هل تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب عن التهجير مجرد خيال متعجرف، ولا توجد فرصة لتحقيقه؟ أم هي مخططات مدروسة تمت صياغتها بليل، وسيجري تنفيذها بالفعل في الفترة القادمة؟ وبافتراض أن الأمر مخطط له من قبل، فما هي فرص نجاحه على أرض الواقع؟
في أثناء تلكؤ الكيان
الصهيوني بالانسحاب من جزء من محور نتساريم، لفتح شارع الرشيد في غزة أمام سيل تدفق
العائدين من أهل شمال غزة لبيوتهم، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإحدى قنابله،
حينما عبر للصحفيين وهو على متن الطائرة الرئاسية، إنه طلب من العاهل الأردني
استقبال المزيد من الفلسطينيين في مكالمة هاتفية، مضيفًا: "قلت له إنني أحب أن
تتولى المزيد، لأنني أنظر إلى قطاع غزة بأكمله الآن وأرى أنه في حالة من الفوضى،
إنها فوضى حقيقية".
وتابع ترامب إنه يود أن
تقوم كل من الأردن ومصر بإيواء الناس، وأنه سيتحدث مع الرئيس المصري، عبد الفتاح
السيسي، حول هذا الأمر، مضيفًا: "أنت تتحدث عن مليون ونصف المليون شخص، ونحن فقط
سنزيل هذا الأمر برمته"، مضيفًا أن هناك صراعات مستمرة منذ قرون في المنطقة.
واستطرد ترامب قائلاً: "لا
أعلم، يجب أن يحدث شيء ما، لكنه حرفيًا موقع غزة هدم في الوقت الحالي. لقد تم هدم
كل شيء تقريبًا والناس يموتون هناك، لذا أُفضِّل التعاون مع بعض الدول العربية،
وبناء مساكن في موقع مختلف، حيث أعتقد أنه ربما يمكنهم العيش بسلام من أجل
التغيير"، وكذلك أشار ترامب، إلى أن الإسكان المحتمل "قد يكون مؤقتًا" أو "قد يكون
طويل الأجل"..
وبعدها بيومين، عاد ترامب
ليردد تقريبًا نفس التصريحات، فقد نقل موقع أكسيوس الإخباري عن الرئيس الأميركي
ترامب أنه تحدث إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن نقل الفلسطينيين من غزة
إلى مصر، ونسب الموقع إلى ترامب قوله إنه يريد لفلسطينيي غزة أن يعيشوا في مكان خال
من العنف، وإن القطاع كان بمنزلة الجحيم على مدى سنوات عديدة.
|
وتوالت مخططات التهجير التي صدرت عن مراكز الدراسات الصهيوني، وبعضها صادر
عن وزراء في الحكومة، وجاءت تلك المشاريع بشكل تفصيلي وبحسابات دقيقة تتعلق
بالتكلفة والأماكن التي يتم الترحيل إليها في مصر، ولكن تلك المشروعات
اصطدمت حينها برفض مصري قاطع |
وأضاف ترامب -حسب المصدر
نفسه- أنه يرجح قبول الرئيس المصري وملك الأردن استقبال الفلسطينيين من غزة، وفي رد
على سؤال بشأن تأييده حل الدولتين، قال الرئيس الأمريكي إنه سيناقش ذلك مع رئيس
الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عندما يزور البيت الأبيض، حسب ما نقله أكسيوس.
دعونا نختبر دقة السيناريو
الأمريكي الوارد في تصريحات ترامب
جموح ترامب
وخططه
في فترة ولايته الأولى كان
هناك بالفعل مخطط تهجير للفلسطينيين في غزة قاده الرئيس ترامب كجزء من مشروع
الديانة الإبراهيمية، وهو مشروع أيديولوجي جرى تخطيطه من مستشار ترامب في ذلك الوقت
وزوج ابنته كوتشنر.
كان التهجير وقتها يقضي
بتفريغ أكثر سكان غزة، لإتاحة مشاريع تجارية متبادلة بين الكيان الصهيوني وعدد من
الدول العربية كجزء من التطبيع مع الكيان.
نجح ترامب في البداية، في
استقطاب الرئيس المصري لذلك المشروع، ولكن عاد الرئيس المصري لينفي صلته بالمشروع
ويتنصل منه لدوافع عديدة.
وفي عهد الرئيس الأمريكي
جو بايدن والذي خلف ترامب، أعاد الكيان الصهيوني طرح مشاريع التهجير بعد حرب طوفان
الأقصى، والذي أخذها الاحتلال ذريعة ليطبق مخططاته.
وتوالت مخططات التهجير التي صدرت عن مراكز الدراسات الصهيوني، وبعضها صادر عن وزراء
في الحكومة، وجاءت تلك المشاريع بشكل تفصيلي وبحسابات دقيقة تتعلق بالتكلفة
والأماكن التي يتم الترحيل إليها في مصر، ولكن تلك المشروعات اصطدمت حينها برفض
مصري قاطع، حتى أن
الجيش المصري حرك قواته في شبه جزيرة سيناء، وبنى المزيد من الحواجز والأسوار على
حدود مصر مع القطاع لمنع تطبيق هذا السيناريو، وتوالت الاجتماعات بين قيادتي مصر
والأردن للتعبير عن رفضهما القاطع لتهجير أهل غزة سواء لمصر أو الأردن، وإن اختلفت
بالطبع دوافع كل من البلدين لرفض هذا السيناريو.
ومع الرفض المصري الأردني
الرسمي، اضطرت الإدارة الأمريكية بزعامة بايدن إلى الإعلان عن عدم دعمها لتهجير
الفلسطينيين في غزة.
ثم جاء ترامب، وبعد نجاحه
في الانتخابات وقبل أن يستلم الرئاسة رسميا، بدأ يلمح إلى أن غزة له شواطئ جميلة،
مما أصاب الجميع بالحيرة عن مغزى هذا التصريح، ومنذ عدة أيام نقلت صحيفة "يسرائيل
هيوم" عن مصدر في الحكومة الصهيونية، قوله إنّ "تشجيع سكان غزة على الهجرة بحثه
وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
بعد فوزه مباشرة".
ثم جاءت تصريحاته الأخيرة،
والتي أعلن فيها أنه اتصل بملك الأردن وسوف يتصل بالرئيس المصري ثم عاد وقال إنه
اتصل به، وأنه ناقش معهما استقبال الدولتين لأهل غزة.
ترامب
والواقع على الأرض
بالرغم من أن هناك مسؤولين
إسرائيليين قد أخذوا الانطباع هو أن الأمريكيين جادون بشأن هذا الأمر، وليس مجرد
حديث نظري، وذلك بعد مقابلة المبعوث الأمريكي ويتكوف، الذي يزور تل أبيب حاليًا،
وإجرائه محادثات مع مسؤولين إسرائيليين حول سيناريوهات محتملة لنقل سكان من غزة،
وذلك بحسب قناة 13 العبرية.
إلا أن ردود أفعال البلدين
الذي ذكر ترامب أنه اتصل بحكامها جاءت على غير ما أراده ترامب أو على الأقل هطا ما
يبدو ظاهريًا.
فلم نعرف ما دار في
الاتصال الهاتفي بين ملك الأردن وترامب، ولكن خرج وزير الخارجية الأردني ليعلن رفض
فكرة استقبال الفلسطينيين بدعوة التهجير من غزة، وأكدت على موقفها الثابت من حل
الدولتين.
ولكن بحسب البي بي سي، فإن
الأنباء تتضارب بين أمريكا ومصر حول حقيقة اتصال الرئيس ترامب بنظيره المصري عبد
الفتاح السيسي، بخصوص ترحيل فلسطينيين من غزة إلى الأراضي المصرية.
فيما يخص الجانب المصري
ظلت البلبلة موجودة، بالرغم من صدور بيان للخارجية المصرية، يرفض تهجير أهل غزة
منها، ولكن ظل الهاجس عن ما دار بين ترامب والرئيس المصري.
ولكي يقضي الجانب المصري
على هذه البلبلة، انتهز السيسي مؤتمرا صحفيا مع الرئيس الكيني في ختام زيارته
للقاهرة ليصرح قائلا، "أن ما يتردد حول تهجير الفلسطينيين لا يمكن أبدا التساهل أو
السماح به، لتأثيره على الأمن القومي المصري", وأضاف لا يمكن أبدا التنازل عن ثوابت
الموقف المصري التاريخي للقضية الفلسطينية"، مؤكدا أن "الحل هو إقامة دولة فلسطينية
بحقوق تاريخية على حدود الرابع من يونيو لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ومن الناحية العملية لكي
يتم سيناريو تهجير أهل فلسطين من غزة، لابد من توافر عدة شروط، بعضها يمكن أن تكون
في مقدور ترامب، وبعضها الآخر خارج عن إرادته:
لكي يتم التهجير المراد
لابد من جعل إمكانية الحياة في غزة مستحيلة.
فيلزم من بقاء البنية
التحتية مهدمة سواء إمدادات المياه والكهرباء والشوارع والطرق المقفلة، وأيضا منع
تجديد إمكانيات المستشفيات لتظل عاجزة عن تقديم خدمات الصحة والعلاج للسكان، كذلك
التعنت في إدخال معدات إزالة الأنقاض والهدم بدعوى أن هذه المعدات يمكن استخدامها
في ترميم وتوسيع شبكات الأنفاق التي تدير منها المقاومة عملياتها.
ويلزمه أيضًا بقاء التعليم
خارج الخدمة، وهذا لا يستطيع الآباء والأمهات تحمله لأبنائهم.
والأهم من كل ذلك السكن
والبيوت، فالإحصائيات تقول إن من 80 إلى 90 % من بيوت الناس مهدمة كليًا أو جزئيًا.
كل تلك الأزمات يستطيع
ترامب التحكم فيها عن طريق منع أو إبطاء عملية إعادة الإعمار، وهو يدرك ذلك جيدا،
فقد نقل موقع أكسيوس عن مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط قوله: إن إعادة إعمار غزة قد
تستغرق ما بين 10 إلى 15 عاما.
ولكن الشرطين اللذين تقل
فيهما قدرة ترامب على التأثير فيهما:
أولا رفض البلدين المعنيين
بالتهجير لهذه السياسة لمصلحة متجذرة للبلدين: فالأردن يعاني من وجود أغلبية ذات
جذور فلسطينية في داخله، فإذا سمح بالتهجير فإنه سيعرض النظام الأردني لاحتمالات
الانهيار،
أما في مصر فيبدو أن اعتبارات الأمن القومي ببقاء غزة بعيدا عن السيطرة الصهيونية
هي أولوية للحكم المصري، فاستراتيجيا نقل الصراع مع الصهاينة إلى حدود غزة مع مصر
سيعرض الدولة إلى احتمالات الحرب، خاصة أن الجيش المصري لا يزال يلقن جنوده في
تدريباتهم أن العدو هو الكيان.
ثانيا ولكن العامل الأهم في إسقاط مشروع ترامب، هو الشعب الفلسطيني في غزة الرافض
للانتقال، والمتابع لمشهد عودة ما يقرب من نصف مليون فلسطيني من جنوب غزة إلى
الشمال المدمر والخالي من البنية التحتية من مياه صالحة للشرب والعلاج والكهرباء،
يدرك أن هؤلاء الناس لن يتركوا أرضهم ويفضلون الموت تحت أنقاضه على ترك أرضهم،
وأنهم كما صرح الكثيرون منهم لوسائل الإعلام في أثناء عودتهم أنهم أخطأوا لترك
الشمال إلى الجنوب ولو قامت حرب أخرى فإنهم لن يتركوا أرضهم مرة أخرى.