• - الموافق2025/03/09م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
على طريق تحرير القدس (5) ظهور الناصر صلاح الدين

شكلت وفاة نور الدين الذي كان يسير على درب والده عماد الدين زنكي قلقا على مشروع تحرير القدس ودحر الصليبيين إذ لم يخلف نور الدين إلا صبيا صغيرا، لذا حمل صلاح الدين راية التحرير ورأى أنه رجل المرحلة.


بعد وفاة نورالدين محمود المفاجئة بدمشق (569هـ)، حرمت الجبهة الإسلامية من جهود بطلها ورائدها المجاهد الوقور والشجاع، إلا إنها مهدت الطريق لظهور صلاح الدين على مسرح الأحداث، فقد كان هو الوحيد القادر على سد الفراغ الهائل الذي نتج عن وفاة نورالدين، والمؤهل، بالتالي، للمحافظة على المكاسب الكبيرة التي تحققت على مدى سبعين عاماً من الجهاد والاستفادة منها والبناء عليها.

ذلك أن نورالدين لم يترك من الأبناء إلا صبياً صغيراً، لا يستطيع النهوض بأعباء الملك، ولا يدرك الأبعاد الحقيقية لسياسة أبيه الراحل، مما جعله ألعوبة بأيدي كبار الأمراء، والذين لم يتورع بعضهم لأجل تحقيق مطامعهم والتغلب على خصومهم، من الاتصال سراً بالصليبيين، وعقد هدنة ذليلة معهم.

وعندما سمع صلاح الدين بذلك، وهو بمصر، أنكره، واستصغر أمر أولئك الأمراء، وأدرك ضعفهم، فكتب إليهم كتاباً، يقرعهم فيه ويلومهم، وتيقن بأنه لو استمرت ولاية هؤلاء القوم، لتفرقت الكلمة، وانفردت مصر عن الشام، وطمع الكفار في البلاد. ولأجل ذلك، وحرصاً على استمرارية سياسة الجهاد، اعتبر صلاح الدين نفسه "رجل المرحلة"، وبالتالي، وريثاً وحيداً لأستاذه نورالدين، لا في ممتلكاته ونفوذه الممتد من الفرات إلى النيل، فحسب، بل أيضاً لسياسته البعيدة، التي ارتكزت على وحدة الصف كوسيلةٍ للجهاد، واجداً في مصر أرضية صلبة، وإمكانات مادية وبشرية، يمكنه الاعتماد عليها، ومنها خرج إلى الشام معلناً أن هدفه جمع شمل المسلمين، وتأليف كلمتهم.

ومن هنا ندرك مدى أهمية عودة مصر إلى حظيرة السنة، ووجود صلاح الدين على رأسها عند وفاة نورالدين، فقد صارت مصر هي القاعدة ومركز الثقل ونقطة الانطلاق لوحدة الصف وجمع الكلمة على طريق تحرير القدس، تحت قيادة صلاح الدين.

 

اهتم بمصر اهتماماً عظيماً، فعمل على تحصينها وبناء القلاع والأسوار لحماية عاصمتها وثغورها، تحسباً لأي هجوم صليبي عليها، كما استمر في مكافحة التشيع ومظاهره ومؤسساته، واستبدال هذه المؤسسات بمؤسسات للسنة

شخصية الناصر صلاح الدين

كان صلاح الدين (532-589هـ)، كما وصفه معاصره وكاتب سيرته ابن شداد بناء على مشاهداته وما أخبره به الثقات: من عظماء الشجعان، قوي النفس، شديد البأس، عظيم الثبات لا يهوله أمر، وكان محباً للجهاد بحيث إنه استولى على قلبه وجوانحه، فلم يكن له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا إلى من يذكِّره به ويحثه عليه، هجر لأجله أهله وأولاده ووطنه وقنع من الدنيا بخيمة تهب بها الرياح ميمنة وميسرة، وغايته أن يموت في سبيل الله مقبلاً غير مدبر، وكان صابراً على الألم والأمراض والحر والبرد وفقد الولد والأهل، محتسباً أجر ذلك عند الله، وكان حسن الخلق متجاوزاً قليل الغضب بشوشاً سهلاً حياً لين الجانب سخياً، وفي غاية الإحسان والحلم والمرونة والانبساط، وكان مواظباً على الصلوات وقراءة القرآن وتدارس الحديث والفقه، مكرماً لمن يرد عليه من المشايخ وأرباب العلم والفضل، وكان يسأل من صحبه عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أحواله، وكان حسن العشرة لطيف الأخلاق طيب الفكاهة حافظاً لأنساب العرب ووقائعهم وسيرهم وأحوالهم وأنساب خيلهم، عالماً بعجائب الدنيا ونوادرها، بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره، وكان طاهر المجلس، لا يحب أن يذكر بين يديه أحد إلا بخير، وكان حسن العهد والوفاء، فما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحّم على مخلفيه وجبر قلبه ومصابه وأعطاه، وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه سلمه إياه، وإلا أبقى له من الخير ما يكفي حاجته، وسلمه إلى من يعتني بتربيته، وكان لا يرى شيخاً إلا ويرق له ويحسن إليه، ولم يزل على هذه الأخلاق إلى أن تُوفي.

سياسة صلاح الدين الداخلية

قضى صلاح الدين الأربعة عشر عاماً السابقة من حكمه (569-583هـ) في عمل دائب، استعداداً للقاء المرتقب بينه وبين الصليبيين. ففي البداية اهتم بمصر اهتماماً عظيماً، فعمل على تحصينها وبناء القلاع والأسوار لحماية عاصمتها وثغورها، تحسباً لأي هجوم صليبي عليها، كما استمر في مكافحة التشيع ومظاهره ومؤسساته، واستبدال هذه المؤسسات بمؤسسات للسنة، فأغلق الأزهر، وكان أكبر وكر للتشيع بمصر، آنذاك، كما أغلق جامع الحاكم، وألغى "حي على خير العمل" من الأذان، وحذف جملة "علي ولي الله" من العملة، وأتلف وأحرق كتب الرفض والزندقة، وألغى المناسبات والأعياد الرافضية.

كما قام صلاح الدين بتحديد إقامة أبناء العاضد وأهله، ليحول دون اتصالهم ببقايا الروافض وأتباعهم من العبيد المخصيين الحالمين بإعادة النظام القديم، والذين ظلوا يتربصون به، وأحبط عدداً من مؤامرتهم ضده، ونكبهم، واتبع ذلك بضرب حلفائهم الحشاشين أصحاب القلاع في جبال الساحل الشامي، والذين حاولوا اغتياله أكثر من مرة، وحول القاهرة من مدينة ملوكية-عسكرية، إلى مدينة سكنية عامة.

وأحيا صلاح الدين شعائر الإسلام، وأسس مدارس للمذاهب الأربعة لتشجيع أتباعها على التنافس في نشر السنة، ثم انتقل إلى الشام والجزيرة، فقام بالإصلاحات اللازمة بهما، وضرب على أيادي الأمراء الانفصاليين، الذين أعمتهم مصالحهم الخاصة عن مصلحة الأمة. وبين هذا وذاك، تراه يختلس بعض الوقت لإعادة تنظيم دولته، التي أخذت تتوسع عاماً بعد عام، لتمتد في نهاية المطاف، من الموصل وحلب شمالاً إلى النوبة واليمن جنوباً، ومن الفرات شرقاً إلى برقة غرباً، فكان أن قسَّمها إدارياً إلى إمارات، متمتعة بالحكم الذاتي، ومستعيناً في حكم أغلبها بالأكفاء من أبنائه وإخوته وأبناء إخوته، حرصاً منه على جعل هذه الدولة، كتلة واحدة متماسكة، يمكنه الاعتماد عليها، في اليوم الموعود.

سياسة صلاح الدين تجاه الصليبيين

على أن كثرة المشاكل الداخلية، لم تجعل صلاح الدين يدير ظهره للصليبيين بالشام، بل على العكس من ذلك، فقد كان حريصاً على أن يوجه لهم ضربةً بين حين وآخر، تارة في شمال الشام وأخرى في جنوبها، ليشعرهم بقوته ويقظته، وليزيل من نفوسهم الوهم، بأن المسلمين قد ضعف أمرهم بعد وفاة نورالدين. وقد اتسمت سياسته تجاه الصليبيين بالدهاء والحيلة، فقد ظل يتجنب خوض معركة فاصلة معهم، قبل أن يعد للأمر عدته، ويستكمل بناء جبهته الداخلية. لذلك كان بعدما يوجه ضربة خاطفة للصليبيين، يردفها بهدنة معهم. كما كان يستغل الخلافات الواقعة بينهم، ويعمل على توسيعها، ويمد المعونة لمن طلبها من أمرائهم في صراعه مع أمير صليبي آخر، كدعمه مثلاً، لريموند الثالث أمير طرابلس، في صراعه مع مملكة بيت المقدس، كما كان يتواصل سراً مع من يتمرد منهم على الكنيسة، ويتعرض لنقمتها، ويتخذ منهم عيوناً له، يطلع من خلالهم على خطط الصليبيين وتحركاتهم.

يذكر ابن الأثير وأبو شامة أن الزوجة الثانية لبوهيموند الثالث أمير أنطاكية، كانت تراسل صلاح الدين وتهاديه وتطلعه على أسرارهم، وتعلمه كثيراً من أحوالهم، وأن السلطان كان يكرمها لذلك، ويهدي إليها أنفس الهدايا. وظل هذا نهجه حتى استكمل استعداداته، وعندئذ رأى أن يوم حساب الصليبيين قد حان. ولأنهم كانوا يتمركزون في مدنٍ حصينهٍ، وقلاعٍ منيعة، فكان عليه أن يستخدم الحيلة لإخراجهم من جحورهم تلك، واستدراجهم إلى معركة فاصلة في مكان مفتوح، بعيد عنها، حتى يستطيع الإيقاع بهم مجتمعين، وضربهم ضربة قاضية، وقد كان. وفي هذه الخطة بالذات تجلت عبقرية صلاح الدين العسكرية، يوم حطين الخالد، والذي سيكون موضوع الحلقة الأخيرة القادمة، إن شاء الله.

أعلى