غدر الحشاشين بزعماء أهل السنة والفتك بهم
لما كان أهل السنة والجماعة هم حاملو راية الحق، ينهلون من الكتاب والسنة عقائدهم
وتصوراتهم وعباداتهم ومعاملاتهم وسلوكهم وأخلاقهم، ويتمسكون بالدين الحق الذي بعث
به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أغاظ ذلك الباطنية الملاحدة الذين يضمرون العداوة
والبغضاء لمن هو على النهج المستقيم، فراحوا يحيكون الدسائس والمؤامرات لاغتيال
رموز أهل السنة وزعمائهم، "فأخذوا في التمكين لأنفسهم بتحصين قلاعهم وحشدها بالجند
من (الفداوية)، مع التركيز على تدربيهم في مدرسة الكهف
[1]؛
إذ حولوا شباباً في مقتبل العمر إلى مجموعات من القتلة المحترفين لا يهابون الموت
ولا يخشون الردى في سبيل تحقيق أغراض شيخهم ونيل مرضاته، فباعوا آخرتهم بدنيا
غيرهم، وذلك الخسران المبين.
لقد كان من المحتم أن يصطدم أهل السنة بالباطنية، فهم من غلاة الشيعة الذين امتلأت
صدورهم كراهيةً وحقداً على أهل السنة والجماعة، فواصلوا مهنتهم في الاغتيالات التي
جعلتهم مروعين يخشاهم كثير من الناس؛ ولهذا الغرض سيطروا على عدة قلاع بين حمص
وحماة ينطلقون منها لترويع الآمنين، ولمباشرة أعمالهم الإجرامية ضد زعماء السنة في
تلك الفترة الحرجة من تاريخ المسلمين.
وقد افتتح الباطنية نشاطهم في بلاد الشام بقتل "جناح الدولة" أمير حمص سنة 479هـ
(1103م)
[2]
، ثم قتلوا "خلف بن ملاعب" صاحب أفامية بعد ذلك بثلاث سنوات؛ حيث قام "أبو طاهر
الصائغ العجمي زعيم الحشاشين بإرسال جماعة من أهل سرمين لاغتياله فقتلوه في 26 من
جمادى الأولى سنة 499هـ (1105م)، وظل حصن أفامية بيد الباطنية حتى أخذه الفرنجة
منهم في عام 500هـ (1106م)"
[3].
وكان السلطان مودود –رحمه الله – أول من حرّك مشاعر الجهاد عند الأمة الإسلامية،
فبدأ تحركه ووصل إلى دمشق. وكان أول من بدأ المعارك حتى حطم أسطورة الجيش الصليبي
الذي لا يقهر، وأعاد للمسلمين الثقة بالنصر. فعندما وصل إلى دمشق اغتاله الباطنية
في الجامع الأموي بعد صلاة الجمعة؛ ولهذا قال الصليبيون كلمة أصبحت مثلاً: "إن أمة
قتلت عميدها، في يوم عيدها، في بيت معبودها، لحقيق على الله أن يبيدها". فالصليبيون
أنفسهم لم يصدقوا أن أحداً ينتسب لهذه الأمة يغتال السلطان مودود في داخل المسجد في
يوم الجمعة في شهر رمضان وهو صائم من أجل أنه أراد أن يجاهد الصليبيين!"
[4].
وفي عام 503هـ (1109م) هاجم الباطنية حصن شيزر على حين غفلة من أهله فملكوه وأخرجوا
من كان فيه، منتزعين إياه من أصحابه بني منقذ
[5].
ولم يلبث أن وفد على الشام من فارس أحد زعماء الباطنية واسمه "بهرام"، فنزل في حلب
ثم انتقل إلى دمشق؛ حيث حظي برعاية أميرها طغتكين، "وأكرم لاتقاء شره وشر جماعته،
وحملت له الرعاية وتأكدت به العناية"، كما يقول القلانسي
[6].
على أنه خشي أهل دمشق وهم من السنة فمازال يسعى عند "طغتكين" حتى منحه حصن بانياس
عام 520هـ (1126م)، ويذكر ابن الأثير أن تسلمه هذا الحصن جاء كارثة على البلاد؛ إذ
عظم به الخطب وحلت المحنة بظهوره، واشتد الحال على الفقهاء والعلماء وأهل الدين
لاسيما أهل السنة
[7].
أما ابن القلانسي فيقول بأن "بهرام" لم يكد يستولى على بانياس حتى "اجتمع إليه
أوباشه من الرعاع والسفهاء والفلاحين والعوام وغوغاء الطغام الذين استغواهم بمحاله
وأباطيله، واستمالهم بخدعه وأضاليله، فعظمت المصيبة بهم وحلت المحنة بظهور أمرهم،
وضاقت صدور الفقهاء والمتدينين والعلماء وأهل السنة والمقدمين..."
[8].
وهكذا لم يستطع الناس الاعتراض على أعمال الباطنية، نظرا لحماية "طغتكين" لهم من
ناحية، ولعنف وسائلهم ووحشية انتقامهم من ناحية ثانية؛ "إذ شرعوا قتل من يعاندهم
ومعاضدة من يؤازرهم على الضلال، ويرافدهم بحيث لا ينكر عليهم سلطان ولا وزير ولا
يفلُّ حدَّ شرهم متقدم ولا أمير"
[9].
وفي عام 520هـ (1130م) قتلوا "البرسقي" أتابك الموصل
[10]،
وفي عام 523هـ (1130م) أرسل الباطنية من مركزهم في قلعة آلموت اثنين من الباطنية
لقتل "تاج الملوك بوري" أتابك دمشق والانتقام منه لما حل بإخوانهم في دمشق وبانياس.
وقد تحايل هذان القاتلان على تنفيذ غرضهما حتى نجحا في الاعتداء على بوري، ولكن
إصابته لم تكن قاتلة، فأبرأ وفشلت خطة الباطنية
[11].
ويروي أبو شامة المقدسي في تاريخه حاول الباطنية اغتيال "صلاح الدين الأيوبي" قاهر
الصليبيين وأسد حطين مرتين، ولكن المحاولتين فشلتا بإذن الله، ولم يصب بأذى. ففي
عام 570هـ (1174م) بعث "سعد الدين غومشكين" بمبلغ كبير من المال إلى "سنان" زعيم
الباطنية من أجل أن يغتال "صلاح الدين"، فأرسل "سنان" عددا من رجاله فهاجموا "صلاح
الدين" على حين غرة إلا أنهم قتلوا جمعيا دون أن يتمكنوا من إزهاق روحه؛ إذ بدر
واحد من الحشاشين الذين اختلطوا بجند السلطان وبيده سكيناً مشهوراً قاصداً السلطان
ليهجم عليه في خيمته، فلما صار إلى باب الخيمة اعترضه "طغويل أمير جاندار" فقتله،
وطلب الباقون فقتلوا بعد أن قتلوا جماعة من الجند
[12].
وفي عام 571هـ (1107م) تقدم "صلاح الدين نحو قلعة عزاز، وبينما كان يحاصر تلك
البلدة، وثب عليه أحد الباطنية وهو في زي الجند وطعنه بخنجر في رأسه، لكن صفائح
الحديد المدفونة في خوذته عاقته ولفحت المدية خده فخدشته، وأمسك صلاح الدين
بالباطني الذي استمر في هجومه عليه دون أن يتمكن من طعنه، وقتل وهو على هذه الحال
من قبل مرافقي السلطان. ثم وثب آخر على السلطان وقتل أيضا، وخرج آخر من الخيمة
منهزما فثار عليه الجند فقطعوه
[13]،
وردّ الله تعالى كيد الباطنية في نحورهم، فلم يحققوا بغيتهم.
ويطول بنا الأمر لو حاولنا تسجيل كافة الاغتيالات التي نفذها الحشاشين في رموز
وزعماء أهل السنة.
وهكذا أثر انتشار المذهب تأثيراً سلبياً في مجريات الأحداث في تلك الفترة القلقة من
تاريخ المسلمين؛ إذ ظل أهل السنة منهكي القوة، مشتتي الجهود بين القضاء على خطرين
جسيمين: الباطني والصليبي.
لكن الخطر الباطني كان أفدح وأدهى وأمر؛ إذ كان يمس الجبهة الداخلية في الصميم،
تتزعمه مجموعة من المنافقين المرتدين المندسين في صفوف المسلمين الذين انخلعوا من
ربقة الإسلام واستحلوا المحرمات.
ويصف المؤرخ كمال الدين بن العديم حالهم بقوله: "في عام 572هـ (1176م)" انخرط سكان
جبل السماق في الآثام والفسوق، وأسموا أنفسهم المتطهرين، واختلط الرجال والنساء في
حفلات الشراب، ولم يمتنع رجل عن أخته أو ابنته، وارتدت النساء ملابس الرجال، وأعلن
أحدهم بأن سناناً هو ربه"
[14].
وهكذا ظلت طائفة الإسماعيلية الباطنية مصدرا خطيرا للانحلال الفكري والسياسي
والاجتماعي في بلاد الشام خلال عصر الحروب الصليبية، في وقت كان المسلمون في حاجة
ماسة إلى من يشد أزرهم ويعضد قوتهم، لا إلى من يقوض وحدتهم، ويشتت جهودهم، وينسفهم
من الداخل.
المقدمة 1 2 3 4 5 6 7 الخاتمة
[1]- أنظر:
ميشيل لياد: الإسماعيليون، ص 106.
[2]- سعيد عبد
الفتاح عاشور: تاريخ العلاقات بين الشرق والمغرب، ص 345.
[3]-
علي عبد السميع الخبزوري: الحروب الصليبية، ص 228.
[4]-
أسامة بن منقذ: الاعتبار، ص 77.
[5]-
سفر الحوالي: عوامل نجاح الحروب الصليبية، أنظر: شبكة المعلومات الدولية، على
الرابط التالي:
http://www.alhawali.com/index.cfm?method=home.SubContent&ContentID=1502
[6]-
تاريخ دمشق، ص 342.
[7]-
الكامل في التاريخ ج8، ص319.
[8]-
ذيل تاريخ دمشق، ص 225.
[9]-
ابن القلانسي: تاريخ دمشق، 343.
[10]-
ابن العديم: زبدة الحلب من تاريخ حلب، ج 2، ص 598.
[11]-
ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق، ص 230.
[12]-
كتاب الروضتين، ج 2، ص 350.
[13]-
المصدر السابق، ج 2، ص 309، 412.
[14]-
زبدة الحلب من تاريخ حلب، ج 3، ص 777.