يقف المرء متحيرًا ومذهولاً من هذا السيل الهائل من التصريحات الأمريكية على مدار الساعة، والتي إما يقولها الرئيس الأمريكي ترامب بنفسه، أو تُنقل عنه عن طريق المتحدثين باسمه أو أركان إدارته. هذه التصريحات المتناقضة والمتضاربة تختلط فيها الحقيقة بالتضليل المتع
بعد انقضاء أكثر من أسبوع من القصف المتبادل، دخلت المواجهات العسكرية بين إيران وإسرائيل في تحد غير مسبوق، وتطورت المواجهة بعد تحول نوعي في طبيعة الضربات المتبادلة.
وعلى الرغم من أن الحصيلة حتى الآن هي في صالح الكيان الصهيوني، في طبيعة الخسائر التي ألحقها الكيان بإيران، سواء على مستوى القادة العسكريين الإيرانيين الذين قتلهم، أو على مستوى الأهداف التي تم توجيه لها الضربات الصهيونية، ولكن تبقى القدرات الصاروخية الإيرانية والتي قتلت بعض الصهاينة أو تم توجيهها إلى بعض المنشآت الاستراتيجية الصهيونية، هي في حد ذاتها تطور غير مسبوق في تاريخ الخسائر التي لحقت بالكيان.
ولكن مع عجز دولة الاحتلال حتى الآن عن تحقيق الهدف الأساسي والمعلن من الهجمات التي بدأت بشنها على إيران وهي تدمير البرنامج النووي الإيراني، وعلى الرغم من أن تقديرات المصادر الإعلامية الصهيونية تقول إن الكيان نجح في قتل ما يتراوح من تسعة إلى أربعة عشر من العلماء والخبراء الإيرانيين المشاركين في البرنامج النووي الإيراني (وهناك بعضهم قد قُتل في سيارات ملغومة)، إلا أنه لم يستطع القضاء نهائيا على البرنامج النووي نفسه.
وهنا يثار التساؤل الذي يحير الجميع: هل لم يعد إلا التدخل الأمريكي المباشر هو السبيل الوحيد للقضاء نهائيا على البرنامج النووي الإيراني، وبالتالي تحقيق أهداف نتانياهو من الحرب، وإعلان الانتصار الصهيوني، ومن ثم وقف القتال الجاري الحالي؟
أليس هذا يتناقض مع كونه رجل إطفاء الحروب في العالم، كما كان يردد دائما في حملاته الانتخابية، وفي الأسابيع الأولى بعد وصوله إلى البيت الأبيض وكرسي الرئاسة؟
للإجابة على هذه الأسئلة يلزمنا تحليل أمرين: أولها لماذا يعجز جيش الكيان عن إنهاء البرنامج النووي الايراني؟ وثانيا ما هي الأسباب التي تجعل ترامب مترددا في المشاركة العسكرية المباشرة في الاقتتال الدائر.
أسباب الفشل الصهيوني في تدمير البرنامج النووي الإيراني
على الرغم من التغلغل المخابراتي الصهيوني غير المسبوق في الداخل الإيراني، والذي تمكنت على إثره الدولة الصهيونية من اغتيال عدد كبير من قيادات الحرس الثوري والجيش الإيراني وعلى رأسهم قادة تلك الأجهزة، وعلى الرغم من امتلاك جهاز المخابرات الصهيوني كل تفاصيل البرنامج النووي الإيراني، إلا أنه عجز حتى الآن على إنهائه.
وربما أحد الأسباب الرئيسة في ذلك يرجع إلى طبيعة البرنامج النووي الإيراني نفسه.
تتوزع المواقع النووية في إيران بين أربعة أفرع رئيسية هي: مراكز البحث، ومواقع التخصيب، والمفاعلات النووية، ومناجم اليورانيوم، وأهم هذه العناصر الأربعة المفاعلات النووية.
ومن المعلوم أنه كان لدى إيران ثلاث محطات أو مفاعلات عاملة لتخصيب اليورانيوم عندما بدأ الكيان الصهيوني هجماته، وهي مفاعل نطنز، ومفاعل أصفهان، ومفاعل فوردو.
وتخصب إيران اليورانيوم بدرجة نقاء تصل إلى 60 في المائة. ويمكن بسهولة رفع نقاء هذا اليورانيوم إلى نحو 90 في المائة، وهي درجة نقاء تسمح بتطوير الأسلحة.
وتقول وكالة الطاقة الذرية، التي تتفقد المواقع النووية الإيرانية، بما في ذلك محطات التخصيب، إن هذا الأمر مقلق للغاية، لأنه لا توجد دولة أخرى خصبت اليورانيوم إلى هذا المستوى دون إنتاج أسلحة نووية.
بالنسبة لمصانع أجهزة التخصيب، فقد أعلنت وكالة الطاقة الذرية، يوم الأربعاء الماضي وهو اليوم الخامس من الحرب، تعرُض منشأتين لإنتاج أجهزة الطرد المركزي في كرج وطهران للقصف. وكانت المنشأتان تخضعان سابقاً لرقابة الوكالة. ويقول مسؤولون إن الوكالة لا تعلم عدد ورش إنتاج أجهزة الطرد المركزي التي تملكها إيران.
أما بالنسبة المفاعلات النووية، فبعد اليوم الأول من الهجوم الصهيوني على إيران، أبلغ المدير العام لوكالة الطاقة الذرية رافائيل غروسي مجلس الأمن الدولي، بأن البنية التحتية للكهرباء في مفاعل نطنز قد دمرت، وتحديداً محطة كهربائية فرعية ومبنى إمدادات الطاقة الكهربائية الرئيسي، وإمدادات الكهرباء في حالات الطوارئ، والمولدات الاحتياطية.
ثم عاد غروسي يصرح لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، يوم الاثنين الماضي، أي بعد مرور أربعة أيام من الهجوم الصهيوني: أنه مع هذا الفقدان المفاجئ للطاقة الخارجية، هناك احتمال كبير أن تكون أجهزة الطرد المركزي قد تضررت بشدة إن لم تكن قد دمرت بالكامل.
أما مفاعل أصفهان، فتقول وكالة الطاقة الذرية إن الهجمات الإسرائيلية ألحقت أضراراً بأربعة مبان في المجمع النووي في أصفهان، منها منشأة تحويل اليورانيوم والمنشآت التي يجري فيها العمل على معدن اليورانيوم.
وقال غروسي: في أصفهان، هناك مساحات تحت الأرض أيضاً، لم تتأثر بالضربات فيما يبدو.
ويتبقى مفاعل فوردو، وهو يعد أعمق موقع تخصيب في إيران، والمحفور في جبل، ورغم أنه لا يعمل فيه سوى نحو ألفي جهاز طرد مركزي، فهو ينتج الغالبية العظمى من اليورانيوم الإيراني المخصب إلى 60 في المائة، ويُقال أن المفاعل قد تم بناؤه داخل الجبل على عمق 90 متر من سطح الأرض.
ويؤكد مدير الوكالة للطاقة الذرية غروسي، أن فوردو، لم يتعرض لأضرار، وفقاً لما يمكن رؤيته.
ويكاد يُجمع الخبراء، أن هذا المفاعل المحصن لا يمكن تدميره إلا بالطائرات الأمريكية من طراز بي 2 التي تحمل قنابل من نوع جي بي يو 57 القادرة على تدمير أهداف محصنة في أعماق الأرض، وهو ما يعد مناسبا لاستهداف مفاعل فوردو النووي.
وطائرة بي 2 هي قاذفة استراتيجية شبحية أميركية دخلت الخدمة في أجيالها الأولى عام 1997، وتتميّز بقدرتها على التسلل إلى أعماق الدفاعات الجوية من دون كشفها، وفقا لما ذكر سلاح الجوي الأميركي.
وتستطيع تلك الطائرة حمل قنابل نووية وتقليدية، بينها القنبلة الخارقة للتحصينات جي بي يو57، حيث تزن القنبلة الواحدة أكثر من 13 ألف كيلو جرام، ويزيد طولها عن 6 أمتار، وتحمل أكثر من 2400 كيلوغرام من المتفجرات عالية القوة، بحسب ما ذكرت وزارة الدفاع الأميركية، ولكن الميزة الخارقة في هذه القنبلة يكمن في غلافها الفولاذي فائق الصلابة بقدرة اختراق كبيرة ومقدمة مخروطة، فهذا الغلاف مع وجود صمام تأخير ذكي، لا يسمح لها بالانفجار إلا داخل الهدف المحصّن بعد اختراقه.
ومن هذا يتبين أن الجهة الوحيدة التي يمكنها إنهاء هذا المفاعل، هي أمريكا التي تمتلك تلك النوعية من القنابل، كما أنها أيضا تمتلك الطائرة الوحيدة القادرة على حمل هذا النوع من القنابل الخارق للأعماق.
ومنذ السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣، شيدت أمريكا جسرًا جويًا وبحرية لإيصال العتاد العسكري بأنواعه المختلفة إلى الجيش الصهيوني، من مدرعات وذخائر وقنابل ذكية، وغير ذكية.
ولا تقتصر الإمدادات على العتاد العسكري فقط، بل يتعداه إلى المساعدات اللوجستية، ومشاركة وحدات خاصة أمريكية مثل قوة دلتا. وفرق هندسية متخصصة في الأنفاق، وأيضًا المعلومات الاستخبارية التي يتم التقاطها عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة المتقدمة والتي ترقب كل شبر وكل حركة داخل قطاع غزة، بل وفي دول الجوار والتي ينطبق منها تهديدات إلى دولة الكيان.
وآخر إمدادات الجسر الجوي من المساعدات العسكرية، ما أعلنت عنه وزارة الدفاع الصهيونية ليلة الجمعة، من وصول 14 طائرة محملة بالمعدات العسكرية قادمة من أمريكا.
في 16 يونيو 2025، نشر تقرير من قبل قناة كان الصهيونية، ورد فيه: خلف الكواليس لا تزال الطائرات تصل إلى هنا (تقصد الكيان) محملة بالذخائر، ذخائر أمريكية، تشمل قنابل ثقيلة وقنابل خارقة للتحصينات، تصل من قواعد أمريكية في كل من أوروبا والولايات المتحدة. الأمريكيون، من جانبهم، لا يشاركون في الهجمات معنا، لكنهم، خلف الكواليس، يدعموننا عبر أنظمة الدفاع مثل ثاد، ويوفرون لنا الذخيرة لمواصلة الحرب طالما لزم الأمر.
ولكن تبقى المقاتلة الأمريكية بي 2 القادرة على حملة القنبلة جي بي يو57، والتي لم تزود بها أمريكا الكيان الصهيوني، هي القادرة على حسم الحرب الإيرانية الصهيونية.
خيارات أمريكا في المشاركة المباشرة
يقف المرء متحيرا ومذهولا من هذا السيل الهائل من التصريحات الأمريكية على مدار الساعة، والتي إما يقولها الرئيس الأمريكي ترامب بنفسه، أو تُنقل عنه عن طريق المتحدثين باسمه أو أركان إدارته. هذه التصريحات المتناقضة والمتضاربة تختلط فيها الحقيقة بالتضليل المتعمد.
ويشارك الكيان الصهيوني في تلك التصريحات الغامضة، كما بدأت بريطانيا في الدخول في هذه اللعبة ربما بإيعاز أمريكي.
فحسم الحرب بالفعل لن يتأتى إلا بمشاركة أمريكية بطائرات بي تو والتي تكون قادرة على إلقاء القنابل لتدمير مفاعل فوردو.
ولكن القرار الأمريكي يرتبط بعدة اعتبارات تجعل خيار المشاركة مكلفا:
الأول رد الفعل الإيراني سواء كان عن طريق إيران نفسها أو بمشاركة أذرعها.
الثاني فعالية القنابل وقدرتها بالفعل على تدمير المفاعل، حيث إن هناك عددًا محدودًا من الخبراء يشكك في فعالية القنبلة الأمريكية.
الثالث: ضغط الجناح الجمهوري الذي يقول بأمريكا أولا ولا نخوض حروب مجددًا.
الرابع: الخوف من انهيار النظام الإيراني ومجيء نظام جديد غير مرغوب فيه أو حدوث فوضى تؤثر على المصالح الأمريكية في المنطقة.
حاولت أمريكا في الأيام الماضية معالجة تلك المحاذير الأربعة لتزيد من فرص تدخلها في تلك المعركة.
وأخيرًا يريد ترامب لقطة النصر الأخيرة، سواء كانت بالمفاوضات التي تعلن فيها إيران عن صيغة تؤدي إلى التخلي عن مفاعلها فوردو، أو ترفض فيضرب ترامب مفاعل فوردو لتكون ضربة الختام التي ترسم صورة كسر النظام الإيراني، وتمنح ترامب اللمعان الذي يريد ويحبه.