ما خبايا تلك المحاكمات وما أهدافها؟ لماذا يلاحق ترامب قضائيا بتلك الطريقة؟ هل ثمة من يدير اللعبة الانتخابية من وراء ستار، ويرغب في إخراج ترامب من المشهد، وهل يستطيع ترامب تحشيد مناصريه والوصول إلى السلطة مرة أخرى؟
لطالما وصفت العملية الانتخابية في بلدان العالم الثالث بأنها تخضع لعملية هندسية
رديئة المستوى؛ بحيث تكون مخرجاتها معلومة مسبقًا، وقبل إجراء الفاعليات
الانتخابية، وحتى قبل إعلان المرشحين، بحيث تضمن الدولة العميقة المستترة، أن
الأمور كلها تحت السيطرة، وليس ثمة جديد يفاجئها، أو يغير قواعد اللعبة من قاعدة
السلطة حتى قمتها.
وعلى النقيض من ذلك التصور، يبهرنا الإعلام الغربي بالديموقراطية الشفافة للغاية،
والحرية المطلقة التي تسمح لشعوب العالم الأول المتقدم بأن تختار حكامها وفق
إرادتها المطلقة، وبحرية تامة، ومن خلال صناديق زجاجية براقة تضاهي مسار العملية
الانتخابية، وتعكس شفافيتها!
ولكن الأمور على حقيقتها لا تبدو كذلك، وليس ثمة فرق شاسع- برأينا- في مسار العملية
الانتخابية بين العالم الثالث، والأول إلا في نوع العملية الهندسية فقط..
فهي في "الثالث"، كما أسلفنا تجري بصورة رديئة للغاية، إذ الشعوب لاهية حتى أذنيها
في أمورها الحياتية والمعيشية، والتي ليس من بينها اختيار من يحكمها، بل إن
المسارات السياسية لم تعد محل اهتمام.
|
هذه القاعدة الجماهيرية، والتي تضم أكثر من 72 مليونًا أعطو ترامب
أصواتهم في انتخابات 2020 تؤمن بترامب بصورة ملفتة للغاية، ويبدو أن لديها
استعدادًا للذهاب إلى أبعد مدى في الدفاع عن حضوره السياسي |
أما في "الأول"، فالأمر جد مختلف، إذ الشعوب ربما أكثر وعيًا، وأكثر انخراطًا، في
مسارات العملية السياسية بكل تفاصيلها، ومن ثم فإن هندسة الانتخابات، والمشهد
السياسي لابد وأن تتم بصورة احترافية متقنة، وإن شئت فقل عملية سينمائية هوليودية
بارعة الإخراج، تقنع المشهد أنه بالفعل صاحب القرار، وأنه يمارس حريته كاملة، وفي
ظل نظام سياسي وسياق حضاري يمثل "نهاية العالم" بتعبير الكاتب الأمريكي الشهير
صامويل هنتنجتون.
على ضوء على هذا الفهم، وهذه المقارنة، يمكن فهم تفاصيل المشهد السياسي الأمريكي
منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي خسر فيها المرشح الجمهوري دونالد ترامب،
لصالح المرشح الديموقراطي العجوز جو بايدن، وما تبعها من أحداث كان آخرها محاكمة
ترامب جنائيًا لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.
منذ إعلان نتائج انتخابات 2020
والمرشح الخاسر دونالد ترامب يرفض الاعتراف بالهزيمة،
وهو بذلك يعد أول
رئيس منذ قرابة 100 عام، يرفض الإدلاء بخطاب إعلان الهزيمة رسميًا،
حيث يدعي أن الانتخابات شابها التزوير لصالح الديموقراطيين، ويصر على خوض
الانتخابات القادمة، والمقررة في العام 2024، مستندًا إلى قاعدة انتخابية متينة
وقوية؛ جعلته في صدارة المشهد والفائز الرئاسي، أمام المرشح الديموقراطية هيلاري
كلينتون في انتخابات 2016، وجعلته منافسًا وخصمًا قويًا حتى الرمق الأخير في
انتخابات 2020.
هذه القاعدة الجماهيرية،
والتي
تضم أكثر من 72 مليونًا أعطو ترامب أصواتهم في انتخابات 2020 تؤمن بترامب بصورة
ملفتة للغاية، ويبدو أن لديها استعدادًا للذهاب إلى أبعد مدى في الدفاع عن حضوره
السياسي، وليس
أدل على ذلك مما حدث في 6 يناير 2021، حيث اقتحم مؤيدوه مبنى الكابيتول لرفض نتائج
الانتخابات الرئاسية لعام 2020 ما أدى إلى عمليات إخلاء وإغلاق لمبنى الكابيتول،
وعطل جلسة مشتركة للكونجرس لفرز الأصوات الانتخابية وإضفاء الطابع الرسمي على فوز
الرئيس الديموقراطي جو بايدن.
نحن إذن أمام "ظاهرة سياسية"، وليس مرشحًا جمهوريًا تقليديًا ينتهى به الأمر إلى
متحف التاريخ الأمريكي، ويقبع في الظل لكتابة مذكراته الحياتية، والتجول في العالم
كمبعوث للسلام، فهو ما زال مصرًا على المضي قدمًا في الترشح لانتخابات 2024، بغض
النظر عن موقف المترشحين المنافسين من الحزب الجمهوري، وعن موقف المؤسسات العميقة
التي يتهمها بالتسبب في خسارته لانتخابات 2020.
واللافت أن قاعدته ما زالت متماسكة خلفه، وتدفعه بقوة في هذا المسار، حتى أنه حملته
الانتخابية حصدت تبرعات بأكثر من 4 ملايين دولار من أنصاره في غضون 24 ساعة، بعد
أنباء توجيه لائحة اتهام إليه، وفقا لصحيفة "يو إس إيه توداي" الأمريكية.
ويبدو أن هذه الظاهرة السياسية الوليدة في الساحة الأمريكية لا تحظى بتأييد مطلق من
قبل المؤسسات الأمريكية النافذة، ومن الشخصيات التي تملك "عصا التحويلة" في تلك
البلاد، ومن هنا كان المضي قدمًا في محاولة تفكيكها، أو إضعافها إلى الحد الذي
يمكنها من المنافسة، دون تحقيق الفوز.
ومن هنا بدأت القصة، وأصبحت تلك الدوائر تمارس مهامها في البحث عن السيناريو
الهوليودي المناسب، والمقنع للناخب الأمريكي، بعدم الجدوى من تأييد ترامب، أو دعمه
في حملته الانتخابية لرئاسة 2024، فوقع الاختيار فيما يبدو على المسارات القضائية..
أول حادثة في هذا المسار كانت في أغسطس من العام الماضي، حيث تمت عملية دهم من قبل
مجموعة كبيرة من عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي "الإف بي آي" لمنزل ترامب في بالم
بيتش بولاية فلوريدا وتفتيشها بدعوى احتوائها على وثائق سرية اخفاها الرئيس السابق
في انتهاك لقواعد السجلات الرسمية.
هذه العملية الخطيرة، وغير المسبوقة، حظيت بموافقة وزير العدل الأمريكي ميريك
غارلاند، واعتبر ترامب أن هجومًا كهذا لا يمكن أن يحدث إلا في "دول العالم الثالث
المنهارة"، وشن هجومًا على وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي، واصافًا إياهم
بالفساد.
وكان الرئيس السابق واضحًا للغاية في تفسير الحدث وتوصيف الفاعلين بقوله "إنه سوء
سلوك من جانب الادعاء العام، واستخدام لنظام العدالة كسلاح، وهجوم يشنه
الديمقراطيون من اليسار المتطرف الذين يحاولون بشكل يائس ألا أترشح للرئاسة في عام
2024".(الفرنس برس-9-8-2022).
لم يسدل الستار على هذه القضية بعد، ولكن كانت الثانية في الطريق، حينما صوتت هيئة
المحلفين الكبرى في مانهاتن، نهاية مارس الماضي، على اتهام ترامب بتهم تتعلق بدوره
المزعوم في دفع أموال للتستر على ممثلة الأفلام الإباحية، ستورمي دانيالز، خلال
الفترة التي سبقت انتخابات عام 2016.
|
من الناحية الدستورية، فإن توجيه الاتهامات لن يمنعه من الترشح للرئاسة في
2024، لكنه سيظل حتمًا خلال موسم حملته الانتخابية منخرطًا في مشاحنات
قانونية، ومهددًا بتلك الملاحقات التي ربما تكون وسيلة ضغط من المؤسسات
النافذة للانسحاب من سباق الترشح |
وهذا التطور يعد تاريخيًا وسيهز السباق الرئاسي لعام 2024، ويشير إلى أول رئيس سابق
للبلاد يواجه اتهامات جنائية بحسب تحليل صحيفة "نيويورك تايمز"، وهو التحليل الذي
يتسق مع رؤية ترامب الذي علق على الاتهامات بأنها "تشبه مطاردة الساحرات..
وأن
الولايات المتحدة ذاهبة إلى الجحيم، ...، وأن ما يحدث تدخل غير مسبوق في انتخابات
2024.. وأن التحقيقات ذات دوافع سياسية
يقودها المدعي العام، ألفين براغ"، مؤكدًا أنه سيواصل حملته للفوز بترشيح الحزب
الجمهوري لخوض الانتخابات،
حيث ما زال يتصدر استطلاعات الرأي في هذا الصدد.
هذه المحاكمات تثير التساؤلات بشأن إمكانية ترشح ترامب لانتخابات الرئاسة 2024،
ومدى تأثيرها على حظوظه في الفوز برئاسة جديدة، والعودة للبيت الأبيض على حساب
الديموقراطيين، وهل ستجدي نفعًا في قتل ترامب سياسيًا ووئد الظاهرة التي جاءت
بتوليه السلطة في 2016؟
من الناحية الانتخابية، والحشد الجماهيري، يبدو أن هذه الملاحقات لم تجدِ نفعًا
فيما يخص مؤيديه، فهذه التهم يراها أنصار ترامب حملة ممنهجة ضده، ولذلك فهي غالبًا
لن تؤثر على قاعدته الشعبية، وحضوره وسط مؤيديه من الحزب الجمهوري، وهو شخص بارع في
استغلال تلك الملاحقات في تثبيت قاعدته الانتخابية والحفاظ عليها، فقد أظهر استطلاع
للرأي -نشرته ياهو نيوز/يوجوف-، أن ترامب يتفوق على منافسه الأول، حاكم ولاية
فلوريدا، رون ديسانتيس، بنسبة 26٪، مقارنة بآخر استطلاع أجري سابقًا والذي كان
يتصدره ترامب بنسبة 8٪.
لكن ترامب ربما يعاني كثيرًا من جمع الأصوات المتفرقة التي تنتمي للوسط والتي تمثل
شريحة كبيرة من الناخبين الأمريكيين، والتي تنظر بعين الريبة والشك لمرشح تحت سيف
العدالة القانونية، حيث أظهر استطلاع لشبكة "سي إن إن" الأمريكية، أن معظم
الأمريكيين يؤيدون محاكمة ترامب، وبنسبة 60%، وهي نسبة مقلقة للغاية.
ومن الناحية الدستورية، فإن توجيه الاتهامات لن يمنعه من الترشح للرئاسة في 2024،
لكنه سيظل حتمًا خلال موسم حملته الانتخابية منخرطًا في مشاحنات قانونية، ومهددًا
بتلك الملاحقات التي ربما تكون وسيلة ضغط من المؤسسات النافذة للانسحاب من سباق
الترشح،
لصالح جمهوري آخر، أكثر قبولاً لدى تلك المؤسسات.
وفي الأخير، فإن "الظاهرة ترامب" غير مرغوب فيها الآن في السياقات السياسية
الأمريكية، وتلك المحاكمات، -فيما يبدو لنا - ليست إلا وسيلة لإنهاء الظاهرة، إما
بأسلوب الضغط على "ترامب" نفسه للانسحاب من الحملة الانتخابية، أو تعديل مواقفه
لتتسق مع رغبات تلك المؤسسات، أيهما أقرب، أو توجيه للناخبين الجمهوريين المترددين،
وتيار الوسط بأن يضعوا أملهم على مرشح له حظوظ أوفر في السباق الرئاسي القادم..