مستقبل السودان بعد الانفصال؟

مستقبل السودان بعد الانفصال؟

لم يكن من بد لأمتيسي ملك أوغندا سوى الطلب من الحكومة المصرية تقديم دعم عسكري لفرض سلطته الموالية للخديوي إسماعيل بمصر، والقبول بالدخول في السلطان المصري الممتد حتى بحيرة فيكتوريا.

ولم تمضِ أعوام كثيرة على ذلك العام (1876م) حتى أعلنت القاهرة عن حدودها الجديدة المهيمنة على تلك البلاد من مضيق باب المندب جنوباً إلى ساحل المتوسط شمالاً، ومن أوغندا في الغرب حتى الحدود الغربية للدولة المصرية.

منذ ذلك الحين - ولم تكن «إسرائيل» قد زُرِعت بَعْد - وحتى عقود ثلاثة تلته رنا الغرب وزعماء الحركة الصهيونية بأبصارهم نحو أوغندا كدولة يبدأ من عندها تفكيك المنطقة، وخنق الدول الإسلامية. لم تكن إستراتيجية «شد الأطراف» قد عُرفَت بهذا المصطلح بَعْد، لكنها بدأت من ذلك الحين. صحيح أن فلسطين قد اختيرت لشقِّ المنطقة العربية، لكن أوغندا لم تكن غائبة عن الحسابات؛ ففي عام 1997م كانت المعارك تدار ضد السودان من قِبَل جيوشِ ثلاث دول مجاورة أسهمت بشكل فعال في تقوية نزعة الانفصال ودعمها عسكرياً، حينها كانت غرفة العمليات في عنتيبي الأوغندية والقيادة لعميد «صهيوني».

لم يبدأ التخطيط لتفكيك السودان مع اتفاق نيفاشا، ولا مع بداية التمرد الجنوبي الذي انطلق قبل الاستقلال بعام (أي: 1955م)، وهو الذي صار دولة منذ أن أعلنت مفوضية الاستفتاء على «تقرير المصير» ميلادَ دولة الجنوب رسمياً في نهاية شهر يناير الماضي، وعليه فإن إعادة النظر في ما آلت إليه الأمور ومحاولة إرجاع الأمور إلى مربعها الأول لا بد أن يمر بخريطة طريق معاكسة لما استهدف السودانَ خلال قرن ونصف من الزمان، بل إن التفكير في تماسك السـودان «الشمالي» الحالي لا بد أن يأخذ بحسبانه قائمة الأسباب الطويلة التي تكاثرت حتى رسمت حدود الانفصال المتعرجة على امتداد عرض السودان، وهي نفسها التي يمكنها أن تمهد الطريق لرسم عدة خطوط جديدة في الشرق والغرب «الشمالي».

وتلك الأسباب هي التي إذا ما عُكِس خط الأحداث من التفكيك والعزل إلى الوحدة والاستقلال، لأمكنها أن تُخرِج السودان «الشمالي» الحالي من نفق مظلم يبدو أنه مقبل عليه في ظل غياب مقومات عدة لا بد من وجودها وتناسقها لصناعة التماسك الوحدوي المطلوب على الأقل في تلك المرحلة الدقيقة التي يمر بها السودان الحالي.

وثمة حزمة من الاستحقاقات المقبلة بعد إعلان الانفصال ترسم مخططات المستقبل السوداني ومحيطها الإقليمي، وتأخذه نحو مزيد من التأزم أو الانفراج المؤقَّت، وتعتمد على عوامل داخلية وأخرى خارجية ستؤثر بلا شك في تشكيل سودان ما بعد الانفصال بشقيه (الشمالي والجنوبي)، لكن علينا أن نصف باختصار الحالة السودانية بعد إعلان نتيجة الاستفتاء.

السودان الشمالي:

ثمة عدة أزمات بانتظاره:

أُوَّلها: تبدو منطقية على خلفية العلاقة بينه وبين «الجار السوداني الجنوبي»، الذي لا يُتوَقع أن يُحجِم عن التدخل المدروس في الشمال، الذي قد يأخذ أطواراً مختلفة.

وثانيها: ملف دارفور المرشح للتفاقم أو الحل؛ بعد أن أنعش الانفصال آمال بعض القوى المتمردة في دارفور في تكرار الذي حدث نفسه، وكذلك في الشرق السوداني أيضاً ملفاً ثالثاً.

وإن الحكومة السودانية قد أخفقت على ما يبدو في نقل تأييد الانفصال في الشمال إلى خارج حيِّز النخبة التي لا يظهر أنها هي الأخرى متحمسة لخطوة الانفصال، وهو ما يُتوقَّع أن يلقي بظلاله على مستقبل النظام الحاكم واحتمالات تزايد الضغوط عليه لإطاحته من قِبَل القوى الشمالية المعارضة على أرضية «الإخفاق في تحقيق وحدة البلاد وفقدان الشرعية الثورية الإنقاذية التي اكتسبها من مناهضة وحرب متمردي الجنوب السابقين، فضلاً عن التشكيك في شرعية الانتخابات»، وهذا ملف رابع.

والخامس يتعلق بقضيتَي تطبيق الشريعة وردود أفعال الجهات الرافضة لها في الشمال.

السودان الجنوبي:

من جانب آخر يعاني البلد الوليد من تداعيات ما بعد فرحة الانفصال، التي تعززها قلة الخبرات الإدارية، والحاجة الملحَّة للشمال في بعض الملفات الاقتصادية؛ لا سيما في قطاع النفط ذاته، الذي يُنظَر إليه على أنه المورد الأساسي للدولة الجديدة؛ حيث لم يزل الجنوب يعتمد على الشمال في تصدير 80 % من النفط السوداني الموجود بالجنوب، وعلى الرغم من هذه الثروة الهائلة قياساً إلى عدد سكان الجنوب الذي يقدر بنحو ثمانية ملايين جنوبي، فإن البلد قد يعاني من أزمة اقتصادية فور ميلاده في وقت لا يتوفر لرعاة الانفصال الغربيين النَّفَس الطويل لاستمرار تدفق المساعدات إليه إن بدأت؛ إذ يفتقر الجنوب الذي عانى عقوداً من الحرب بشكل كبير إلى البِنية التحتية بما في ذلك الطرق والمدارس والمستشفيات. كما أن هناك «القنبلة الإسلامية الموقوتة» المتمثلة بالأقليـة المسـلمة في الجنـوب، التي تتـراوح نسـبتها ما بين 20 - 35 % بحسب معطيات غير رسمية أوردتها دراسة لجماعة الإخوان في السودان، وهي التي يبدو أن التشكيلة الحكومية الجنوبية المتوقَّعة والمناصب الرئيسة في الحكم لم تأخذ ثقلها بعين الاعتبار، وهو ما قد يفجر أزمة مستقبلية، تُذكِيها مشاعر سلبية جنوبية تجاه الشمال بسبب تهميش الجنوبيين في الـدولة السـودانية الموحدة السـابقة. ولا يمكن إغفال تأثير الصراع القَبَلي المتوقع في الجنوب ببلد تمتلك قواه السياسية ميليشيات مسلحة ويحوي أكثر من مائتي إثنيَّة.

المخططات المتوقعة لِـمَا بعد الانفصال:

1 - تحويل الجنوب إلى أداة لتحويل أو تفكيك الشمال:

هناك بالفعل أسباب تدعو للتفكير في أن الولايات المتحدة قد تُقدِم على تنفيذ ذلك، عبر وكلائها الجنوبيين؛ ولا سيما في ظل إدارة أمريكية ديمقراطية تضع تفكيك السودان على سلَّم أولوياتها؛ غير أن الأمر ليس بهذه البساطة، ودونه عدم قدرة الجنوب على إحداث هذا التغيير في الشمال؛ خصوصاً أن الشمال دولة مستقرة إدارياً وبِنيَة الحكم فيها أصيلة بينما لم تزل الدولة الجنوبية في طور التكوين. كما أن للشمال أوراقه المعروفة في الجنوب مثلما لدى الجنوبيين كذلك.

إلا أن ثمة مؤشرات بعضها يرتقي إلى مصافِّ الأدلة على ضلوع الجنوب قبل أن يتكون رسمياً في تهديد الاستقرار في الشمال؛ فالتصريح الذي أطلقه ياسر عرمان (نائب الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان، ومسؤول قِطاع الشمال بالحركة) قبل أيام قليلة من إعلان نتيجة الاستفتاء، والذي قال فيه: «لن نذهب مجاملة مع الجنوبيين؛ لأن هناك قضايا في جبال النوبة وشمال السودان، وسنبني حركة جديدة ستكون رؤيتها السودان الجديد، وسوف نعمل على شمال قائم على العدالة الاجتماعية، وعلى الديمقراطية» لافتاً الانتباه إلى  ما تُزمِع الحركة تنفيذه في الشمال، وسياستها التي تبدو كأنها ستبدأ من نقطة الصفر التي بدأ عندها جون غارانغ زعيم الجبهة الشعبية الراحل مسيرته حول «السودان الجديد»؛ إذ كان عليه أن يغيب للتمهيد للانفصال كآلية لم تتبنَّها الحركة سابقاً في أدبياتها، ثم هو يعاود التذكير من جديد بخطوة «الوحدة» لكن عبر فرض العَلمانية على الشمال أيضاً.

وما أكدته الدوائر الحكومية السودانية قبل الانفصال من إيواء المتمردين الدارفوريين في الجنوب وتسليحهم: كان العلامة الأبرز على أن العلاقات الجنوبية الشمالية قد تشهد تصعيداً كبيراً لم تشهده السنوات الخمس الماضية.

كما أن المظاهرات التي اندلعت في جبال النوبة بولاية جنوب كردفان، والتي شارك فيها متمردون مسلحون شاركوا إلى جانب الحركة الشعبية ضد الحكومة في السودان، ورفعت شعارات الحركة مطالبة بالانفصال تشي بأن طموحات الحركة لا تقف عند حد الانفصال، ولا حتى «السودان الجديد»، عنوان للتفتيت.

وهناك قوات لم تزل تحتفظ بها الجبهة الشعبية في الشمال بوسعها أن تساند حركات تمرد شمالية أو ائتلاف يسعى لإسقاط نظام البشير عبر إحداث فوضى في الوسط والشرق والغرب بالدولة الشمالية.

ومن خارج السودان كله، وبالتزامن مع الانفصال شرعت مراكز البحوث الغربية والمجلات المتخصصة تسوِّق لفكرة ميلاد دول جديدة استناداً إلى تجربة الجنوب، و (مصادفة) فقد كان معظمها يقع في دول إسلامية: كإقليم دارفور وشرق السودان وأرض الصومال... إلخ.

والواقع أن التأثير الأمريكي في كل ما سبق شديد الوضوح بسبب تبنِّي الولايات المتحدة لتلك الدولة الانفصالية الوليدة وتحكُّمها الظاهر في سياستها منذ أن كانت حركة «تمرد» إلى أن صبغتها واشنطن والعواصم الأوروبية بـ «الشرعية».

2 - إنشاء علاقة متوازنة بين الشمال والجنوب:

يركز هذا المخطط على العلاقات التاريخية والمصالح العريضة المشتركة بين الشمال والجنوب التي لا يمكن تجاهلها، وعلى الحاجة الملحَّة للتعاون بين الدولتين في صناعة النفط المستخرج في معظمه من الجنوب وتكريره وتصديره عبر الشمال، وعلى حالة التفكيك الاصطناعية والحدود غير المنطقية واتصال القبائل على طرفَي الحدود، ووجود «جالية» جنوبية كبيرة في الشمال، واستثمارات شمالية في الجنوب، وكذلك الانطباع السائد بأن طرفَي النزاع قد سئما من الحرب، وأن قادة الجنوب أنفسَهم قد ركنوا إلى حالة من الثراء وفَّرتها حالة السلم التي أفضت إلى تدفق استثمارات في الجنوب على أرضية الاكتشافات النفطية في الجنوب، بل في الشمال أيضاً، الذي يتوقع هو الآخر معدلات نمو باهرة؛ بعد تفرُّغه للنمو والاستثمار... وما إلى ذلك؛ وهو ما سيجعل من العسير على القادة في «البلدين» تقبُّل عودة حالة الحرب مرة أخرى؛ إذ يدرك الساسة على جانبَي الحدود أن كلاً منهما قادر على إشعال النار في هشيم الآخر، وهو ما دعا الوسطاء الأفارقة إلى طرح خيار الكونفيدرالية بين الدولتين، وهو وإن بدا أنه يعيد شيئاً من اللحمة للأشقاء؛ إلا أنه على النقيض يفتح الباب واسعاً أمام تكهنات بخيار قاتل يرنو إلى التمهيد لإحداث فوضى في الشمال من خلال استحقاقات تلك الكونفيدرالية التي يمكن أن تفتح شهية الجنوبيين للحصول على «ضمانات» بل امتيازات في الشمال تعيد الحديث من جديد عن فكرة «السودان الجديد» بما تستلهمه من فوضى تضمن تحقيقها.

غير أن ارتهان الجبهة الشعبية للغرب ووجود كثير من أوراق الضغط لديه، وكذلك «إسرائيل»، والفكر العَلماني الرافض للإسلام والعروبة لدى الحركة، النازع إلى المصادمة لا التوافق، والشحن المعنوي الذي نجحت القوى الغربية في تعزيزه ضد الشماليين، والترويج لمظالم تاريخية وآنية لحكم «الشمال» في الجنوب، تعود بهذا المخطط خطوات إلى الوراء.

ثمة أمر آخر يضاف إلى استبعاد هذا المخطط، هو استنساخ الحالة التي حكمت العلاقات بين السودان وجيرانه في السابق، والتي قامت على احتفاظ كل طرف بأوراق ضغط ضد الآخر، وتقديم الدعم العسكري واللوجستي لمعارضي الطرف الآخر، وهو ما أوجد دائماً حالة من العداء المكتوم بين تلك الدول المتجاورة، وهو ما يتوقع أن يتكرر بين دولتين قامت إحداهما بالانفصال عن الأخرى عبر الاستقواء بالخارج.

3 - الحرب المباشرة:

لم تزل بَعدُ واردة، وإرهاصاتها بدأت مع الاشتباكات التي حصلت في منطقة آبيي المتنازع على تبعيتها للشمال أو للجنوب بين مسلحين من قبيلتي المسيرية والدينكا، ومعلوم أن الدعم العسكري الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من دول الجوار كإثيوبيا وأوغندا الذي تجاوز حدود ملياري دولار، ويشتمل على إنشاء قوات جوية وبحرية وبرية وقواعد عسكرية، هذا إضافة إلى تقاسم عوائد النفط خلال السنوات الخمس الماضية وهو ما أتاح للجنوبيين تحديث جيشهم بنحو مليار دولار وَفْقاً لبعض التقديرات.

وغني عن البيان أن ظروف ما بعد الانفصال ستمنح الجنوبيين مزية التعامل دولياً كدولة ذات سيادة «تعرضت لعدوان» وليس كحركة تمرد، وتقديم الدعم العسكري الفوري سيكون أيسر بكثير؛ ولا سيما مع وجود قوات دولية في الجنوب مثلما هو حاصل الآن.

وإذا كانت توقعات الحرب قد تراجعت كثيراً بعد مرور الاستفتاء «بسلام»، إلا أن بعضه قد يقفز إلى فكرة تصدير الحرب لإنقاذ نظام الحكم في السودان إن تعرض لهزة عنيفة، وهو مخطط ليس مستبعداً بطبيعة الحال بالنظر إلى إمكانية تأجيج المعارضة ضده على خلفية «التخلي» عن الوحدة السودانية، والسماح بالانفصال، وتعزِّزه توقعات بتراجع شعبية البشير والمؤتمر الوطني، وتصعيد حزب الأمة في الشرق، ومتمردي حركة العدل والمساواة في دارفور التي يدعمها (د. حسن الترابي)، وتفجير قضية المحكمة الدولية من جديد في وجه البشير؛ إذ الملاحظ أن الولايات المتحدة لم تقايض بتلك الورقة الرئيس السوداني في مقابل موافقة الشمال على انفصال الجنوب، وإنما اكتفت بتفعيل ورقة إلغاء إدراج اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وتركت ورقة أوكامبو لمرحلة دارفور على ما يبدو، إضافة إلى كونها لم ترمِ بثقلها خلف مفاوضات دارفور التي رعتها قطر مؤخراً، واكتفت بـ «تعريب» الحل مؤقتاً تمهيداً لإفشاله، ومن ثَمَّ ستدخل على خط دارفور عبر مفاوضات ربما تتيح للجنوب استقراراً وتنمية تحضيراً لتدخله في الشمال لاحقاً.

إن تلك المخططات وإن بدا بعضها أقوى من بعض؛ إلا أنها جميعاً مرشحة للحصول في ظل ضبابية تحكم الظرف السوداني الراهن.

والأهم هو التأثير المتوقع لانفصال الجنوب سلمياً بهذه الطريقة الهادئة على مجمل دول المنطقة في أعقاب مرحلة لم تعرف  قبلها تلك المنطقة هذا التشقق السهل غير الممتنع في دولها، بل على العكس شهدت عكسه من رواج الفكرة الوحدوية التي كونت الإمارات العربية المتحدة والسعودية من قبل، واليمن الموحد قبل نحو عقدين... أما الآن فنحن نعاني تشققاً حاداً، ظهرت مفاعيله مع مطالبات الزعيم الكردي مسعود البرزاني بـ «حق تقرير المصير في كردستان»، وبعده هذيان الحديث عن دولة «مسيحية» في العراق، والأكثر غرابة في مصر أيضاً؛ كالحديث الذي تردد على لسان (د. البرادعي) عن «حقوق» أهل النوبة. وما تفكيك اليمن الموحد مرة أخرى، الجاري بخطى متسارعة عنا ببعيد.

 

أعلى