع، فرغم ما فعله الجيش الصهيوني من الجرائم بمساعدة عسكرية ومالية واستخباراتية أمريكية غير مسبوقة، لم يستطع السيطرة على غزة
في وسط حالة من الذهول التي انتابت الصحفيين داخل البيت الأبيض، حتى إنها فاجأت
رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتانياهو نفسه، والذي كان واقفا بجواره في
المؤتمر الصحفي، إذ بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب يلقي قنبلة من قنابله قائلا:
الولايات المتحدة سوف تتولى السيطرة على قطاع غزة وسنقوم بالعمل هناك أيضاً. سوف
نمتلكه. سنكون مسؤولين عن تفكيك كل القنابل غير المنفجرة والأسلحة الأخرى الخطرة في
هذا الموقع.
وأضاف ترامب: سنستولي على تلك القطعة، وسنطورها، وسنوجد الآلاف والآلاف من الوظائف،
وستكون شيئا يمكن للشرق الأوسط بأكمله أن يفخر به. وعندما سُئل عمن سيعيش هناك، قال
ترامب إنها قد تصبح موطنًا لشعوب العالم، وتوقع أن تصبح ريفييرا الشرق الأوسط.
وزاد ترامب: لقد درست هذا الأمر عن كثب على مدى أشهر عديدة، قائلا إنه سيزور غزة
ولكن دون أن يحدد الموعد.
لكن هنا سألت صحفية موجهة حديثها لترامب: أنت تتحدث الليلة عن استيلاء الولايات
المتحدة على أرض ذات سيادة. ما السلطة التي ستسمح لك بالقيام بذلك؟ هل تتحدث عن
احتلال دائم؟، ليرد ترامب: لم أتخذ هذا القرار باستخفاف.. كل من تحدثت معه يحب فكرة
أن تمتلك الولايات المتحدة هذه القطعة من الأرض.. نعم ملكية طويل الأجل ونطور
المنطقة ونوجد وظائف.
وأضاف ترامب لا خيار أمام سكان غزة سوى المغادرة، إنها منطقة دمار.. عليهم أن
يتوجهوا إلى منازل جميلة حيث يمكنهم أن يكونوا سعداء ولا يتعرضون لإطلاق النار
والقتل، وفور ذلك لن يرغبوا في العودة إلى غزة.
وقد أحدث كلام ترامب عن نيته السيطرة على غزة هزة عميقة في الدوائر السياسية
العالمية.
وتساءل الجميع هل يعني ترامب هذا الكلام على حقيقته؟ هل سيتقدم الجيش الأمريكي
ويحتل القطاع؟
هل ما قاله ترامب أمر مبيت بليل، ومشروع مخطط له، أم هو مجرد قنبلة، اعتاد ترامب
تفجيرها في قراراته دائما، لمفاجأة الجميع وإرباك الحسابات، ومن ثم تمهيد الطريق
لمكاسب أخرى؟
لمعرفة أبعاد تهديدات ترامب باحتلال أمريكا لغزة، يجب التفكير في سمات السلوك
السياسي والشخصي للرئيس الأمريكي، ومن ثم فهم دوافعه من هذا الطرح.
السلوك السياسي لترامب
تعتمد تلك المقاربة على أن السلوك السياسي لترامب سوف يعطي تفسيرا لتصريحاته حول
غزة.
وبدراسة فترة ترامب الرئاسية الأولى نجد أن هناك خمس سمات طغت على سلوكه السياسي،
وأثَّرت على قراراته التي اتخذها حينذاك: التقلب، وغير العقلانية أو المنطقية، وعدم
الترابط، والتصرفات غير المتسقة أو المنسجمة، وأخيرًا غير المتوقعة.
هذا المزيج من الصفات نجح في إعطاء الانطباع بأن هذا المجنون سيحكم أقوى دولة في
العالم لمدة أربع سنوات قادمة.
|
وفي هذا السياق فإن تصريحات ترامب باحتلال
أمريكا لغزة، يمكن تفسيرها على أنها محاولة من الرجل لرمي أقصى المطالب،
وهو يدرك جيدا استحالة تطبيقها على الواقع، ولكنه يخلخل أجندات أطراف
الصراع |
ولكن الرجل المجنون ليس حديثا عشوائيا، بل هو في النهاية يمثل نظرية في علم
العلاقات الدولية تُعرف بنظرية الرجل المجنون، وهي نظرية بدأ استخدامها في تحليل
السياسات في أوائل السبعينيات من القرن الماضي.
ففي تلك الحقبة، أصدر الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت ريتشارد نيكسون تعليمات لوزير
الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر، بإقناع زعماء الدول الشيوعية المعادية بأنه قد
يكون متقلبًا، ولا يمكن توقُّع تصرفاته، خاصةً عندما يكون تحت الضغط، وقد رأى
كيسنجر الذي عُرف بدهائه السياسي وخبرته في الواقعية السياسية إمكانية نجاح هذا
النهج الذي نفَّذه بسهولة، ومن هنا وُلِدَت نظرية المجنون الدبلوماسية.
نيكسون وقتها لم يكن مجنونا، ولكن كان هدفه من التركيز على طبيعته المتقلبة
المزعومة، هو إثارة الخوف بين خصومه الأجانب، مما يعني أن إغضابه أو الضغط عليه
يمكن أن يؤدي إلى ردة فعل غير عقلانية -حتى يمكن أن يرد عليهم بالسلاح النووي-،
وبالتالي إجبار خصومه على التحقق من سلوكهم.
وهذا ما يحاول ترامب تطبيقه الآن. فالرجل يحب أن يرى الآخرين في حيرة، لا يستطيعون
توقع تصرفاته وسلوكه السياسي، ويريد أن يرسّخ ذلك في أذهان السياسيين، ويعتبر هذا
التصرف نقطة قوة له.
وقالها صراحة مرة في أحد لقاءاته الصحفية أنا شخص مجنون. ففي مقابلة مع صحيفة وول
ستريت جورنال، وأثناء حديثه عن الصين، ذكر ترامب أنه سيفرض تعريفات جمركية ضخمة إذا
فكرت الصين في حصار تايوان، فسألته الصحيفة هل الخيار العسكري قائم إذا تجاهلت
الصين هذه العقوبات الاقتصادية؟ فاستبعد ترامب على الفور الخيار العسكري، وعلل ذلك
بأن الزعيم الصيني يحترمني، ويعلم أني مجنون.
هذه الجملة يمكن اعتبارها أحد أهم مفاتيح فهم شخصية ترامب.
وهناك مفتاح آخر في شخصية ترامب يتعلق بكونه رجل أعمال.
وعقلية التجار تلك تعتمد على شيئين: الأول، التحرك نحو ما يجلب المال، وأي شيء
يقدمه لا بد له من مقابل مادي وليس مقابلا سياسيا فقط.
أما الأمر الثاني: فهو إبرام الصفقات في أي مشكلة تواجهه، فهو رجل لا يقود حروبا،
بل يرغب بإبرام صفقات؛ صفقة في أوكرانيا، وصفقة في لبنان، وصفقة في غزة، وصفقة في
طهران، وعلى رأس صفقاته: صفقة القرن.
أهداف ترامب من تصريحاته تجاه غزة
وفي هذا السياق فإن تصريحات ترامب باحتلال
أمريكا لغزة، يمكن تفسيرها على أنها محاولة من الرجل لرمي أقصى المطالب، وهو يدرك
جيدا استحالة تطبيقها على الواقع، ولكنه يخلخل أجندات أطراف الصراع،
ويدفعهم إلى التنازل عن بعض أهدافهم لكي يتحقق وقف الحرب.
وهذا ما أكده بعد ذلك مستشار الأمن القومي الأمريكي مايك والتز، والذي قال منذ
أيام: إن مقترح ترامب بالسيطرة على غزة، يهدف إلى الضغط على الدول العربية المجاورة.
وتابع والتز في تصريح تلفزيوني، إن اقتراح ترامب بالسيطرة على غزة يهدف إلى الضغط
على الدول العربية المجاورة للتوصل إلى حل خاص بها.
وأضاف، أن هذا الضغط من شأنه أن يدفع المنطقة بأكملها إلى التوصل إلى حلول خاصة بها.
لأن ترامب في النهاية له أولويات مطلوب منه فيها التفكير والتحرك تجاهها، وعلى
رأسها مشاكله الداخلية المتعلقة بملف الهجرة، ثم مشكلته مع الصين ونفوذها التجاري،
فيهمه وقف هذا الصراع المتفجر حتى ولو لفترة محددة كي يتفرغ إلى قضاياه الأخطر.
وفي نفس الوقت فإنه يقوم بلعبة مزدوجة بهذه التصريحات عن احتلال غزة ليصرف الرأي
العام الأمريكي، عن معالجته لقضايا الهجرة الداخلية المتفجرة، والأهم محاولات ترامب
لإعادة برمجة الحياة السياسية الأمريكية.
وهذا ما ذهب إليه أيضا الكاتب الصهيوني أورييل داسكال في مقال بموقع والا العبري،
فكتب: إن الجميع يتحدث اليوم عن اقتراح دونالد ترامب بشأن الاستيلاء على غزة ونقل
1.8 مليون فلسطيني، لكن الحقيقة أن هذا هو بالضبط ما يريده ترامب وهو: تحويل
الأنظار عن ما يحدث في واشنطن.
ولكن ما هو الحدث الذي يريد ترامب إلهاء الشعب الأمريكي به؟
فترامب يلقي بمقترحات غير واقعية مثل شراء غرينلاند، واحتلال بنما، ونقل
الفلسطينيين إليها، لأنه يعلم أن وسائل الإعلام ستنشغل بهذه العناوين، بدلا من
التركيز على التغييرات الجذرية التي تحدث داخل الحكومة الفيدرالية الأمريكية.
وبينما تنشغل وسائل الإعلام برؤية ترامب لغزة، يفكك ترامب وبشكل منهجي وسريع
للحكومة وأجهزة الاستخبارات الأمريكية.
وعلى سبيل المثال، سيطر إيلون ماسك وفريقه على أنظمة البيانات المالية الأمريكية،
فألغوا بروتوكولات أمنية حساسة، وطردوا مسؤولين كبارا، وأغلقوا وكالة حكومية كاملة
بميزانية تساوي 0.25% فقط من ثروة ماسك الشخصية.
وفي المقابل، لجأت ست وكالات حكومية إلى المحاكم التي أصدرت مذكرات توقيف ضد ماسك
وترامب، لكن ذلك لم يوقف خطة الملياردير الطموح، الذي يواصل تفكيك المؤسسات
الفيدرالية، مدفوعا بأيديولوجيته التحررية الجديدة وسعيه لزيادة سلطته وثروته
بطريقة غير مسبوقة.
وإحدى أخطر التطورات تتمثل في الهجوم على وكالات الاستخبارات الأمريكية. فقد أرسلت
إدارة ترامب رسائل بريد إلكتروني إلى جميع موظفي مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة
المخابرات المركزية، تعرض عليهم التعويض مقابل الاستقالة، في خطوة تهدف إلى إضعاف
الأجهزة الأمنية، والتي كثيرا ما تعارض ترامب في سياساته.
ونقلت نيويورك تايمز عن مصادر داخلية أن ماسك يتمتع بمستوى من الاستقلالية لا يمكن
لأحد السيطرة عليه، وهو ما يجعله الرئيس الفعلي، بينما ترامب يوفر له الغطاء
السياسي.
فما يحدث هذه الأيام في الولايات المتحدة ليس مجرد صراع سياسي، بل هو إعادة تشكيل
جذرية للنظام السياسي الأمريكي.
خطة غير قابلة للتطبيق
وبصرف النظر عن دوافع الرئيس الأمريكي باحتلال غزة، فإنه يطرح شيئا بدون خطة واضحة
للتطبيق، بل يستحيل تطبيقها على أرض الواقع، فحماس تقبض
وتسيطر
على مفاصل القطاع، حتى بعد أكثر من خمسة عشرة شهرا من الإبادة وقتل القيادات وتدمير
كل شيء في غزة، وكل ما يفعله الجيش الصهيوني من الجرائم تلك بمساعدة عسكرية ومالية
واستخباراتية أمريكية غير مسبوقة، فكيف يأتي ترامب بعد كل ذلك ليقول إنه سيحول
القطاع إلى ريفيرا جديدة؟
وهذا ما أدركه الكاتب الصهيوني يوسي يهوشع ففي مقابلة مع قناة آي 24 الصهيونية قال:
قبل عام ظننت أنه سيكون هناك بديل لحماس في غزة، مثل السلطة أو جهة أخرى، لكن يتضح
أنه لا يمكن لأحد الدخول هناك، يقولون لنا اقضوا على حماس وبعد ذلك سندخل هناك، ومن
أجل تحقيق ذلك علينا الاستمرار في قتال حماس لعدة سنوات، وهذا أمر معقد جدا، ليس
هذا فحسب، السكان في غزة يدعمون حماس، بشكل تام، لا توجد هناك انتفاضة ضدهم، ليس
هناك تمرد ضدهم، لذا نحن في معضلة كبيرة.