من التحكم بالمسار السياسي في لبنان، إلى الخروج خالي الوفاض هذا ما حدث لحزب الله في لبنان الذي كان يتحكم باختيار رئيس الجمهورية، وكذلك رئيس الوزراء، فما هي ردود فعل الحزب بعد أن خسر كلا المنصبين معا؟
ما جرى بين 9 و13 يناير
ليس أقل من انقلاب على حزب الله في لبنان، يتبين ذلك من طريقة انتخاب رئيس
الجمهورية وتسمية رئيس الحكومة، حين بدلّت كتل نيابية رأيها، واختارت ما طلبته قوى
عربية ودولية منها، بشأن الأول والثاني.
في التاريخ الأول، انتُخب
قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للجمهورية بأغلبية 99 صوتاً من أصل 128 نائباً. فبعد
أن قيل إنّ قائد الجيش مستبعد من المنافسة الرئاسية، لأن مواد الدستور تنص على عدم
جواز انتخاب موظف رسمي من الفئة الأولى، إلا بعد سنتين من استقالته أو تقاعده، وأن
المخرج الوحيد لانتخاب عون من دون طعن نيابي برئاسته، أن يحظى بثلثي أصوات البرلمان
(أي 86 صوتاً من بين 128 نائباً)، وكان الثنائي الشيعي مطمئناً بعض الشيء لعدم
توافر هذا الرقم للعماد عون، لا في الدورة الأولى من الانتخاب ولا في الدورة
الثانية إلا أنّ المفاجأة وقعت، حين اقترع النواب الشيعة لمصلحة عون في الدورة
الثانية من الانتخاب، بعدما ظهر للثنائي الشيعي أنّ قائد الجيش يحظى بالدعم الخارجي
المباشر، وقيل إنّ صفقة انعقدت خلال الدورتين بين عون وحزب الله وحركة أمل، تقضي
بانتخابه مقابل المجيء بنجيب ميقاتي رئيساً للحكومة، وحصول الشيعة على منصب وزير
المالية، وهذا المنصب كفيل بالتحكّم بالعمل الحكومي ككل، بسبب الحاجة إلى توقيعه في
كلّ المراسيم ذات العلاقة بالإنفاق على الإدارة وعلى المشاريع.
أما تسمية القاضي في محكمة
العدل الدولية نواف سلام في 13 يناير لتشكيل الحكومة الأولى في العهد الجديد، من
خلال استشارات نيابية ملزمة دعا إليها الرئيس عون، فقد كانت مفاجأة اللحظة الأخيرة؛
فكانت المعارضة المسيحية قد اختارت المهندس فؤاد مخزومي، فيما أعلن أحد نواب
التغيير إبراهيم منيمنة ترشحه لرئاسة الحكومة، وهو أحد الذين أيد حقوق الشواذ لدى
خوضه المعركة النيابية عام 2022. ولما تبين لمعارضي الثنائي الشيعي، أن أصواتهم
مشتتة وحظوظ ميقاتي أعلى، مع عدم وضوح الموقف العربي والدولي ليلة الاستشارات
النيابية، اتفق الجميع على الانسحاب لمصلحة القاضي الدولي نواف سلام الذي حصل على
85 صوتاً، فيما لم ينل نجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال منذ أكثر من سنتين سوى
9 أصوات، مع امتناع 34 نائباً عن تسمية أحد، ومنهم كتلة "الوفاء للمقاومة" التابعة
لحزب الله، وكتلة التنمية والتحرير التي يرأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري. وتضمّ
هاتان الكتلتان كلّ النواب الشيعة في البرلمان، تقريباً (26 نائباً من أصل الحصة
الشيعية وهي 27 نائباً)، مع نائبين مسيحي وسني في كتلة بري.
|
ومن المهامّ الرئيسية التي جاء بها عوان، تطبيق القرار الدولي رقم 1701،
الصادر عقب حرب يوليو/تموز عام 2006، وتطبيقه يعني نزع سلاح حزب الله، ليس
فقط جنوب نهر الليطاني في الجنوب، بل في كل لبنان. |
لقد فوجئ الثنائي الشيعي
بانقلاب بعض الكتل النيابية الأخرى المتحالفة معها، مثل كتلة "لبنان القوي" التابعة
للتيار الوطني الحر بقيادة جبران باسيل، والتي تناقص عدد أعضائها من 21 إلى 15
نائباً، بسبب الإقالة والاستقالة، وكذلك كتلة التوافق الوطني المكوّنة من خمس نواب
سنة موالين للحزب. حتى إنّ كتلة "الاعتدال الوطني" التي تضمّ نواباً سنة من الشمال،
والنائب عن الجماعة الإسلامية عماد الحوت، سمّوا نواف سلام، على الرغم من الضغوط
التي مارسها تيار المستقبل على النواب السنة في بعض الكتل النيابية لاختيار نجيب
ميقاتي. كما أن كتلة اللقاء الديمقراطي التي يرأسها تيمور جنبلاط نجل الزعيم الدرزي
وليد جنبلاط، كانت بصدد عدم تسمية أحد، فإذا بها تسمي سلام.
باختصار، انهارت الشبكة
النيابية المعقدة التي اعتمد عليها الثنائي الشيعي، للمجيء برئيس حكومة موالٍ له،
يتولى تقييد اندفاع الرئيس المنتخب جوزاف عون؛ إذ من المعلوم أنّ الدستور اللبناني
المعدّل عام 1990، بعد عقد اتفاق الطائف أواخر عام 1989، أناط السلطة التنفيذية
بمجلس الوزراء مجتمعاً، فلم يعد بمقدور رئيس الجمهورية تشكيل الحكومات، ولا
إقالتها، ولا حلّ البرلمان، بل احتفظ فقط بالرقابة المعنوية على المراسيم الحكومية
والقوانين الصادرة عن البرلمان، بإبداء الرأي وعدم التوقيع عليها. وكان حزب الله
خاصة يعوّل على هذه الآلية، لعرقلة ما تضمنه خطاب القَسَم لرئيس الجمهورية المنتخب
في 9 الشهر الجاري، من سياسات منتظرة، تنسف كل معالم النظام السياسي القديم، والتي
يهيمن فيها الشيعة من داخل النظام وخارجه، على القرار السياسي الداخلي، وعلى قرار
الحرب والسلم، سواء مع إسرائيل، أو تدخلاً في شؤون عربية أخرى، مثل العراق وسوريا
واليمن.
مرحلة جديدة وتوازنات
جديدة
المفاجأة الهائلة التي
أصابت المكوّن الشيعي، في انتخاب عون وتسمية سلام، لم تكن من فراغ. فخلال الحرب
الإسرائيلية على لبنان في الخريف المنصرم، طُرحت سيناريوهات سياسية متطابقة إلى
حدٍّ كبير مع ما جرى في الأيام الأخيرة، لإخراج حزب الله بشكل كامل من المعادلة
السياسية، ومنها انتخاب قائد الجيش جوزاف عون، الذي تشاورت معه دول عربية ودولية،
فاشترط حصوله على صلاحيات تشريعية استثنائية للمضي في مشروعه دون عوائق البرلمان،
لكن طلبه رُفض.
ومن المهامّ الرئيسية التي جاء بها عوان، تطبيق القرار الدولي رقم 1701، الصادر عقب
حرب يوليو/تموز عام 2006، وتطبيقه يعني نزع سلاح حزب الله، ليس فقط جنوب نهر
الليطاني في الجنوب، بل في كل لبنان.
وكان يُراد انتخابه خلال الحرب، وتحت الضغط الناري الإسرائيلي، ومنع نواب الحزب من
المشاركة في العملية الانتخابية، وأن لا يشارك الحزب في الحكومة الجديدة بعد ذلك.
لم يتمّ ذلك بالطبع، بعدما اعترض سياسيون لبنانيون على هذا المسار البالغ الخطورة
لأنه الطريق الأسرع إلى حرب أهلية في الداخل. إلا أنّ خطاب القَسَم الذي تلاه
الرئيس المنتخب يوم الخميس في 9 الشهر الجاري، لم يبتعد قيد أنملة عما جرى تداوله
خلال الحرب، فقد تعهّد باحتكار الدولة للسلاح، ما يعني منع حزب الله من التسلّح مرة
أخرى، كما سقوط معادلة: (شعب وجيش ومقاومة) التي سادت كلّ الحكومات التي تشكلت منذ
مطلع التسعينات، وحتى حكومة ميقاتي التي ستسلّم الأمانة إلى حكومة نواف سلام
قريباً.
ليس هذا فحسب، بل تعّهد
الرئيس المنتخب في خطابه، بهيكلة الإدارة العامة، والتي يسيطر عليها الأحزاب، ومنها
الثنائي الشيعي، على وجه خاص، ومكافحة الاختناقات في الاقتصاد بسبب الفساد
والمحسوبية والتهرب من الضرائب. وفي المجال الخارجي،
تعهّد عون، بضبط الحدود، والتصدّي لتهريب المخدرات، وتبييض الأموال، مع التعهّد
ببدء حوار جدّي وندّي مع الدولة السورية لمناقشة كافة العلاقات والملفات العالقة
لاسيما ملف المفقودين اللبنانيين في سوريا، والنازحين السوريين في لبنان.
لكن هل يقبل الثنائي
الشيعي بمضامين الانقلاب الذي يعتبره استمراراً للحرب الإسرائيلية، واستغلالاً
للضعف العسكري الذي اعترى حزب الله، بعد خسارة قسم كبير من قيادات الصف الأول
والثاني والثالث خلال الحرب، فضلاً عن خسارة كثير من مخزونه الصاروخي، وفقدان طريق
الإمداد البري، بسقوط نظام بشار الأسد، والحاجة الملحة إلى الأموال لإعادة تعمير
وترميم عشرات آلاف المباني في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية؟ وما هي
الإجراءات المضادة والممكنة للحدّ من اندفاع العهد الجديد؟ ثمة شعور مؤلم بالخديعة
السياسية، لدى قيادتي حزب الله وحركة أمل، وهو ما تجلّى خلال الاستشارات النيابية
الملزمة، حين حاولت الكتلتان الشيعيتان تأجيل تسمية مرشحهما لرئاسة الحكومة إلى
اليوم التالي، إلا أن الرئيس عون رفض التأجيل، فجرت مشاورات مكثفة بين الكتلتين،
وقررتا عدم تسمية أحد.
وقد يكون الردّ على
الانقلاب الأبيض بأحد هذه الأوجه: إما مقاطعة حكومة نواف سلام واللجوء إلى المعارضة
من داخل المؤسسات، وهذا هو الحدّ الأدنى، أو الاستقالة الجماعية من البرلمان،
فتنشغل البلاد بانتخابات نيابية جزئية، وفي هذا تأخير لحكومة نواف سلام، مع احتمال
خسارة مقاعد نيابية، أو اللجوء في التصعيد إلى الحدّ الأقصى، من خلال الشارع،
واستنفار عموم الشيعة باعتبار أن ما يحدث هو استهداف الطائفة ككل.