• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مواجهة عسكرية بين المسلمين والفرنجة

مواجهة عسكرية بين المسلمين والفرنجة


هذه قصة وقعة حربية بين المسلمين والفرنجة، وقعت في سهول جنوب غرب فرنسا، في مطلع عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك (101-105هـ)، قبل معركة بلاط الشهداء الشهيرة باثني عشر عاماً، ولم تأخذ حظها من التأريخ. ويأتي هذا المقال لتسليط الضوء على هذه المعركة، وملابساتها، وأحداثها، ونتائجها، وفيما يلي نبدأ القصة من أولها:

أولاً: الجهاد وراء جبال البرت بعد فتح الأندلس:

بعد استكمال فتح الأندلس سنة 95هـ/ 714م، تطلع القائد الكبير موسى بن نصير لعبور جبال البيرينية، التي تفصل بين إسبانيا وفرنسا، والتي تتخللها ممرات تصل بين البلدين، تسمى البُرتَات أو الأبواب، بتعريب التسمية، وذلك لفتح ما وراءها من بلاد، وهي البلاد التي كان المسلمون يطلقون أعليها آنذاك اسم «الأرض الكبيرة»، والتي تشمل بلاد الغال، أو الغول، أو غالة، والواقعة في الشمال الشرقي من الأندلس، خلف جبال البيرينية مباشرة، والتي عرفت أيضاً باسم «بلاد الفرنجة» آنذاك، قبل أن يتحول اسمها إلى فرنسا بعد ذلك بنحو ثلاثة قرون. وكان هذا القائد يطمح إلى افتتاح روما عاصمة العالم الكاثوليكي ومقر البابوية، وغير ذلك من بلدان غرب أوربا، ثم الانطلاق منها شرقاً لفتح القسطنطينية، بعد أن استعصت على جيوش الإسلام التي غزتها من ناحية الشرق، والعبور منها إلى دمشق عاصمة الخلافة الأموية. بيد أن استدعاء الخليفة الوليد بن عبد الملك (86-96هـ)، له للعودة إلى دمشق ومسارعته لتنفيذ هذه الدعوة في آخر عام 95هـ حال دون تنفيذ هذا المشروع الضخم، كما أنه على إثر ذلك، توقفت الفتوحات فيما وراء جبال البرت حتى حين. فقد انشغل ابنه والوالي من بعده، عبد العزيز، بتوطيد الفتح في شبه الجزيرة الأيبيرية، قبل أن يقتل من خلال مؤامرة دبرها له كبار الجند، ولم يكن قد أكمل السنتين من ولايته، فخلفه ابن عمته أيوب بن حبيب اللخمي (رجب 97 - ذو الحجة 97هـ)، والذي انطفأ نجمه بعد خمسة أشهر فقط من ولايته، فحل محله الحر بن عبد الرحمن الثقفي (ذو الحجة 97 - رمضان 100هـ)، واقتصرت أعمال هذا الوالي على نقل مقر ولاية الأندلس من أشبيلية إلى قرطبة، واختطاط قصر قرطبة الكبير مقاماً للعمال من ذلك الحين، ثم لم يلبث أن عزله الخليفة عمر بن عبد العزيز (صفر 99 - 101هـ) في منتصف سنة 100هـ، لقسوته وصرامته واضطراب النظام في عهده، وعين محله السمح بن مالك الخولاني لما خبره منه من أمانة وديانة، وفصل الأندلس عن ولاية إفريقية، وجعلها ولاية مستقلة تتبع الخلافة مباشرة، وذلك اعتناء بها واهتماماً بشأنها، وأمر السمح أن يستكمل تخميس أرض الأندلس، وأن يكتب له بصفة الأندلس، وبحرها، وأنهارها، وهيئة مجازها، فدخل السمح الأندلس في رمضان سنة 100هـ، وفعل ما أمره به الخليفة عمر بن عبد العزيز، وقام بترميم الأجزاء المتخربة من سور قرطبة، كما أنه بنى القنطرة على نهر الوادي الكبير. وكان السمح بن مالك من أفضل الولاة الذين تولوا أمر الأندلس، وكان رجلاً عظيم الإيمان والحماس، كما كان من خيار أهل زمانه ثقة وعدالة، وفي عهده تجددت حركة الفتوح فيما وراء جبال البرت، بصورة جدية ومنظمة، وهي الفتوحات التي استمرت لأكثر من عشرين عاماً بعد ذلك.

ثانيا: حملة السمح بن مالك على غالة:                

في رمضان سنة 102هـ خرج السمح بن مالك أمير الأندلس على رأس حملة عسكرية، واخترق جبال البيرينية من جهة الشرق، أي من الممر الساحلي التقليدي، أو ممر قطالونيا، في ناحية برشلونة على البحر المتوسط، وأفضى إلى أراضي مقاطعة سبتمانيا، الواقعة فيما وراء السفوح الشمالية الشرقية لجبال البرت في جنوب شرقي فرنسا، وتمكن من فتح المدينة المهمة نربونة عاصمة المقاطعة، ومعظم مدن هذه المقاطعة، وكانت سبتمانيا حينذاك تابعة للقوط الغربيين في إسبانيا، برغم الحاجز الجبلي بينهما، ولم تكن تابعة للدولة الفرنجية (فرنسا)، برغم أنها جغرافياً وطبيعياً جزء منها، وهي شريط من الأرض يمتد بمحاذاة ساحل البحر المتوسط جنوبي فرنسا، من جبال البرتات حتى مصب نهر الرون. وقد أقام السمح بن مالك حكومة إسلامية في هذه المقاطعة واتخذ نربونة عاصمة لها، بعد أن قام بتحصينها وشحنها بالمؤن والمقاتلين، حتى تصد غارات من يهاجمها. وكانت غالة آنذاك مقسمة إلى عدد من المقاطعات أهمها: دوقية أكيتانية، التي يسميها المؤرخون العرب «أقطانية»، أو «أكيطانية، الواقعة في جنوب غرب فرنسا، بين نهر اللوار شمالاً، ونهر الجارون جنوباً، ونهر الرون شرقاً وخليج بسكاي غرباً، ثم مقاطعة بروفانس في شمال سبتمانيا الشرقي، وعاصمتها أبنيون، على نهر الرون، وإلى الغرب من هذا النهر تقع مقاطعة برغندية، وعاصمتها ليون، وكانت المنطقة الواقعة في شمال أقطانية بعد نهر اللوار خاضعة للدولة الميروفنجية، وعاصمتها باريس. أما فرنسا كاصطلاح جغرافي لم تكن قد وجدت بعد ككتلة واحدة أو كوحدة سياسية، وكذلك لم تكن قد تكونت بعد اللغة الفرنسية آنذاك، ولكن جذور فرنسا المستقلة كانت قد وضعت وهيئت الأسباب والعوامل لنشوء الأمة الفرنسية. واختار السمح بن مالك بعد أن استكمل فتح سبتمانيا التوجه إلى فتح دوقية أقطانية، وكانت تمثل مركز الثقل لدى الفرنجة، بعد المملكة الفرنجية الواقعة في شمالها، وكانت أقطانية من أغنى الدوقيات وأوسعها في حوض نهر الجارون في جنوبي غالة، واشتهرت بخصوبة أرضها، وبوفرة إنتاجها من القمح والفاكهة، كما اشتهرت بكثرة مياهها وأنهارها، التي تتغذى من ذوبان الثلوج، ومن ذلك اشتق اسمها «أكيتانية»، والذي يعني باللاتينية «بلاد المياه»، وفيها المدن الشهيرة، تولوز، وبواتييه، وبوردو (أكبر مدن الإقليم حينذاك)، وكان أدواق هذه المقاطعة يطمحون دائماً إلى الاستقلال عن المملكة الفرنجية، ربما منذ الربع الأخير من القرن السابع، وكان سيدها حينذاك هو الدوق أودو أو أوديس، وكانت قاعد حكمه هي بوردو، على مصب نهر الجارون، في جنوب غربي فرنسا، على بعد 96كم من المحيط الأطلسي.

والمهم أن السمح بن مالك زحف على رأس جيشه، شمالاً بغرب، لغزو دوقية أقطانية، فعبر نهر الجارون لفتح مدينة طولوشة (تولوز)، بوابة الدخول إلى هذه المقاطعة، ولكن أهلها أغلقوا أبوابها دونه، ففرض الحصار عليها، وبدأت محاولات المسلمين لاقتحامها. وعند ذلك تحرك الدوق أودو لإنقاذ هذه المدينة المحاصرة قبل أن تسقط في أيدي المسلمين، وبدأ بذلك النضال بين العرب والفرنج في بسائط غاليس قوياً.

ثالثاً: الدوق أودو واستعداده لرد المسلمين:

كان الدوق أودو ينتمي إلى الأسرة الميروفنجية، زعيمة قبائل الفرنج في غالة، وكان من ذرية الملك كلوفيس، مؤسس الدولة الفرنجية، فكان يكره، بطبيعة الحال، حجّاب القصر، الذين استبدو بالأمور من دون الملوك، ولم يبق لهم هم إلا توطيد سلطتهم وسلطة جنس الفرنج في تلك المملكة، مما ثنى أعنتهم عن صد العرب عن جنوبي فرنسا. وكان أودو أقوى أمراء الفرنج في جنوبي غالة، وكان عظيم الطموح واسع الأطماع متصل النشاط، وكان أثناء الاضطراب الذي ساد مملكة الفرنجة قد استقل بهذه المقاطعة الغنية والواسعة، وبسط حكمه على القسم الأكبر من جنوبي فرنسا، من اللوار إلى جبال البرينيه، والتف حوله القوط، والبشكنس (النفاريون) سكان تلك الأنحاء. بل كان الدوق أودو يطمح إلى انتزاع ملك الفرنج برُمَّته من رئيس البلاط، وهو شارل، زعيم الفرنج المتغلِّب، ومن ثم إعادة ملك أسرته الميروفنجية في غالة. وعشية عبور السمح بن مالك إلى غالة كان كل منهما يعد العدة لمجابهة الآخر، فكانت الحرب على وشك الوقوع بينهما. بيد أن الدوق أودو عندما رأى المسلمين يزحفون نحو بلاده أرتأى أن خلافه مع شارل يمكن تأجيله أمام التحدي الأكبر والخطر الوشيك القادم من الجنوب، ولذلك فقد صالح شارل وقرر أن يشتغل ولو إلى حين برد المسلمين. وهذا الصلح قد ضمن لأودو دعماً مادياً ومعنوياً يساعده على حشد كل قوته، واستنفار الأقاليم المجاورة للوقوف إلى جانبه وهو آمن من أن توجه له طعنة في الظهر من قبل خصمه القوي شارل رئيس البلاط، وما كان لشارل أن يطعن أودو في ظهره وهو منصرف لقتال المسلمين، لأنه لو فعلها فسيجد نفسه في مواجهة مباشرة مع المسلمين، مواجهة ربما أنه لم يكن مستعداً لها بعد، لأن مركزه لم يكن قد استقر على رأس مملكة الفرنجة على النحو الذي يريده. فكان الحل الأمثل بالنسبة لشارل إفساح المجال أمام أودو ليخوض معركته مع المسلمين في ظروف مناسبة. والمهم أن أودو، دوق أكيتانيا، استطاع أن يجمع جيشاً ضخماً من الفرنجة وبقايا الرومان من أهل دوقية أكيتانيا، ومن حلفائه من الدوقيات المجاورة. وقد وصف مؤرخو العرب، كما قال المسشرق الفرنسي رينو، كثرة جيش الفرنج، بقولهم: «إن العثُير (الغبار) المتطاير من زحف أقدامهم كان يغطي قرص الشمس من كثرتهم». ثم لم يلبث أودو أن سار على رأس هذا الجيش نحو طولوشة (تولوز)، التي كان يحاصرها المسلمون آنذاك. ولما علم السمح بذلك ارتدّ عن مهاجمة تولوز، وأقبل يتأهب للقاء جيش الدوق أودو، برغم تفوقه على جيشه في العدد، فالتقى الجمعان في ضواحي تولوز يوم عرفة سنة 102هـ/ 10 يونيو 721م.

رابعاً" أهمية معركة تولوز:

هذه المعركة يطلق عليها في المصادر الحديثة الأوربية والعربية اسم «معركة طولوشة أو تولوز»، بينما سكتت مصادر التاريخ العربية القديمة عن تسميتها بأي اسم، اللهم إلا ابن حيان الذي سماها «وقعة البلاط»، ووصفها بـ«الوقعة المشهورة عند أهل الأندلس»، وربما أن هذا قد كان سهواً أو إشارة لغيرها، الأمر الذي أثار خلطاً والتباساً، بينها وبين معركة بلاط الشهداء، بقيادة عبد الرحمن الغافقي (رمضان 114هـ). وتكتسب هذه المعركة أهميتها في التاريخ، من كونها أول صدام عسكري حقيقي بين المسلمين والفرنج، في بسائط غاليس، بل في الأرض الكبيرة كلها! وكانت هذه المعركة ممهدةً لما سيأتي بعدها من معارك في سياق الحرب الطويلة التي دارت بين المسلمين والفرنجة في هذه البلاد، والتي امتدت لحوالي أربعة عقود. ومما لا شك فيه أن حملة السمح هذه كانت ستحدد في جميع الأحوال مصير غاليسيا الجنوبية لو لم يتصدّ لزحفه دوق «أكيتانيا» الأمير «يودو» أو «أوديس»، الذي خف لفك الحصار المضروب حول طولوشة، وألحق بالمسلمين الهزيمة، وهي الهزيمة التي تعتبر أول نكسة للمسلمين في أرض غاليا (فرنسا)، بل أول نكسة في تاريخ المسلمين العسكري منذ أن وطأت أقدامهم البر الأوربي. وكانت هذه الهزيمة، كما دلت على ذلك الوقائع التالية، هي الدلالة الأكيدة على اكتمال الفتوحات في هذه الناحية، وعلى أنها قد بلغت مداها. وهناك مؤرخون غربيون، وعلى رأسهم المؤرخ التولوزي سيدني فواردو، يعتبرون هذه المعركة، أهم من معركة «تور - بواتية»، وهي تسميتهم لمعركة «بلاط الشهداء»، سنة 114هـ/ 732م - في التصدي لما أسماه «الزحف الإسلامي»، إذ يرى هؤلاء المؤرخون أنه لو كان المسلمون انتصروا على الدوق أودو في هذه المعركة، لتيسر عليهم اجتياح فرنسا كلها، لأن شارل مارتل، رئيس البلاط، الذي كانت بيده مقاليد أمور المملكة الفرنجية آنذاك، لم يكن قد تخلص بعد من متاعبه الداخلية، وبالتالي فهو لم يكن مستعداً بعد لمواجهة المسلمين على الصورة التي صار عليها بعد ذلك باثني عشر عاماً، أي قبيل مواجهته الحاسمة للمسلمين في معركة «تور - بواتيه». في حين هناك مؤرخون غربيون آخرون، مثل بول ك. دافيس، يشيرون إلى أن انتصار ما سماها «المسيحية» في تولوز كان هاماً في المنظور التاريخي على المدى البعيد، كونه أعطى شارل مارتل الوقت الذي يحتاجه لتعزيز قبضته على السلطة، وتوطيد سلطانه، وبناء الجيش الخبير، الذي وقف به في مكان جيد في تور، بعد ذلك بإحدى عشرة سنة. ومهما كان من أمر، فإن هذه المعركة كانت بين جيشين فتيين، كل منهما تعمر نفوس أصحابه الآمال، ولم يألف أحدهما أساليب الآخر في القتال، وكل منهما تدفعه رؤية عقيدية قدماً للقتال بضراوةٍ واستماتة.

خامساً: أحداث معركة تولوز:

تذكر بعض المصادر أن أودو انقض على مؤخرة جيش المسلمين، وشنّ هجمة سريعة حاصرت هذا الجيش، هذا الأخير الذي وقع بين جيش الدوق أودو والحامية المدافعة عن تولوز. وفي أعقاب ذلك نشبت بين الطرفين معركة هائلة تلاحمت فيها الرماح والسيوف وحمي الوطيس، واتسم القتال فيها بالشدة والعنف، وسالت فيها الدماء غزيرة، وكثر القتل في الجيشين، وتكدست الجثث في أرجاء ميدان المعركة. ولكن برغم ثقل هجمة الجيش الفرنجي وتفوقه العددي، وكون أفراده كانوا يقاتلون على أرضهم، وفي مناخات اعتادوا عليها، ومناطق كانوا على دراية بجغرافيتها وطرقها ومسالكها، فقد أبدى المسلمون برغم قلتهم شجاعة خارقة، وكسر قوادهم أغماد سيوفهم، وهم مصممون على إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة، وصبروا صبراً فريداً، وكان السمح بن مالك الخولاني على رأس أولئك الجنود المستبسلين الصامدين، وكان يقاتل قتال الأبطال، وينتقل بين جنوده من مكان إلى مكان لحثهم على الثبات، ولاستنهاض هممهم واستثارة جذوة حماسهم لأقصى درجةٍ، وكان سيفه في أثناء ذلك يقطر من دم الأعداء، وكان يواجه الأخطار ملتحماً، ويسير نحوها متقدماً، ويقتحم الأهوال كالفحل الهائج لا يرد رأسه شيء، أو كالأسد الزائر يحمل على العدو فلا يقف أحد في وجهه، ولم يفقد اتزانه، أو يخور عزمه، أو يطيش صوابه. واستمر القتال، وتراوح النصر حيناً بين الفريقين. وفي عضون ذلك شاء قدر الله أن يُصاب القائد البطل المغوار إصابة بالغة، ويسقط من فوق جواده مضرجاً بدمائه، «وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه فأحاطت بالمسلمين»، وأسرع الأقربون منه من أصحابه بالتوجه نحوه، مقتحمين الصفوف والغبار والأشلاء، فوجدوه يتشحط في دمه، ويعالج سكرات الموت، ثم ما لبث حتى أسلم الروح راضياً مرضياً بعد وقتٍ قصير، فخسر روحه وربح الشهادة، وأصبح في عداد القادة الشهداء. وهذه هي الصفقة الرابحة، قال تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} [التوبة: ١١١]، فإن الذي بايعه بهذا البيع وفي العهد. وفي أعقاب هذا الحادث المفاجئ والأليم شاع الاضطراب في صفوف المسلمين، أولئك الذين أرهقهم طول القتال، مع كثرة جيش عدوهم وحسن استعداده، واشتدّ الأمر وعظم الخطب، وكانت الهزيمة قدراً مقدوراً للمسلمين، بعد استشهاد أميرهم وقائدهم. ولأن حادث مقتل السمح أثناء المعركة قضى على معنويات المسلمين، ولما لم يكن من السهل تفادي الهزيمة، وذلك لاختلال التوازن العسكري بين القوتين في الميدان، وإزاء الحالة السيئة التي بات فيها الجيش الإسلامي، وتكاثر جموع الفرنجة عليه، واليقين بأن هذا الجيش أصبحت تواجهه الهزيمة النكراء، إن لم تكن المذبحة الشاملة، فكّر القائد الجديد، وهو عبد الرحمن الغافقي، في طريقة تنقذ ما تبقى من الجيش، من مصير أسود ينتظره، فبذل الهمة في جمع شتاته، وقاد عملية انسحابه إلى الجنوب ببراعةٍ، ومنه إلى الأندلس.

سادساً: نتائج الحملة:

مع أن هذه الحملة العسكرية قد انتهت بتلك الهزيمة الأليمة تحت أسوار تولوز، وباستشهاد السمح بن مالك الخولاني، وعدد ممن كان معه، إلا أن ذلك لا يقلل من أهميتها، وأهمية النتائج التي ترتبت عليها، وفي مقدمتها بسط السيادة الإسلامية على مقاطعة سبتمانية (لا نجدوك)، بمدنها السبع الكبيرة، ومساحتها الشاسعة الممتدة على طول ساحل فرنسا الجنوبي على البحر المتوسط، من جبال البرت حتى مقاطعة البروفانس، ومن ثم تأسيس ثغر غالة فيما وراء جبال البرتات. كما أن هذه الحملة كانت بالغة الأهمية، بالنسبة للمسلمين من الناحية الاستطلاعية، فقد أطلعتهم على أحوال بلاد غالة، وبالتالي مهدت لما بعدها من حملات عسكرية على هذه البلاد، كحملة عنبسة بن سحيم الكلبي (103-107هـ)، الذي خلف السمح على ولاية الأندلس، والذي اجتاح حوض الرون كله، وتغلغل حتى سانس، على بعد 70كم جنوب شرقي باريس، وهي أبعد مسافة، وصل إليها قائد مسلم في قلب أوربا، وكحملة عبد الرحمن الغافقي ( 112-114هـ)، الذي اكتسح خلالها النصف الجنوبي من فرنسا كله. ففضل الخولاني كبير، وحملته العسكرية في جنوب فرنسا رائدة الحملات في غالة بلا شك، وكان عهد السمح ذا أهمية كبرى في الجهاد في سبيل الله في أرض فرنسا، إذ إنه في عهده بدأت حركة الفتوح تأخذ وضع الاستقرار للجنود المقاتلة والحاميات في أرض غالة، وأصبحت نربونة قاعدة أمامية لإتمام الغزو الإسلامي، في تلك البلاد واتخاذها مركزاً لتجمع القوى الإسلامية للانطلاق منها لفتح فرنسا، وبذلك ضمت مقاطعة سبتمانيا جنوب شرق فرنسا خلف جبال البرت إلى الولاية الإسلامية في الأندلس. وتذكر الحوليات اللاتينية الكنسية أن شيوع انتصار الدوق أودو في معركة طولوشة أشعل الحماسة في قلوب أهالي سبتمانيا والبيرانة والروسيون، ورفع معنوياتهم، فتشجعوا لخلع طاعة المسلمين، فوثب أهالي قرقشونة على الحامية المسلمة التي كان السمح قد جعلها في الحصن، فأسروها واتخذوا أفرادها رهائن لديهم لمساومة المسلمين عليهم فيما بعد. ولم تلبث مدينة نيمة حتى حذت حذو مدينة قرقشونة، وخرجت هي الأخرى عن طاعة المسلمين، كما بدرت بوادر أخرى للتمرد هنا وهناك، في مقاطعات البرتات وما وراءها، والتي كانت قد خضعت للسيادة الإسلامية. ولكن الأمير عبد الرحمن الغافقي، الذي خلف السمح على قيادة الجيش، استطاع أن يخمد بوادر الخروج تلك، وأن يستبقي الجزية المفروضة على أهالي مقاطعات سبتمانيا، باستثناء مدينتي قرقشونة ونيمة، ولكن هاتين المدينتين سيكون للأمير الجديد عنبسة بن سحيم شأن يذكر معهما في حملته على غالة. وبناء على ذلك، وبرغم هزيمتهم في طولوشة فقد ظل المسلمون أقوياء متمكنين في سبتمانيا، وخاصة في نربونة الحصينة، التي احتفظت بمكانتها لديهم، كقاعدة لعملياتهم العسكرية، لفتح البلدان المجاورة، التي سرعان ما استأنفوها بعد أن جاءتهم النجدات من الأندلس.

 

 

أعلى