كان لسقوط الدولة الفاطمية "العبيدية" الشيعية في مصر ودخولها في حظيرة أهل السنة أثرا عظيما في قرب استرجاع بيت المقدس من أيدي الصلبيين الذين كان يتغذون على فرقة المسلمين فلما انقطع غذاؤهم سقطوا وخرجوا من بلاد المسلمين
أدى تكالب الخارجين على الخلافة العباسية في بغداد، وسيطرة الشيعة البويهيين عليها
في القرن الرابع الهجري، إلى انحسار نفوذها عن كثير من البلاد، ومن جملتها بلاد
الشام، حدث ذلك في الوقت الذي استولى فيه العبيديون الشيعة على مصر سنة 358هـ، بعد
أن كانوا قد استولوا على أفريقية وصقلية في نهاية القرن الثالث الهجري.
وما أن استتب وجودهم في مصر، حتى أخذوا يتطلعون للاستيلاء على بلاد الشام، فأرسلوا
نحوها الحملات حملة وراء حملة، ونجحوا في الاستيلاء على أجزاء واسعة منها، وبخاصة
بيت المقدس وفلسطين، بل تطلعوا للسيطرة على بغداد ذاتها، لتقويض الخلافة العباسية
فيها، وبالتالي، الانفراد بزعامة العالم الإسلامي.
ولم يكبح جماحهم ويحد من نفوذهم، سوى دخول الأتراك السلاجقة لهذه الساحة، كقوة فتية
صاعدة مدافعة عن السنة والخلافة العباسية، وذلك خلال النصف الثاني من القرن الخامس
الهجري، الأمر الذي جعل بلاد الشام مسرحًا للحروب المستمرة والمكلفة بين السلاجقة
(السنة)، والعبيديين (الشيعة). بيد أن عضلات السلاجقة كانت هي الأقوى، مما أدى إلى
رجحان كفتهم على كفة العبيديين، وإلى نجاحهم في استعادة القدس وفلسطين ودمشق، وطرد
العبيديين منها.
وفي هذا الوقت، وبينما كانت جيوش العبيديين في الشام، تترنح تحت ضربات السلاجقة،
وصل الصليبيون الغزاة إلى شمال الشام، وفرضوا الحصار على أنطاكية بوابة الشام
وعاصمة الثغور، سنة 491هـ. ونتيجة لذلك، فقد ضعف نفوذ السلاجقة في فلسطين، لنهوضهم
لمواجهة خطر الصلبيين الجديد الداهم، وانشغالهم بالدفاع عن أنطاكية، وفك الحصار
الصليبي عنها. أما بالنسبة للعبيديين، فقد انتعشت آمالهم، بقدوم هؤلاء الغزاة إلى
بلاد المسلمين، واغتبطوا بهزيمتهم للسلاجقة في آسيا الصغرى، وبما حل بهم وبالسنة،
من كوارث ومآسي على أيديهم.
موقف العبيديين من الغزو الصليبي
كان الوزير الأفضل بن بدر الجمالي، هو الحاكم الفعلي في مصر، آنذاك، وعندما سمع بأن
الصليبيين يحاصرون أنطاكية، أرسل سفارة إليهم، يدعوهم لإقامة تحالف بينه وبينهم،
للقضاء على السلاجقة عدوهما المشترك، وعلى أن تقسم البلاد بعد ذلك، بينهما، بحيث
تكون أنطاكية وشمال الشام للصليبيين، وتكون القدس وجنوب الشام للعبيديين. وانتهز
الأفضل انشغال السلاجقة بالدفاع عن أنطاكية، فحرّك جيشه، واستولى على القدس. ولكن
ورغم أن الصليبيين رحبوا بسفارة الأفضل تلك، إلا أنهم لم يلقوا بالاً لفكرة التحالف
معه، ومضوا في طريقهم نحو بيت المقدس، هدفهم الرئيس، فاستولوا عليها سنة 492هـ، بعد
أن غادرها حاكمها الشيعي بموافقة الصليبيين، إلى عسقلان مركز الأسطول العبيدي، وبعد
ذلك أخذ الصليبيون يتوسعون شمالا وجنوبا تحت سمع وبصر العبيديين. ورغم أن العبيديين
استشعروا خطر الصلبيين بعد ذلك، ونهضوا لقتالهم، إلا أن جهودهم الحربية ضدهم، اتسمت
بالفتور والتردد وعدم الحسم، رغم كثرة جيوشهم وقوة أسطولهم.
|
نتج عن استكانة العبيديين، زيادة شراهة الصليبيين، فاستولوا على بقية المدن
الساحلية، التي كانت خاضعة للعبيديين، كعسقلان وعكا وصور صيدا وبيروت، وكان
سقوط هذه المدن بأيدي الصليبيين، صدمة كبرى ثانية للمسلمين. |
وسبب تهاون العبيديين في قتال الصليبيين، يرجع إلى كون عدائهم للسنة ظل مستحكمًا في
نفوسهم، فقد ظلوا ينظرون للصليبيين بعين، وينظرون بالعين الأخرى، للسلاجقة، الذين
ظلت سيوفهم مسلولة ضد الصليبيين، وظلوا يقارعونهم في شمال الشام،
وأفشلوا كل محاولاتهم للسيطرة على حلب، ولاسيما أصحاب الأمر في الموصل وحلب، وبخاصة
بعد الصحوة الجهادية، التي دشنها الأمير ممدود صاحب الموصل، واشتد ساعدها مع ظهور
عماد الدين زنكي، لتصل إلى ذروتها في عهد ابنه نور الدين، الذي ألحق بالصليبيين
هزائم شنيعة، وانتزع منهم أكثر من خمسين مدينة وقلعة، ووحد الشام الداخلية كلها تحت
رايته، وعلى رأسها دمشق، وصار قاب قوسين أو أدنى من القدس، الهدف الأساسي لجهوده
الحربية.
مصر بين نور الدين والصليبيين
نتج عن استكانة العبيديين، زيادة شراهة الصليبيين، فاستولوا على بقية المدن
الساحلية، التي كانت خاضعة للعبيديين، كعسقلان وعكا وصور صيدا وبيروت، وكان سقوط
هذه المدن بأيدي الصليبيين، صدمة كبرى ثانية للمسلمين.
ولم يتوقف خطر الصليبيين عند هذا الحد، إنما امتد ليشمل مصر قلب الدولة العبيدية،
وبخاصة بعد استيلائهم على مفتاح مصر (عسقلان)، ثم على إثر النزاع الدموي بين
الوزيرين ضرغام وشار، ولجوء شاور إلى نور الدين. فكان أن أرسل نور الدين حملة إلى
مصر سنة 559هـ، بقيادة أسد الدين، والذي أخذ معه أبن أخيه صلاح الدين، فحققت الحملة
غرضها في إعادة شاور إلى الوزارة، وقتلت ضرغام، قبل أن يصل الصليبيون الذين كان قد
عقد حلفًا معهم، لنجدته. لكن شاور لم يلبث أن تنكر للوعود التي قطعها لنور الدين،
وحاول الغدر بأسد الدين، واستعان بالصليبيين لإخراجه من مصر، وانتهت المعركة بين
المسلمين والصليبيين إلى الاتفاق على عودة كل منهما إلى بلاده.
لكن نور الدين لم يلبث أن أعاد أسد الدين على رأس حملة ثانية إلى مصر سنة 562هـ،
تلبية لدعوة الخليفة العاضد هذه المرة، للتخلص من شاور، فقام شاور بدوره بالاستنجاد
بالصليبيين، فاحتدمت المعارك بينهم وبين المسلمين، وانتهت بخروج الطرفين من مصر
كالمرة السابقة. ولكن ملك الصليبيين لم يلبث أن أغار على مصر، دون طلب من أحد هذه
المرة، فاضطر الخليفة العاضد إلى طلب النجدة مجددًا من نور الدين، لإنقاذه من
الصليبيين، فلبى نور الدين النداء، وأرسل أسد الدين على رأس حملة ثالثة إلى مصر سنة
564هـ، وتوجهت الحملة إلى القاهرة رأسًا، واستقبلت بحفاوة من قبل الأهالي، فأسقط في
يد الصليبيين وعادوا إلى القدس خائبين.
عودة مصر لحظيرة السنة
واستقبل الخليفة العاضد أسد الدين بحفاوة، فغار شاور من ذلك، وحاول الغدر به، وعاود
الاستنجاد بالصليبيين للتخلص منه، ولكن محاولاته كلها فشلت وانتهت بقتله سنة 564هـ،
وتولي أسد الدين الوزارة رسميًا بدلا عنه. بيد أن أسد الدين لم يلبث أن توفي بعد
شهرين، فخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين باختيار الخليفة العاضد، فأثبت صلاح
الدين جدارته رغم صغر سنه، وتقرّب من الأهالي ومن الجند فأحبه كلاهما، وأحبط
محاولات بقايا العبيديين للعودة إلى الحكم، لدرجة أثارت فزع الصليبيين، وجعلهم
يتوقعون الهلاك، لكونهم صاروا مطوقين بالمسلمين من الشمال والجنوب وبين فكي كماشة،
فكان أن بادروا بغزو مصر بالتعاون مع البيزنطيين، ولكن جهود صلاح الدين ونور الدين
المضادة أفشلت حملتهم على مصر، الأمر الذي عزز من مركز صلاح الدين بمصر، فعمل على
إحياء السنة بها، وأخذ يوجه الضربات منها إلى الصليبيين في جنوب الشام، في الوقت
الذي صار فيه الخليفة العاضد، معزولاً في قصره، ولا حول له ولا قوة.
وفي سنة 567هـ، أمر صلاح الدين بالدعاء للخليفة العباسي في خطبة الجمعة بالقاهرة،
بإيعاز من نور الدين، فتم ذلك، دون أن تنتطح عنزان، ولم يلبث الخليفة العاضد أن مات
بعد ذلك بأيامٍ قليلة، فكان موته إيذانًا بنهاية الخلافة الفاطمية المتداعية وغير
الشرعية، وعودة مصرة إلى الخلافة العباسية وإلى حظيرة السنة، بعد حوالي قرنين من
الزمان.
وفي سنة 569هـ، مات نور الدين زنكي في دمشق، بعد أن حقق حلمه الكبير في إقامة جبهة
إسلامية متحدة، ضد الصليبيين، امتدت من الفرات إلى النيل، فحمل صلاح الدين الراية
بعده، ودشن طورًا آخر من الجهاد ضد الصليبيين وتحرير القدس منهم وطردهم.