• - الموافق2025/12/07م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
في ذكرى هدم مسجد بابري

إن قضية مسجد بابري لا يمكن قراءتها إلا بوصفها سردية كاملة تُجسّد التحولات الأيديولوجية والقانونية والسياسية في الهند على مدى قرنين الماضيين. وقد كشف هدم المسجد ثم حكم المحكمة العليا لحقا، عن مدى ما يعانيه المسلمون في الهند من انتهاك لحقوقهم الدينية.


يأتي يوم 6 ديسمبر 2025 ليعيد إلى الذاكرة جرحًا لم يندمل في قلب المسلمين في الهند، يومًا مليئًا بالحزن والصدمة، نفس اليوم من عام 1992، حين انهار أمام أعين العالم أحد أقدم مساجد الهند، مسجد بابري ، الذي ارتفعت قبابه لأول مرة عام 1528 بأمر من السلطان المغولي بابر. كانت يد الظلم قاسية، وصمت الدولة مخيفًا، وعجزت قوات الأمن عن حماية بيت الله الذي عاش المسلمين في ظله قرونًا طويلة.

تمرّ العقود، ولكن الألم ما زال حيًا في الوجدان، حتى جاء عام 2019، وحكمت المحكمة العليا أخيرًا في النزاع. وجاء الحكم ليعترف بما كان المسلمون يعرفونه منذ اللحظة الأولى: أنهم قد تعرضوا لظلم عميق، وأن مسجدهم هُدم بطريقة غير قانونية، وأن وضع الأصنام داخله عام 1949 كان اعتداءً صارخًا على حقهم المقدس.

لكن القلوب لم تجد فيها راحة، فالحكم رغم اعترافه بالظلم، أعطى الأرض كاملة لمن هدم المسجد، لمن بنى على أنقاضه معبد رام، بينما منح المسلمين خمسة أفدنة بديلة في مكان بعيد، بعيد عن قلوبهم وذكرياتهم وصلاتهم، بعيد عن التاريخ الذي يحمل روحهم وماضهم.

هذا التناقض، بين الاعتراف بالحق والظلم وبين إنكار الحق عمليا، أصبح ليس مجرد حكم قضائي، بل صدمة تاريخية ونكبة روحية، جعلت المسلمين يتساءلون: هل يُقدّر التاريخ دموعنا؟ وهل العدالة ممكنة عندما تتحكم السياسة والهوية الدينية في قرارات القانون؟ لقد أصبح هذا اليوم علامة فارقة، ذكرى موجعة تثبت أن المساجد ليست مجرد حجارة وأسوار، بل هي قلب الأمة، وجرحها حين تُهدم بلا رحمة.

الجذور التاريخية للمسجد والسياق السياسي للنزاع

تعود جذور المسجد إلى عهد الإمبراطور المغولي بابر، إذ تؤكد النقوش والوثائق التاريخية أن قائده مير باقي شيّد المسجد سنة 1528، وأنه ظل قائمًا دون منازعة جادة لأكثر من أربعة قرون. وتشير مصادر الحقبة البريطانية، وكذلك الوثائق الأثرية، إلى أن المسلمين كانوا يمارسون عباداتهم في المسجد بصورة طبيعية حتى منتصف القرن التاسع عشر، ثم استمرت الصلاة فيه بلا انقطاع حتى ليلة 16 ديسمبر 1949. هذا التاريخ بالغ الدلالة، لأنه يثبت أن المسجد كان مؤسسة دينية فاعلة ومأهولة بالجماعة المسلمة حتى اللحظة التي سبقَت وضع الأصنام داخله مباشرة.

خلال الحكم البريطاني، اتبعت الإدارة سياسة الفصل بين أماكن العبادة لتجنب النزاعات الطائفية. ومنذ أحداث 1857، اعتُبرت الساحة الخارجية (چبوتره) مساحة متاحة للهندوس لأداء بعض الطقوس، بينما ظلت قاعة الصلاة الداخلية للمسلمين. هذه الوضعية القانونية المُحكمة بقيت مستقرة حتى ليلة 2223 ديسمبر 1949، حين وُضعت الأصنام داخل المسجد بطريقة اعتبرتها المحكمة العليا لاحقًا "عملاً غير قانوني" تم بتواطؤ رسمي من الإدارة المحلية في أيودهيا. هذه اللحظة كانت البداية الفعلية لتحويل القضية من وضع سلمي مستقر إلى نزاع دائم، لأن الإدارة قررت إغلاق المكان ومنع الطرفين من الصلاة، لكنها أبقت الأصنام في موضعها، وهو ما اعتبره المسلمون تثبيتًا لواقع غير شرعي بغطاء إداري.

ومع صعود السياسة الدينية في الثمانينيات، أصبح مسجد بابري محورًا لحملة سياسية قادتها قوى هندوسية قومية، ما أدى إلى تصاعد الاحتقان ودخول القضية في قلب التحولات الانتخابية في الهند. وقد مثّلت حملة 1984 نقطة الانطلاق لحشد شعبي استمر سنوات، وانتهى في 6 ديسمبر 1992 حين جرى هدم المسجد أمام مرأى قوات الأمن، في حدث صادم وصفته المحكمة العليا بأنه "انتهاك صارخ لسيادة القانون" وأنه لم يكن ليحدث لولا العجز المتعمد من أجهزة الدولة.

قراءة قانونية في حكم المحكمة العليا (2019)

يشير الحكم إلى مجموعة من الحقائق التي تُعد، من الناحية القانونية البحتة، كافية لترجيح ملكية المسلمين. فقد أكد القضاة أن المسجد بُني سنة 1528، وأن المسلمين صلّوا فيه بصورة مستمرة حتى 1949، وأن وضع الأصنام كان غير قانوني، وأن هدم المسجد فعل إجرامي، وأن الأدلة التاريخية لا تثبت أن المسجد بُني فوق أي معبد هندوسي. هذه الاعترافات تُشكّل ما يعرف في القانون بـfindings of fact أي الحقائق التي يقرّها القضاء بصورة قاطعة.

ومع ذلك، انتهى الحكم إلى نتيجة معاكسة لتلك الحقائق، إذ منح الأرض للطرف الآخر استنادًا إلى "الإيمان الديني" و"التقاليد الشعبية" التي تؤكد وفق الادعاء أن الموقع هو مسقط رأس الإله راما. هذا الانتقال من المجال القانوني إلى العقدي هو ما أثار استغرابًا واسعًا في الأوساط الحقوقية والأكاديمية، خاصة أن المحكمة نفسها أقرت بعدم وجود أدلة أثرية قاطعة تحدد موقع الميلاد بدقة.

أثر الحكم على وضع المسلمين في الهند

أدى الحكم إلى إحساس عميق لدى قطاعات واسعة من المسلمين بأن مكانتهم القانونية قد تراجعت. فالحكم لم يكتفِ بنزع ملكية مسجد تاريخي من المسلمين، بل فتح الباب لمطالبات مشابهة في أماكن أخرى. ومنذ صدور الحكم، بدأت دعاوى جديدة ضد مساجد عريقة مثل مسجد غيان وابي في فارانسي، حيث سُمح بزيارات دينية هندوسية لمواقع داخل المسجد، وأجريت مسوح أثرية اعتبرها المسلمون خطوة لفتح الباب أمام سيناريو جديد مشابه لبابري.

كما ظهرت مطالبات متجددة بشأن مسجد شاهي إدغاه في ماثورا، ومساجد في ولاية أوتار براديش، بل ووصل الأمر إلى مساجد في سنبهل وراجستان وغيرها. وفي كل هذه القضايا، استُخدمت حيثيات حكم بابري كمرجع سياسي وقانوني، حتى قبل صدور أحكام قضائية فيها. وهذا يعني أن الحكم لم يغلق النزاع بل خلق بيئة قانونية جديدة تسمح بإعادة النظر في عشرات المساجد التاريخية تحت ذريعة أنها كانت في الأصل معابد.

وقد أشارت كتابات أكاديمية عديدة إلى أن الحكم أصبح لحظة فارقة في تصور المسلمين لمواطنتهم، إذ تحولوا بحسب تحليل صحفية The Print من مواطنين يطالبون بأرضهم التاريخية إلى مواطنين عليهم إثبات حسن نواياهم تجاه الأغلبية. بل طرحت كاتبة المقال زينب سيكندر سؤالًا لافتًا: "إذا كان دعم بناء رام مندر في أيودهيا هو بادرة حسن نية، فإلى أي حد سيُطلب من المسلمين أن يذهبوا للمحافظة على هذه النوايا؟ وهل سنسمع لاحقًا مطالبات بتحويل تاج محل إلى تيجو مهالايا كما يدّعي البعض؟".

هذه التحولات أثّرت بشكل مباشر على الشعور الجمعي للمسلمين، الذين اعتبروا أن الحكم أكد واقع كونهم "مواطنين من الدرجة الثانية" لأن الدولة لم تحمِ حقهم رغم الاعتراف الواضح بالظلم الذي وقع عليهم. وأصبح السؤال الأكثر تداولًا في النقاشات العامة: إذا كانت المحكمة قد اعترفت بوضوح أن المسجد هُدِم بشكل غير قانوني، فلماذا لم تُعِد بناءه؟ ولماذا تُرك المسلمون يحملون عبء "الحفاظ على السلم الاجتماعي" بينما تُطلق يد الطرف الآخر في إعادة صياغة المجال الديني للبلاد؟

الدلالة الرمزية للحكم وآثاره المستقبلية

لا يمكن قراءة الحكم بمعزل عن التحولات السياسية التي يشهدها المجتمع الهندي. فالحكم جاء في لحظة سياسية تتسم بصعود التيار القومي الهندوسي إلى الحكم، ودمج الدين بالسياسة بصورة غير مسبوقة. وقد اعتبر بعض الباحثين أن الحكم هو جزء من مشروع إعادة تعريف الهوية الهندية بحيث تصبح أكثر قربًا من تصور "الهندوسية الثقافية" وأبعد عن النموذج العلماني الدستوري الذي تأسست عليه الجمهورية عام 1950.

ومن الناحية القانونية، أصبح الحكم مرجعًا لا لتسوية النزاعات فحسب، بل لفتحها. فقد سارعت مجموعات عديدة إلى تقديم دعاوى جديدة ضد مساجد تاريخية، معتبرة أن بابري نموذج قابل للتكرار.

أما من ناحية العلاقات المجتمعية، فقد أدى الحكم إلى تعميق شعور المسلمين بأن الدولة تتخلى عن حيادها، وأن المحاكم رغم مكانتها ليست بمنأى عن الضغوط السياسية. وهذا لا يعني أن القضاء أصبح مسيّسًا بالكامل، لكنه يشير إلى أن القضايا ذات الطابع الديني صارت تحمل عبئًا سياسيًا ثقيلًا قد يحدّ من قدرة القضاء على الحسم الموضوعي الخالص.

خاتمة

إن قضية مسجد بابري لا يمكن قراءتها بوصفها صراعًا على أرض أو بناء، بل بوصفها سردية كاملة تُجسّد التحولات الأيديولوجية والقانونية والسياسية في الهند على مدى قرنين. وقد كشف حكم المحكمة العليا، بما حمله من اعترافات قانونية واضحة ونتيجة مناقضة لها، عن تناقض جوهري في بنية العدالة الهندية حين يتعلق الأمر بالأقليات. كما فتح بابًا لنزاعات جديدة مست مساجد أخرى، ما يعني أن بابري لم يكن نهاية النزاع، بل بدايته.

لقد شعر المسلمون بأنهم خُذِلوا مرتين: مرة حين لم تحمِ الدولة مسجدهم سنة 1949، ومرة حين لم تعُد المحكمة العليا المسجد إلى موضعه سنة 2019 رغم الاعتراف الواضح بالأخطاء التي مورست ضدهم. ولذلك، فإن رفضهم للحكم لم يكن رفضًا للقضاء كمؤسسة، بل رفضًا لمنطق حكم رأوا فيه مكافأة لمن مارس الانتهاك ومعاقبة لمن تم الاعتراف بأنه كان ضحية له.

 

أعلى