كان هلاينج يكرس منشوراته للهجوم على الروهينجا، مؤكدًا أنهم دخلاء وليسوا من سكان البلاد الأصليين، مستميتًا في الدفاع بشدة عن العمليات العسكرية التي يخوضها جيشه ضدهم.
لم يكن الانقلاب العسكري
الأخير في ميانمار مفاجئًا، لكنه أثار الدهشة والحيرة لكونه إنقلابًا على شركاء
الحكم، فبعد أشهر قليلة من الجدلِ حولَ مخالفاتِ مزعومةِ في الانتخاباتِ العامة،
ازدادت التوترات بين الجيش وحزب الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية، بالرغم من
حالة الوئام التي كانت بينهما، ودخل على خط هذه الأزمة أيضا حزب الاتحاد للتضامن
والتنمية، وهو حزب المعارضة الرئيسي الذي له صلات وثيقة بالجيش أيضا، حيث لم يقبل
بنتائج الانتخابات هو الآخر، كانت الاتهامات بالتزوير موجهة للجنة الانتخابات
النقابية وحزب الرابطة الوطنية، وجد الخاسرون في هذه الاتهامات وسيلة لقلب النتائج
مع تلاشي خياراتهم الأخرى، دعا بعضهم إلى تدخل الجيش لأن الحزب الحاكم لم يلق بالاً
للشكاوى التي تقدموا بها حول التزوير، وجد جنرالات الجيش في هذه الدعوة ضالتهم،
فالجيش الذي حكم البلاد بيد من حديد لما يقرب من 5 عقود لا يزال لديه حنين للعودة
للسلطة، مستغلًا هذا الوضع، وفي ظل عوامل داخلية وخارجية عديدة، قاد الجنرال "مين
أونج هلاينج" ثالث انقلاب في البلاد، منذ الاستقلال عن بريطانيا عام 1948، معلنًا
حالة الطوارئ ومنتزعًا السلطةِ الكاملة لإنشاء ديكتاتورية جديدة لا يعرف أحد متى
ستنتهي. فمن هو الجنرال "مين أونج هلاينج" .. سفاح الروهينجا وقائد انقلاب الفجر؟!
وُلِدَ "مين أونج هلاينج"
في مدينة داوي الجنوبية في عامِ 1956م، حيث درس القانون في يانجون، قبل أن يلتحق
بالجيش البورمي في عام 1974م، كان هلاينج ضابطًا غيرَ بارز في صفوف الجيش، إلى أن
جاء العام 2002م حيث تولى القيادة العسكرية في ولاية شان، وكان هذا هو أول منصب
قيادي يتولاه، وقد أثار إعجابَ الجنرال ثان شوي، وكان من اللافت أن يتردد اسمه
كثيرًا خلال معركتُه في 2009م في منطقة كوكانج المتاخمة لمقاطعة يونان الصينية، وقد
ساهم ذلك كثيرًا في رفع أسهمَه في الارتقاء في المناصب، وصولًا إلى العام 2011 حيث
تسلم هلاينج قيادة القوات المسلحة في ميانمار، والمعروف محليًا باسم تاتماداو، وفي
عام 2016م مدّد هلاينج ولايته لـ 5 سنوات إضافية، خلال تلك السنوات حوّل هلاينج
نفسه من قائد عسكري قليل الكلام إلى شخصية سياسية عامة، حيث بدأ باستخدام مواقع
التواصل الاجتماعي للترويج لنفسه كقائد، في عام 2020م صدر قرار بتعيينه نائبًا
لرئيس البلاد، كانت أبرز منشوراته تدور حول قضية شائكة لكنها تلقى رواجًا في
الأوساط البوذية بالبلاد، وهى قضية مسلمي الروهينجا، فكان هلاينج يكرس منشوراته
للهجوم على الروهينجا، مؤكدًا أنهم دخلاء وليسوا من سكان البلاد الأصليين، مستميتًا
في الدفاع بشدة عن العمليات العسكرية التي يخوضها جيشه ضدهم.
كان العالم بأكمله يدرك أن
هلاينج هو صاحب القرار عندما يتعلق الأمر بحملة الجيش على الروهينجا، موقعا تويتر
وفيسبوك قاما بإغلاق حساباته عليهما بسبب تحريضه العلني ضد الروهينجا، وفي ظل حكومة
أونج سان سوكي المدنية، ازدادت حدّة الأعمال العدائية التي يقودها هلاينج، مما
أكسبه شهرةً عالمية إضافية في عام 2017م، بعدما أجبرت حملته الوحشية أكثر من 740
ألفًا من الروهينجا، كانوا يعيشون في ولاية راخين، على عبور الحدود إلى بنجلاديش،
وتحدثت العديد من المنظمات الأممية عن أدلة صارخة على أن هلاينج قد مارس تطهيرًا
عرقيًا بحق الروهينجا، وهو ما دعم الدعوات المطالبة بمحاكمته، وفي عام 2019 فُرضت
الولايات المتحدة عقوبات ضده، فيما لا تزال المحاكم الدولية تشهد قضية شهيرة،
معروفة باسم التطهير العرقي بحق مسلمي الروهينجا، وقد أعاد الإنقلاب الأخير ملف
الروهينجا إلى الساحة الدولية، وما يرافقه من اضطهاد لتلك الأقلية التي عانت
الويلات خلال السنوات الماضية.
لم تكن علاقة الجنرال
هلاينج، البالغ من العمر 64 عامًا، بمستشارةُ الدولة وحاكمتها الفعلية أونج سان
سوكي على ما يرام، إذ كان يشوبها الاضطراب دائما، وكان هلاينج غير متعاون إلى حد
كبير مع الحكومة المدنية، ففي معظم الأحيان كان مستاءًا من شعبية سوكي، وبالرغم من
أن المرأة الحاصلة على جائزة نوبل للسلام قد دافعت عن الجيش وجنرالاته في محكمة
العدلِ الدولية في لاهاي بشأن قضية الروهينجا، لكن لم يكنَ ذلك شفيعًا لها في
أوساطِ الجنرالات عندما عزلوها من منصبها واعتقلوها ووجهوا إليها أكثر من تهمة،
كانت سوكي من أبرز الشخصيات التي باركت حالة الحقد الشعبية تجاه الروهينجا، ولم تكن
المرأة السبعينية التي كانت تستعد خلال ساعات للوقوف أمام البرلمان لتعلن انتصارها
في الانتخابات لتصدق أن الجنرالات التي دافعت عنهم وساندتهم، هم أنفسهم من أطاحوا
بها واعتقلوها، لينهوا بذلك حالة شبه الديمقراطية الوليدة في ميانمار.
في بلد اعتاد منذ فترة
طويلة على نظام سياسي يتمتع فيه الجيش بنفوذ هائل، لا يقبل الكثيرون من مواطني
ميانمار اللجوء إلى الحكم العسكري مجددًا، إذ يقوض الانقلاب العسكري المؤسسات
المدنية التي بنيت بعناية بعد جهد ومشقة، كما يهدد نظام الحكم القائم على
الانتخابات وانتقال السلطة السلمي، لكن يرى البعض أن الجيش لديه أسباب مشروعة
لإعلان حالة الطوارئ بموجب المادة 40 من الدستور، وذلك لإيقاف التزوير الواسع الذي
شهدته الانتخابات الأخيرة، لكن الجيش هو من وضع الدستور الذي يعمل به منذ
الانتخابات العامة في 1990، وقد تم طرحه للاستفتاء في عام 2008 لقطع الطريق على
القوى السياسية التي تحث على تغييره، وفقًا لهذا الدستور فإن القائد الأعلى يختار
وزراء الدفاع وشؤون الحدود والشؤون الداخلية، كما أنه لا يمكن مساءلته أمام أي سلطة
مدنية أو سلطة أخرى، وهو بذلك يحتكر السلطة القسرية للدولة، وهذا ما كان يمتلكه مين
أونج هلاينج بالفعل، ولم ينقصه من ذلك ـ ربما ـ سوى المسمى فقط بأنه حاكم البلاد،
وقد حقق ذلك من خلال انقلابه، هذا الانقلاب الذي أثار المخاوف لدى الروهينجا، داخلَ
ميانمار وفي مخيماتِ اللجوء في بنجلادش، إذ أنهم يحتفظون بذكريات أليمة لمجازرِ
الجيش ضدهم، وتسلم الجيش للسلطة سيزيدُ لا محالة من معاناتهم، المقلق والمخيف هو أن
اضطهادَ الروهينجا يحظى بغطاء ديني من الكهنة البوذيين، وأبرزُهم سيتاجو سايادو،
الذي يحظى بتقدير كبير وشهرة دينية واسعة في ميانمار، إذ يعتبر الكثيرون أن
تفسيراته للتعاليم البوذية موثوقة، إضافة إلى تمتعه بمكانة عالمية عبر ظهوره
المتكرر دوليًا، لكنه في نفس الوقت دائم التحريض على اضطهادِ الروهينجا، بل ويبرر
قتلَهم.
"جنرال لا يستمع، إنه
يتحدث فيما يستمع الآخرون إليه"، هكذا تحدث نيكولاس كوبيل، سفير أستراليا السابق في
ميانمار، واصفًا هلاينج، مضيفًا أن أسلوبَ إدارة هذا الرجل يُفضي إلى الجهل
والغطرسة، وفي الأول من فبراير 2021، أعلن هلاينج نفسه قائدًا للانقلاب العسكري
ورئيسًا لميانمار، فبحسب تقارير سابقة، نقلًا عن مقربين منه، فإن هلاينج كان يأمل
أن يصبح رئيسًا بعد بلوغه سن التقاعد هذا العام، لكن تقدم حزب الرابطة الوطنية
للديمقراطية بزعامة سوكي قد قضى على هذا الطموح، فقرر اختصار الطريق والانقلاب على
الحكم القائم. من اللافت في تاريخ ميانمار أن العسكريين لا يتركون الحكم بسهولة،
وهو الأمر الذي يرجح ازدياد معاناة الروهينجا، الذين عانوا أصلا في حقبة الزعيمة
المدنية، المعتقلة حاليا، أونج سان سوكي، فكيف بعد تسليم البلاد لقائد عسكري اشتهر
بدمويته، وتصنفه الكثير من المنظمات على أنه مجرم ضد الإنسانية!