• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
خوفًا من إدانة إسرائيل.. أمريكا إذ تهدد الجنائية الدولية

أن يتم تهديد القضاء فهذه جريمة في حد ذاتها، هذا ما قامت به الولايات المتحدة إذ شرع الكونجرس الأمريكي بمناقشات حول معاقبة الجنائية الدولية إذ هي ذهبت إلى إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وأعضاء حكومته، هكذا تبدو حضارة الغرب وعدالته.


عندما أُنشِئَت المحكمة الجنائية الدولية إبان دخول قانون روما الأساسي حيز التنفيذ في 1 يوليو 2002م، لم يكن بمخيلة أحد حينها أن المحكمة ذات الولاية القضائية العالمية المختصة بمحاكمة المسؤولين عن أسوأ الجرائم؛ مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، ستكون في مرمى الاتهامات والتهديدات الانتقامية، فبالرغم من الانتقادات التي طالتها خلال سنوات عملها الماضية لم تشهد أن واجه قضاتها وموظفوها مثل هذه التهديدات من جهات لم تسمّها المحكمة في بيانها الذي أشارت فيه إلى "الهجوم على إرادة العدالة الدولية"، بَيْدَ أن هذه الجهات ليست بحاجة لذكرها علنًا، فهي معلومة للقاصي والداني، خاصةً وأن التهديدات قد ظهرت بمجرد التنويه عن قرب إعلان المحكمة الجنائية الدولية عن إصدار مذكرة اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين من بينهم رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه، فهل ستنجح الجنائية الدولية في مواجهة التهديدات الأمريكية والإسرائيلية أم أن محكمة الملاذ الأخير سترضخ لضغوطهما؟

أوامر اعتقال

تحقق المحكمة الجنائية الدولية، ومقرها لاهاي بهولندا، منذ عام 2021م في جرائم حرب محتملة ارتكبتها القوات الإسرائيلية يعود تاريخها إلى الحرب بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في عام 2014م، ومع قيام حماس بعملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م وما تبعها من حرب إسرائيلية غاشمة على قطاع غزة لا تزال مستمرة حتى اليوم، قررت المحكمة تمديد تحقيقها ليشمل تلك الأحداث أيضا، لكن خلال الأسابيع القليلة الماضية قالت إسرائيل الولايات المتحدة أن لديهما معلومات تشير إلى أن مسؤولي السلطة الفلسطينية يضغطون على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لإصدار أوامر اعتقال ضد بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، ورئيس أركان جيشه هرتسي هاليفي.وقادة إسرائيليين آخرين، وهو ما تسبب في حالة من الاستنفار الإسرائيلي متبوعةً باستنفار أمريكي لثني المحكمة عن قرارتها.

 

 ستكون أوامر الاعتقال واحدة من أشد الضربات الدبلوماسية لإسرائيل منذ نشأتها على أرض فلسطين التاريخية، لذا طلبت إسرائيل من عددٍ من الحكومات الغربية، وفي مقدمتها حكومات الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، مساعدتها

تواجه إسرائيل بالفعل اتهامات واسعة النطاق بمهاجمة المدنيين وخلق أزمة إنسانية في قطاع غزة للضغط على حركة حماس، فضلاً عن قضية إبادة جماعية، والملاحظ أن هذه هي المرة الأولى التي يخشى فيها قادة الاحتلال العقاب بعد أن أصبح الصمت مستحيلا، تاريخيًا حاولت إسرائيل بطرق مختلفة إخفاء جرائمها والتهرب من المسؤولية، لكن كل ذلك ذهب هباءً منثورًا مع هذه الحرب التي كشفت طبيعة الاحتلال وحقيقة قادته السياسيين والعسكريين ومدى وحشيتهم، وقد تجاهلت حكومة الاحتلال الحكم الأولي الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية في يناير الماضي والذي أمر تل أبيب باتخاذ جميع التدابير لحماية حياة المدنيين في غزة والامتناع عن ارتكاب أعمال الإبادة الجماعية.

من المفترض أن المحكمة الجنائية الدولية هي المحكمة المستقلة الوحيدة في العالم التي أنشئت للتحقيق في أخطر الجرائم التي ترتكبها الأنظمة والأفراد، لا سيما جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ولا تعترف إسرائيل ـ ولا الولايات المتحدة ـ بسلطة المحكمة الجنائية الدولية، لكن إصدار أوامر الاعتقال يعني أن الدول الـ 124 الموقعة على قانون إنشاء المحكمة ملزمة باعتقال المسؤولين الإسرائيليين إذا دخلوا أراضيها، ومن بين الدول التي تعترف بسلطة المحكمة: المملكة المتحدة وهولندا وألمانيا، وجميعهم من الحلفاء الرئيسيين لإسرائيل، كما أن توجيه تهديدات لمسؤولي الجنائية الدولية ـ حتى في حالة عدم اتخاذ إجراء بشأنها ـ يشكل في حد ذاته جريمة ضد إقامة العدل بموجب المادة (70) من نظام روما الأساسي.

ضغوط وتهديدات

بمجرد انتشار التقارير التي تشير إلى اقتراب المحكمة الجنائية الدولية من إصدار أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيليين، عملت إسرائيل على عدة محاور لمنع صدور تلك الأوامر:

على الصعيد السياسي: ستكون أوامر الاعتقال واحدة من أشد الضربات الدبلوماسية لإسرائيل منذ نشأتها على أرض فلسطين التاريخية، لذا طلبت إسرائيل من عددٍ من الحكومات الغربية، وفي مقدمتها حكومات الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، مساعدتها على منع إصدار المحكمة الجنائية الدولية أي أوامر اعتقال ضد قادتها، وذكرت تقارير أن نتنياهو قد اضطر إلى مهاتفة الرئيس الأمريكي جو بايدن طالبًا مساعدته في هذا الشأن، ووفقًا لوسائل إعلام أمريكية فإن بايدن أخبر نتنياهو خلال المكالمة أن المزاعم التي بثتها القناة 12 الإسرائيلية حول إعطاء الولايات المتحدة الضوء الأخضر للمحكمة الجنائية الدولية لإصدار أوامر اعتقال ضد القادة الإسرائيليين غير صحيح.

على الصعيد الإعلامي: دأب المسؤولون الإسرائيليون في الأيام الأخيرة على التعليق بشكل سلبي حيال المحكمة الجنائية الدولية لعرقلة عملها، مع وصف اتخاذ المحكمة أي إجراء ضد إسرائيل بأنه "شائن ويمسّ العدالة"، فيما كرر نتنياهو أن هذا "سيكون هذا عملاً شنيعًا ذا أبعاد تاريخية"، مدعيًا أن المحكمة الجنائية الدولية "تحاول وضع إسرائيل في قفص الاتهام".

 

 قالت إسرائيل إنها ستعتبر السلطة الفلسطينية مسؤولة عن قرارات المحكمة الجنائية الدولية وستنتقم بإجراء قوي قد يؤدي إلى انهيارها، ومن بين الإجراءات المحتملة تجميد تحويل عائدات الضرائب التي تجمعها إسرائيل لصالح السلطة الفلسطينية،

على الصعيد الداخلي: تحاول حكومة نتنياهو تصوير أوامر الاعتقال بأنها ستكون كارثة على المضي قدمًا في الحملة العسكرية ضد حماس، وستعرقل المحادثات مع حماس وستؤثر سلبًا على عملية إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة والتي دخلت مرحلة حرجة.

فيما يخص الحليف الأمريكي: إدارة بايدن بدورها أبلغت مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية على انفراد أن أوامر الاعتقال ضد بعض قادة الكيان الصهيوني ستكون خطأ، وأن حكومة الولايات المتحدة لا تدعم هذا الإجراء، ووصل الأمر إلى حد قيام بعض المشرعين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي بالتهديد بإصدار تشريع في الكونغرس ضد المحكمة الجنائية الدولية.

فيما يخص الشأن الفلسطيني: قالت إسرائيل إنها ستعتبر السلطة الفلسطينية مسؤولة عن قرارات المحكمة الجنائية الدولية وستنتقم بإجراء قوي قد يؤدي إلى انهيارها، ومن بين الإجراءات المحتملة تجميد تحويل عائدات الضرائب التي تجمعها إسرائيل لصالح السلطة الفلسطينية، وبدون هذه الأموال، ستكون السلطة الفلسطينية مفلسة مما يعجّل بانهيارها.

الكيل بمكيالين

خصوم الولايات المتحدة سارعوا إلى الإشارة إلى ما يصفونه بالنفاق في الرد الأمريكي على التحقيقات في جرائم الحرب ضد إسرائيل، التي أدت حربها في غزة إلى مقتل ما يزيد عن 35 ألف فلسطيني حتى الآن، مع استشهاد عدد كبير من المدنيين؛ معظمهم من النساء والأطفال، وبمعدل أعلى من أي صراع حديث، يتبلور النفاق الأمريكي في تصريحات الرئيس جو بايدن خلال العام الماضي عند تأييده لقرار المحكمة الجنائية الدولية عندما أصدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، معتبرًا أن غزو أوكرانيا مبرر قوي لقرار المحكمة، في حين أصدر رئيس مجلس النواب الأمريكي مايك جونسون بيانًا قال فيه: "إذا لم تواجه إدارة بايدن هذا الأمر، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تتولى سلطة غير مسبوقة لإصدار أوامر اعتقال ضد القادة السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين الأمريكيين"، ودعا جونسون إدارة بايدن إلى "المطالبة بشكل فوري بتنحي المحكمة الجنائية الدولية واستخدام كل أداة متاحة لمنعها من إصدار أوامر اعتقال".

ليس للمحكمة الجنائية الدولية قوة شرطة خاصة بها لتعقب واعتقال المشتبه بهم، وبدلاً من ذلك فإنها تعتمد على خدمات قوات الشرطة في البلدان الموقعة على النظام الأساسي للمحكمة لإجراء الاعتقالات والسعي إلى نقل المطلوبين إلى لاهاي، بالرغم من ذلك فإنها أحيانا ما تواجه إشكالية رفض دول أعضاء من التعاون في إجراء الاعتقالات، كما أن عملها كثيرًا ما يبدو ضعيفًا في ظل عدم عضوية الولايات المتحدة وعدم تعاونها مع المحكمة وإصرارها على عدم الخضوع للاختصاص القضائي للمحكمة.

الهروب من العدالة

وفقًا لنظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة فإن ولايتها القضائية ليست فقط على مواطني الحكومات التي انضمت إلى المحكمة، بل وأيضًا على الجرائم المرتكبة على أراضي أعضائها، وحيث أن فلسطين قد انضمت رسميّاً إلى المحكمة الجنائية الدولية في عام 2015م، فإن المحكمة لديها سلطة التحقيق في الجرائم المرتكبة على الأراضي الفلسطينية، على الأقل في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة، ومن المعروف أنه قبل تاريخ انضمام فلسطين للمحكمة قد تم تقديم مئات الدعاوى القضائية لدى المحكمة ضد إسرائيل لارتكابها جرائم عديدة بحق الشعب الفلسطيني وأفراد وهيئات داعمة له، لكن كل الدعاوي رُفضت جميعها، لأسباب منها عدم الاختصاص، أو أن عدد الضحايا لا يرقى إلى مستوى جرائم الإبادة، وكان على الفلسطينيين أن ينتظروا حتى عام 2021م حتى يتم فتح تحقيق رسمي في الجرائم الإسرائيلية بحقهم، وطوال السنوات الماضية لم يتم إثبات جرائم الحرب الإسرائيلية أو محاسبة قادة الدولة العبرية.

من بين أبرز العراقيل في وجه مقاضاة إسرائيل أمام الجنائية الدولية؛ هو رفض إسرائيل الانضمام إلى نظام المحكمة وعدم الاعتراف بسُلطتها، وعدم اعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية كطرف يقوم بمقاضاتها أمام المحكمة، ورفض تل أبيب التعاون مع محققيها الجنائيين أو منحهم تأشيرات الدخول أو السماح لهم بحرية التنقل والوصول إلى أماكن الجرائم، أو حتى مجرد الحديث مع الضحايا والشهود، كما أن المحكمة سبق وأن بررت مرارًا البطء في إصدار مذكرات اتهام بحق القادة الإسرائيليين بذريعة ما يعرف بمبدأ "التكامل"، وهو أن النظام القضائي الإسرائيلي ينص بالفعل على معاقبة المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وهذا يعني أن المحكمة الجنائية الدولية قد لا يكون لديها اختصاص بالانتهاكات الإسرائيلية طالما أن لدى دولة الاحتلال محاكم تقوم بالأمر ذاته، وهذا التبرير هو مجرد نوع من الهزل لحفظ ماء الوجه أمام المجتمع الدولي، لكون الجنائية الدولية سبق وأن أصدرت مذكرات توقيف بحق قادة دول غير أعضاء فيها، مثل الرئيس السوداني السابق عمر البشير.

نتنياهو بين الذعر والفشل

لا شك أن أكثر المذعورين من إصدار المحكمة الجنائية الدولية أمر اعتقال بشأنه هو بنيامين نتنياهو، فهو لم يسلم بعد من الملاحقة القضائية بسبب تهم الفساد، ولا تزال سهام الانتقادات موجهة إليه بشراسة بسبب الفشل الأمني الذي أدى إلى حدوث عملية طوفان الأقصى، ناهيك عن الوضع العسكري المعقد الذي تواجهه قوات جيش الاحتلال حاليًا في قطاع غزة في حربها المستمرة، وكذلك فشله في إبرام صفقة مع حماس لإطلاق سراح الرهائن، فالموقف السائد إلى حد ما بين الإسرائيليين ـ وحتى داخل حزبه الليكود ـ هو ضرورة إجراء الانتخابات مبكرة، والتبرير التقليدي هناك أيضا هو أن نتنياهو يماطل لإطالة أمد الحرب من أجل بقائه السياسي، لأنه يعلم أن اللحظة التي تتوقف فيها الحرب، سيركز الإسرائيليون بشكل أكثر حزمًا على التحقيق في إخفاقات 7 أكتوبر والضغط من أجل إجراء انتخابات مبكرة ومن ثمَّ إبعاده إلى خارج منصبه.

من المؤكد أن حكومة الاحتلال لن تسلم نتنياهو أو أي مسؤولين آخرين للمحاكمة، لكن سفرهم سيصبح محدودًا، وفي الإطار سيحاول نتنياهو التخفيف من وطأة ذلك من خلال التركيز على أن الحرب في غزة ليست حرب نتنياهو، بل هي حرب إسرائيل، وأن المشكلة لا تكمن في سياساته التي يتبعها، بل إن الأمر يتعلق بالسياسات الإسرائيلية على مدار السنوات الماضية تجاه غزة بشكل خاص والفلسطينيين بشكل عام، بَيْدَ أن آلاف الإسرائيليين الذين لا زالوا يخرجون في الشوارع لا يحتجون على الحرب أو السياسات المتبعة، فباستثناء حفنة صغيرة من اليهود فإن غالبية المحتجين لا يطالبون بوقف إطلاق النار أو إنهاء الحرب أو إحلال السلام، إنهم لا يحتجون على قتل إسرائيل لأعداد غير مسبوقة من الفلسطينيين في غزة أو القيود المفروضة على المساعدات الإنسانية التي أدت إلى مجاعة جماعية في القطاع، إنهم يحتجون في المقام الأول على رفض نتنياهو التنحي ويتذمرون من إحجامه عن إبرام صفقة لإطلاق سراح الرهائن.

مخاوف نتنياهو لا تتوقف عند حدود دولة الاحتلال؛ فحتى الولايات المتحدة التي لا تزال تدعم إسرائيل في حربها وتضغط على الجنائية الدولية لمنع إصدار أوامر اعتقال بحق قادة الاحتلال، لا تفعل ذلك من أجل نتنياهو، بل من أجل إسرائيل، وهناك فارق كبير بين الحالتين الآن، الدلائل والاستشهادات على ذلك كثيرة، ويكفينا هنا الإشارة إلى زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي، تشاك شومر، وهو أحد أقوى المشرعين المؤيدين لإسرائيل في الولايات المتحدة وأرفع مسؤول يهودي في واشنطن، الذي دعا علنًا إلى الإطاحة بنتنياهو من منصبه، خلال كلمة ألقاها داخل قاعة مجلس الشيوخ في منتصف مارس الماضي، إنها لحظة فاصلة لأي شخص يتابع دور إسرائيل في السياسة الأمريكية، فقد كانت إسرائيل مقدسة في أمريكا لفترة طويلة لدرجة أن فكرة أن يدعو ديمقراطي متشدد مثل شومر إلى تغيير النظام في إسرائيل هي فكرة غير عادية، لكن يبدو أن الأمريكيين قد باتوا يفرّقون بين إسرائيل ككيان مغتصب يدعمونه وبين قادتها، لقد راهن نتنياهو على أن مستويات النفوذ التي اكتسبها في الولايات المتحدة على مدى عقود - من أعضاء الكونغرس المخلصين لإسرائيل، إلى اللوبي القوي المؤيد لليهود والدور المحوري لإسرائيل في الجغرافيا السياسية الأمريكية - ستحافظ على قدرته على شن الحرب ويبقيه في منصبه، لكن يبدو أنها كانت مقامرة سياسية غير مدروسة.

 

أعلى