التنصير في منطقة إفريقيا الغربية خلال عهد الكشوفات الجغرافية  قراءة تاريخية

ولم تقتصر ملامح حقدهم الصليبي على ذلك فحسب، بل تعدَّى ذلك ليصل إلى التواطؤ على استعمار الشعوب المسلمة في غرب إفريقيا وغيرها؛ لبثّ عقائدهم الثالوثية.

 

تُعدّ هذه المرحلة من المراحل المهمة لتاريخ التنصير، فإذا كانت المراحل الأولى قبلها تُعدّ مراحل التأسيس للديانة النصرانية؛ حيث جاءت مرحلة الانطلاق بالقوة بعدها في بعض أجزاء العالم الإسلامي إبَّان الحروب الصليبية؛ فإنَّ الكشوفات الجغرافية تمثل مرحلة الدراسة المسحية الواسعة للمجتمعات المسلمة، وشملت الأرجاء التي وصل إليها المد الصليبي في فترة الحروب، والتي لم يصلها.

وقد ظلَّ الجانب الأكبر من منطقة إفريقيا الغربية آمنًا ومطمئنًا لا تصل إليه أيدي الأوروبيين، حتى بدأ انهيار الوجود العربي الإسلامي في الأندلس، وتساقطت الممالك بعدها الواحدة تلو الأخرى، وظهرت البرتغال كقوة سياسية وعسكرية؛ فاحتلت مدينة سبتة في المغرب الأقصى سنة (1415م)؛ فتطلَّع البرتغاليون حينئذٍ إلى المزيد من الكيد للمسلمين، وفكّروا في فتح طريق مائي عبر إفريقيا من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر؛ لمحاصرة الإسلام والمسلمين بدول نصرانية.

وإذا كانت الفترة السابقة لهذه المرحلة قد تميزت بتركيز النشاط التنصيري على طول ساحل إفريقيا الغربي؛ فقد نهضت كذلك خلال فترة الكشوفات الجغرافية حركة تنصيرية ضخمة من أوروبا، اندفعت من الساحل الأوروبي إلى داخل القارة الإفريقية؛ حيث شكَّلت الكشوفات الجغرافية عاملًا أساسيًّا في إتاحة الفرصة للاندفاع إلى عمق الغابات، وكان من نتائجها أن زوّدت الأوروبيين بمعلومات عن خبايا منطقة إفريقيا الغربية.

كما استفاد في الوقت ذاته، الكثير من المنصّرين من هذه النتائج والمعلومات الدقيقة إفادات عن المعتقدات، والوضع المجتمعي للسكان، وركّزوا على أفكار (دافيد ليفنغستون)[1]، الذي نجحت كتاباته الكثيرة في التعريف بنتائج حملاته الاستكشافية، وكان من وجهة نظره -بعد دراسة الأوضاع المجتمعية والمعتقدات- أنَّ على المنصرين أن يُنْشِئوا مراكز نصرانية لنشر الديانة النصرانية، والنهوض بالتجارة والزراعة في آنٍ واحدٍ، وقد شاركه في هذه النظرية العديد من المنصرين المتحمسين ممن توغَّلوا إلى داخل إفريقيا. ولا ننسى المقولة الشهيرة للرحالة البرتغالي «فاسكو دي جاما» عند وصوله إلى موزنبيق سنة (1493م)، حيث قال: «الآن لَفَفْنَا الحبلَ حول عُنق المسلمين، ولم يَبْقَ إلا شدّه ليختنقوا».

هذا وقد ساهمت خبرة المنصّرين في مجالات عديدة؛ منها على سبيل المثال: الطب، والزراعة، في إتاحة الفرصة لهم دون صعوبة تُذْكَر، وأدَّى ذلك إلى معرفة الأوضاع بسهولة، الأمر الذي أصبح عاملًا حاسمًا في الربع الأخير من القرن (19م)، عندما بدأ التكالب الاستعماري على القارة الإفريقية.

وأدى ذلك الاستقرار إلى أن تكسر الذئاب المفترسة أنيابها لتبدأ تجارة رابحة للرقيق المختطف، فلم يدّخر الرجل الأوروبي جهدًا ولا وسيلةً في قَنْص الأحرار ونَقْلهم عبر البحار، واستمر ذلك على أشدّه قرونًا، ولسان حال المنصرين يقول: «إذا رفضتم الدخول في النصرانية في أرضكم، جلبناكم بأيّ حيلة ومكر وخدعة وطغيان، إلى أرض التثليث؛ حيث لا مُوحِّد على أديمها»

وقد اعتبروا هذا العمل الجائر عملًا مقدسًا بموجب المرسوم البابوي الصادر عام 1455م، والذي يقرّر سيادة النصارى على الكفار. وقد أقرَّت الكنيسة استرقاق الزنوج والهنود الحمر، وغيرهم من غير النصارى، وصاحب هذا القرار دعايات واسعة أشرفت عليها الكنيسة والأوساط النصرانية، استمرت عدة قرون، مفادها: «أنَّ الاسترقاق هو سبيل خلاص الرقيق المغضوب عليهم من الله، وأنَّ دخول العبد في النصرانية يُحقِّق له الدخول في مملكة الله».[2]

ولم تقتصر ملامح حقدهم الصليبي على ذلك فحسب، بل تعدَّى ذلك ليصل إلى التواطؤ على استعمار الشعوب المسلمة في غرب إفريقيا وغيرها؛ لبثّ عقائدهم الثالوثية. ومع تزايد اهتمام الدول الأوروبية بالاستحواذ على الأراضي الإفريقية، تولى المنصّرون تمهيد الطريق لذلك في بعض مناطق القارة، وقاموا عن دراية وقصد ووعي بأداء دور عملاء الاستعمار أو وكلائه، وكان معظم المنصرين مقتنعين اقتناعًا راسخًا، بأنَّ التدخل الأوروبي إذا جاء، فإنَّه يجب أن يأتي من بلادهم.

فوق هذا وذاك، فقد رأى معظم المنصّرين أنَّ الحكم العسكري الاستعماري، لن يقف عند توفير الأمن والحماية المرغوب فيهما إلى أبعد حدّ، بل سيساعد على إيجاد فرص لضمان تطوير مشاريع اقتصادية جديدة، مما يعود بنفعه على الكنيسة، كما رأوا في تشجيعهم للاستعمار كمنصرين، وخاصةً بعد سنة 1870م مَهمَّة لها مبرّرها الأخلاقي.

وإذا توصَّلنا إلى أنه لم تكن للنصرانية وجود في منطقة غرب إفريقيا؛ فإنَّ مرحلة الكشوفات الجغرافية، تُعدّ أولى مراحل وصول رجال الكنيسة إلى هذه المنطقة. وتشير الكتابات المتوفرة لدينا، إلى أنَّ أولى حلقات اتصال الأوروبيين أو رحلاتهم، كانت عام (1413م)؛ عندما زار الرحالة النصراني الفرنسي المدعو أنسليم ديز الغير (Anselm DIsalgiuer[3] مدينة غاو[4] قادمًا من مدينة تولوز.

وقصة المذكور وردت في كتاب المؤرخ (بابا كاكي)، عن العلاقة بين فرنسا ومملكة السنغاي[5] في القرن 16م، إلى وصول المذكور إلى مدينة غاو. ويدعي أنَّ هذه الرحلة الاستكشافية قد انتهت بعلاقة حبّ مع فتاة من أسرة نبيلة آنذاك بمدينة غاو، وأنَّ هذه الأخيرة، قامت بتحدّي والدها ومجتمعها، الذي يرفض الزواج من النصارى.

وتذكر الرواية -التي لا يوجد أي سند في التاريخ المكتوب محليًّا ولا شفاهيًّا- أنَّ الفتاة سافرت مع الرحالة، ثم اعتنقت النصرانية في فرنسا، ولم يذكر لها عودة إلى مجتمعها في بقية حياتها.

هذا، وقد تلا تلك الزيارة زيارة أخرى إلى مدينة تنبكت[6] توأمة مدينة غاو، قام بها الرحالة (فلوريتان بنيد يتو دي)، عام (1470م). والجدير بالذكر هنا، أنَّ القرن (18م) شهد أكبر حركة للرحالة الغربيين وبالتحديد من فرنسا، والنمسا وألمانيا، وذلك بين عامي (1791- 1852م)، إلى أنْ طمع الحاكم الفرنسي في السنغال (الجنرال فيديرب)[7]، في ربط مؤسسات السنغال الأعلى بالنيجر، فبعث ثلاث بعثات عسكرية خلال الفترة من (1863- 1881م)، وقد تمكنت تلك الحملات من تحقيق أغلب أهدافها المنشودة.[8]

ونعتقد، أنَّ تلك الرحلات الاستكشافية ذات الطابع التجاري، كانت مجرد ذريعة لتحقيق ما يطمح إليه الغرب من احتلال للأراضي، ونهب خيراتها؛ لذا لم يلبث أن أعقب تلك الرحلات حملات غاشمة احتلت معظم الأرجاء الإفريقية، بعد مقاومة شعبية شرسة دافعت عن أراضيها ودينها بكل شجاعة. وكان أهل البلاد في إفريقيا الغربية، يرون أنَّ الرجل الأبيض جاء ليحتلّ أرضهم، ويُبدِّل دينهم؛ فكان الرفض التام، والكفاح المستمر، ولم ينعم الاستعمار بالاستقرار طيلة فترة وجوده على الأرض الإفريقية؛ هذه الأرض التي تَشَبَّع أبناؤها بمبادئ الدين الإسلامي.

لذلك وجب القول هنا: إنَّ الطريق لم تكن مفروشة بالورود أمام الرجل الأوروبي، بل على العكس من ذلك، لم ينعم براحة البال والاستقرار طيلة فترة وجوده الطويلة، التي استمرت لقرون عديدة، على عكس ما يُصوّره لنا الكُتّاب الغربيون، الذين غالبًا ما يسعون في كتاباتهم إلى تزوير الحقائق والأحداث التاريخية لصالح بلدانهم.

خلاصة القول: كان للكشوفات الجغرافية دور مُهمّ في ترسيخ الوجود الأوروبي في منطقة إفريقيا الغربية، وبفضل المنصرين، سيتحوّل هذا الحضور إلى استعمار حقيقي، يهدف جملةً ومضمونًا إلى نَهْب خيرات وثروات المنطقة، خاصةً مع بدايات القرن التاسع عشر، الذي شهد ذروة التكالب الاستعماري على المنطقة. فكان الاستعمار والتنصير وجهين لعملة واحدة، فقد اتجه المستعمرون إلى استعباد الجسد الإفريقي، أما المُنصِّرون فقد استهدفوا روحه ووجدانه، فحينما حطَّ المستعمرون أرجلهم على الأرض الإفريقية، وأسَّسوا قواعدهم العسكرية، بادر المُنصِّرون من بينهم إلى بناء الكنائس إلى جانبها.

لكن هذه المهمة لم تكن سهلة المنال، كما يُصوّرها بعض الباحثين الغربيين؛ لأنَّ أغلب عناصر هذا المجتمع هو مسلم بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنًى، قد حافَظ ودافَع عن عقيدته بكلّ ما أُوتي من قوة، ولم يتخلَّ عن دينه، إلا قلة قليلة من ضعاف النفوس، الذين تربطهم بالأوروبي مصالح دنيوية متبادلة.


 


[1] دافيد ليفنغستون (1813- 1873م): وُلِدَ في مدينة بلانتاير بإسكتلندا، ويُعتَبر من أشهر المنصرين في إفريقيا جنوب الصحراء، ويُعتبر أول أوروبي يرى شلالات فكتوريا، وهو الذي أطلق عليها هذا الاسم. عامَل ليفنغستون الأفارقة باحترام، وتعلَّم لغاتهم وعاداتهم، وله الفضل في استكشاف أرجاء كبيرة من القارة الإفريقية.  

[2] عبدالعزيز ميغا، الإسلام بين تحديات التنصير ومخاطر الغزو الفكري في غرب إفريقيا (مالي أنموذجًا)، أطروحة دكتوراه في التاريخ، جامعة محمد الخامس، الرباط، السنة الدراسية (2006-2007م)، ص 70.

[3] ينتمي إلى عائلة نبيلة بتولوز (فرنسا)، خرج في أواخر القرن 14م متوجهًا إلى إفريقيا عبر مصر، فالنوبة، ووصل إلى جاو عاصمة سنغاي. كتب تاريخ أسفاره ومؤلفات أخرى. لكن هذه الأعمال ضاعت. توفي عام 1440م.

[4] غاو: تقع مدينة غاو ضمن الحدود السياسية لدولة مالي الحالية.

[5] باستقراء ومقارنة المعطيات التي تطرحها المصادر العربية والرواية الشفوية، يمكن القول: إنَّ مملكة سنغاي شكَّلت ثالث أكبر تنظيم سياسي عرفته المنطقة إلى حدود القرن العاشر الهجري (16م)؛ حيث كانت في بداية أمرها عبارة عن مملكة صغيرة تابعة لحُكم مملكة مالي، قبل أنْ تستقلَّ عنها على يد أحد زعمائها المدعو «سني علي» (1464ــ 1493). ووصلت سنغاي في عهده إلى أوجّها، فتحولت في وقت قصير من مملكة صغيرة إلى إمبراطورية مترامية الأطراف. اتخذت من مدينة «كوكيا» المعقل الأول، وقاعدتهم الأم لدولتهم. شهدت خلال فترة حُكم «أسرة الأسكيا»، والتي دام حكمها قرن من الزمان (1492- 1591م)، رخاءً وازدهارًا قلَّ نظيرهما، غير أنَّه مباشرة بعد وفاة الأسكيا داوود سنة (1582م)، دخلت البلاد في مرحلة اتَّسمت بالضعف، بسبب هجومات بعض القبائل المجاورة. وفي ظل هذه الأوضاع المتدهورة، وصلت طلائع الحملة السعدية التي أرسلها السلطان «أحمد المنصور السعدي» عام (1591م)، فانهارت على إثر ذلك مملكة سنغاي، ونزح ما تبقى من أمراء الأسكيين إلى مدينة «دندي» في أقصى جنوب شرق المملكة المتهاوية. راجع: عبد الرحمن السعدي، تاريخ السودان، ترجمه من الفرنسية أوكتاف هوداس بمشاركة تلميذه السيد بنوة، باريس، ميزونوف، 1981م، ص9.

[6]  تنبكت: تأسست على نهر النيجر الأعلى، كان لها دور كبير في الحركة الثقافية والتجارية في المنطقة. تأسست في القرن 5هـ/11م على أيدي الطوارق، وأصبحت تنبكت في القرن 10هـ/ 16م منارًا للعلوم والثقافة الإسلامية في إفريقيا. راجع: السعدي، عبدالرحمن. تاريخ السودان، مصدر سابق، ص21.

[7] يَصِفه كثيرٌ من الباحثين بأنه مهندس السياسة الاستعمارية في إفريقيا الغربية، وأول مَن أرسى أطماع فرنسا في المنطقة، وبَلْور أهدافها الاستعمارية. كانت ولادته بمدينة ليل Lille الفرنسية في 3 يناير 1818م، وهو سليل أسرة مدنية متواضعة الحال، تابع تعليمه بمدرسة البوليتكنيك في 1837- 1838م التي تخرج منها سنة 1840م، ليلتحق بالمدرسة العسكرية بميتز. ثم عمل ضابطًا مهندسًا. وقد كان أول احتكاكه بالعالم الإسلامي حين عُين بالجزائر، والتي عمل بها لعدة سنوات. وقد توفي عام 1889م. راجع:

- W.B. Cohen. 1981. Français et Africains. Les Noires dans le regard des Blancs 1530-1880, traduit de langalis par Camille Garnier, coll. Bibliothèque des Histoires, éd. Gallimard, Paris, p. 234.

 [8] Barry (B.),1988, La Sénégambie du XVe au XIXe siégle : Traite négriére, Islam et conquête coloniale, Paris, éd. LHarmattan, p. 97.

  

أعلى