• - الموافق2024/10/30م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أوكرانيا ليست كسوريا.. حين لا تشبه الليلة البارحة!

تتوقع الأمم المتحدة أن يغادر أكثر من 4 ملايين شخص من أوكرانيا، ومن المتوقع أن تصبح هذه هي أكبر أزمة لاجئين في أوروبا خلال هذا القرن، معظم اللاجئين الأوكرانيين دخلوا إلى بولندا والمجر ومولدوفا وسلوفاكيا ورومانيا


من المؤلم مشاهدة الصور ومقاطع الفيديو التي تصور وحشية الحرب، إذ تحمل الحروب دائما مآسي لا متناهية؛ دمار وخراب وقتلى ومصابين ولاجئين، وحين يحاول الناجون من ويلات الحرب الفرار من مناطقهم المنكوبة بالمعارك وعبور الحدود إلى بلدان أخرى آمنة في الجوار، تظهر هنا مفارقة عجيبة، فعلى من اجتازوا بنجاح قنابل الموت أن يجتازوا حواجز العنصرية المقيتة التي تحول دون سلامتهم وحريتهم والتي تصنفهم طبقًا للدول التي أتوا منها، وكمثال واضح على هذا الأمر يمكننا رؤية استجابة أوروبا السريعة للاجئين من أوكرانيا والتي كانت موضع استغراب شديد، كونها تتناقض بشدة مع استجابتها للاجئين من الصراعات في أفغانستان والعراق وفلسطين وسوريا وليبيا والصومال واليمن، فحين تقطعت السبل بهؤلاء على حدود بلغاريا وبيلاروسيا وبولندا أواخر العام الماضي، وتضوروا جوعًا وتجمدوا من شدة البرد في الغابات، كانت قوات حرس الحدود في تلك الدول لهم بالمرصاد، لم تكن الأسلاك الشائكة وحدها هي من تمنعهم من دخول الاتحاد الأوروبي، بل تطوع مواطنو تلك الدول أيضا لمنع دخول اللاجئين بعد حالة التعبئة النفسية والدعائية التي انتشرت في أوروبا ضد اللاجئين، وتطور الأمر إلى قيام بعضهم باستخدام الخيول وكلاب الصيد لتقفي أثر اللاجئين والقبض عليهم، وأطلق عليهم الإعلام الغربي "صائدو اللاجئين".

تتوقع الأمم المتحدة أن يغادر أكثر من 4 ملايين شخص من أوكرانيا، ومن المتوقع أن تصبح هذه هي أكبر أزمة لاجئين في أوروبا خلال هذا القرن، معظم اللاجئين الأوكرانيين دخلوا إلى بولندا والمجر ومولدوفا وسلوفاكيا ورومانيا، وقد لقوا ترحيبًا حارًا بهم، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي. فرئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، قال إن "الأوكرانيين الذين يصلون إلى المجر يأتون إلى مكان ودود يرحب بهم"، وهو ذاته الذي قال قبل أشهر قليلة عندما كان المئات من اللاجئين من سوريا والعراق على حدود بلاده، إن "المجر كانت تحافظ على سياسات الهجرة التقييدية، وبالتالي لن نسمح لأي شخص بالدخول"، يُنظر إلى الفارين من أوكرانيا على أنهم مختلفون عن اللاجئين الآخرين، وكان رئيس الوزراء البلغاري، كيريل بيتكوف، واضحًا حين ميّز بشكل علني بين الفارين من أوكرانيا وغيرهم، حيث قال: "هؤلاء الأشخاص أوروبيون، هؤلاء الأشخاص أذكياء، إنهم أناس مثقفون، هذه ليست موجة اللاجئين التي اعتدنا عليها، كأولئك الذين لم نكن متأكدين من هويتهم، أو لديهم ماض غير واضح، والذين يمكن أن يكونوا إرهابيين"، أما وزير الداخلية البولندي، ماريوس كامينسكي، فقال: "سنبذل قصارى جهدنا لتوفير مأوى آمن في بولندا لكل من يحتاج إليه من الأوكرانيين"، وعلى الحدود البولندية يوزع حرس الحدود وجبات ساخنة على الأوكرانيين الماكثين في غرف انتظار راقية، في حين تبرع المواطنون البولنديون بأكوام من ألعاب الأطفال والملابس، ويعرض آخرون المساعدة بسياراتهم لنقل الأوكرانيين إلى حيث يريدون الذهاب في الداخل البولندي أو إلى أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي، صحيح أن أوكرانيا ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، ولكن مسموح للمواطنين الأوكرانيين بالسفر إلى دول الاتحاد بدون تأشيرة، وخلال الأزمة الراهنة وافق الاتحاد الأوروبي على خطة طوارئ تسمح للأوكرانيين بالعيش والعمل في دوله لمدة تصل إلى 3 سنوات.

لم تكن التصريحات الرسمية وحدها هي التي تعبر عن هذا الوضع المتناقض، فالتغطيات الإعلامية أيضا كانت متحيزة وتنم عن عنصرية واضحة بجلاء، قال تشارلي داجاتا، كبير المراسلين الأجانب في شبكة "سي بي إس نيوز" الأمريكية، واصفًا القتال في كييف: "كما تعلمون، هذه مدينة متحضرة نسبيًا وأوروبية، لا يمكن أن يحدث فيها ذلك، لم نكن نتوقع أن نرى في أوكرانيا نوع الصراع العسكري الذي ابتُلي به الشرق الأوسط"، أما المراسل فيليب كوربي من قناة "BFM" الفرنسية فقال خلال إحدى التغطيات: "لا نتحدث هنا عن فرار سوريين من قصف النظام السوري المدعوم من فلاديمير بوتين، نحن نتحدث عن مغادرة أوروبيين في سيارات تشبه سيارتنا". تزداد المفارقة عندما الغرب لا يرفع عصا العقوبات في وجه الاحتلال الإسرائيلي رغم أن جرائمه اليومية وحربه المستمرة ضد أهل فلسطين لا تقل بشاعة عما يحدث في أوكرانيا، بل إنه لم يرفعها في وجه روسيا ذاتها عندما اجتاحت قواتها أراضي سوريا وعاثت فيها فسادًا، يتساءل البعض لما لم يكتفِ الغرب كعادته في مثل هذه الأمور بالشعور بالقلق والاستنكار وتوجيه اللوم الشديد؟!، بل تتواصل سياسة بالكيل بمكيالين في الرياضة والثقافة، حين تهب المنظمات الرياضية والثقافية الدولية لعزل روسيا وحرمانها من المشاركة في جميع الفعاليات الدولية، بالرغم من تصديع رؤوسنا طوال الوقت بعدم خلط السياسة بالرياضة عندما يقدم لاعب أو فريق عربي على رفض المشاركة أمام لاعب أو فريق صهيوني في بطولة رياضية دولية.

ليس هذا فحسب، بل إن بعض الحكومات الغربية تسعى لتغيير قوانينها تماشيًا لحالة الدعم المفتوح للأوكرانيين، إذ أقدمت الحكومة الدنماركية على إعفاء اللاجئين الأوكرانيين من "قانون الأموال والمجوهرات" المثير للجدل، وهو القانون الذي تم سنّه في عام 2016 والذي يُسمَح بموجبه للشرطة بمصادرة الأشياء الثمينة والنقود والمجوهرات التي تزيد قيمتها عن 10 آلاف كرونة دنماركية من المهاجرين وطالبي اللجوء وذلك بهدف تمويل إقامتهم في الدنمارك، طبقت الحكومة الدنماركية هذا القانون على غالبية اللاجئين من سوريا التي مزقتها الحرب في الوقت الذي تم فيه سنّ القانون، الآن تقدم الحكومة الدنماركية على التنازل عن هذا القانون بسبب أن الأوكرانيين جيران للدنمارك، كما أبدت دول أوروبية كبرى مرونة كبيرة لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين، وأصدرت قرارات لتسهيل استقبالهم وإقامتهم، في تناقض صارخ مع سياسة الطرد والرد التي اتبعتها عند التعامل مع طالبي اللجوء من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتي تشهد أيضًا صراعات عنيفة أشد من الصراع الروسي الأوكراني في بعض الأحيان، من الواضح أن العرق والهوية قد أثرتا في استجابة أوروبا لأزمة اللاجئين هذه، فالبياض الأوكراني والديانة المسيحية والميول الأوروبية كلها مؤهلات جعلت اللاجئين الأوكرانيين أكثر قبولًا من اللاجئين السابقين، أصبح كون الشخص أبيضًا ويملك أعينًا زرقاء، مبررًا كافيًا وسببًا مقنعًا للعبور إلى بر الأمان، وعلى النقيض من ترحيب أوروبا بالأوكرانيين، تقطعت السبل بآلاف المهاجرين من العراق وسوريا وأفغانستان ودول أخرى على حدود أوروبا طيلة السنوات الماضية، والمؤسف أكثر أنه حتى خلال أزمة اللجوء الراهنة، فإن التمييز كان واضحًا ضد الطلاب من إفريقيا وجنوب آسيا الذين كانوا يدرسون في أوكرانيا، فهناك العديد من التقارير التي تحدثت عن عدم السماح للسود والعرب بركوب القطارات من قبل الجنود الأوكرانيين، وجرى تركهم عالقين على المعابر الحدودية لعدة أيام في ظروف وحشية، وفي المقابل تمت إتاحة الفرصة أولًا للأوكرانيين البيض، وصلت العنصرية مداها الأقصى لدرجة أن هناك تقارير تحدثت عن السماح للحيوانات بركوب القطارات قبل الأفارقة والآسيويين والشرق أوسطيين، الذين وصل بعضهم سيرًا على الأقدام إلى الحدود البولندية، وعندما وصلوا إليها قوبلوا بالإساءة اللفظية والجسدية لدى وصولهم.

كان المقصود في البداية من ما يسمى باتفاقية اللاجئين التي وقعتها 145 دولة في عام 1951، حماية الأشخاص الذين نزحوا نتيجة الحرب العالمية الثانية في أوروبا، لكنها أصبحت سلاحًا استخدمته أوروبا لمحاربة روسيا إبان الحرب الباردة، حيث بدأت الدول الأوروبية في استخدامه كإطار قانوني لاستيعاب الأشخاص الذين أرادوا مغادرة دول الاتحاد السوفيتي، خاصةً العلماء وبعض الفئات الأخرى، وفي الأزمة الراهنة يرى البعض أن هناك مبررات جوهرية لوجود مثل هذه الاختلافات بين الترحيب الأوروبي الحار للقادمين من أوكرانيا الآن وبين الإهانة القاسية للقادمين من غيرها، فالأمر لا يرجع إلى العنصرية وحدها، بل يرجع إلى أسباب أخرى متعلقة بالروابط التاريخية الطويلة بين شعب أوكرانيا وشعوب الدول المجاورة لها، كما أن مخاوف الإرهاب على مدى العقدين الماضيين حالت دون استقبال المهاجرين من البلدان التي ينظر إليها الغرب على أنها تمثل تهديدًا أمنيًا بالرغم من الدور الغربي في ظهور الإرهاب في تلك المناطق بالأساس، لقد كشفت الأزمة الأوكرانية الأخيرة حقيقة النظرة الغربية إلى المهاجرين واللاجئين، وتغيرت طبيعة النقاش حول قضيتهم، لم يعد الأمر مجرد مقارنة بين قضية إنسانية بحتة أو مخاوف تتعلق الأمن القومي، لقد تعرّى الغرب تماما خلال هذه الحرب، وستكشف الأيام المقبلة المزيد من زيف مزاعمه.

 

أعلى