• - الموافق2025/09/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الجهاد فريضة ماضية  المنظور الشرعي للمقاومة في فلسطين

الجهاد في فلسطين هو جهاد دفع واجب عيني بالإجماع على كل مسلم بما يستطيع، دون اشتراط إذن وليّ الأمر أو توقع الظفر، ويجوز فيه التعاون مع المخالفين لدفع العدو الصائل، وأهله مأجورون غير مؤاخذين، والخذلان والتثبيط عن نصرتهم من أعظم الإثم.


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

وبعد: فمن المؤسف أن نتحدَّث أو نكتب في البدهيات، وما انعقد عليه الإجماع، وكأننا أمام مسألة اجتهادية غامضة، تستدعي المناظرات وإقامة الحجج، وما تغيَّر الدين وأحكامه، وإنما تغيَّرنا نحن، وأما لماذا تغيَّرنا وكيف؟ فلذلك قصة طويلة لا يتسع المقام هنا لبسطها.

وموضوعنا في هذه السطور هو المنظور الشرعي للمقاومة في فلسطين، وحين نتحدَّث عن المنظور الشرعي للمقاومة في فلسطين، فإنما نتحدث عن المسائل التالية:

- المراد بالمقاومة.

- حُكمها.

- هل يُشترط لها إذن السلطان أو ولي الأمر، والقدرة أو الاستطاعة التي تعني توقُّع الظفر أو الظن الغالب بتحقيق النصر؟

- وهل يجوز فيها اجتماع أهل السُّنة مع غيرهم من المخالفين؟

- وهل أساء وأخطأ مَن قاموا بعملية طوفان الأقصى بتوريطهم الأُمَّة في تلك الأحداث الدامية، وعلى رأسها عشرات أو مئات الآلاف من القتلى والمصابين؟

المراد بالمقاومة

المراد بها الجهاد. نعم، الجهاد؛ هذا هو المسمى الشرعي، لكن لما كان لا يُراد وجود أيّ ظلال دينية للمعارك التي يخوضها المسلمون تم التسويق لمصطلحات المقاومة والكفاح والصراع والنضال، وأمثالها من المشترك الإنساني الذي يمارسه عموم المظلومين أو المُعتدَى عليهم من البشر دون الارتباط بالدين. وكان لا بد من هذه التوطئة تمهيدًا للمسألة التالية، وهي حُكم هذا الجهاد في الشرع.

حكمها

ينبني حُكم هذا الجهاد على توصيف المسألة في الواقع، وذلك أنّ حقيقتها احتلال اليهود الصهاينة لفلسطين، واغتصاب أرضها بما فيها المسجد الأقصى، وإقامة دولتهم عليها. ومن يومها (1948م)، وإلى يومنا هذا، لم تنقطع الحرب والكَرّ والفرّ، أو على الأقل المناوشات بين المسلمين والمعتدين؛ حيث بقيت طائفة مجاهدة لم تنهزم ولم تُعلن استسلامها، مما حرم اليهود الصهاينة من الشعور بالأمان أو الاستقرار التام على أرض فلسطين.

وبعد هذا التوصيف، فحكم جهاد هؤلاء المعتدين فرض عين بالإجماع المنعقد على ذلك، كما نص عليه الفقهاء من مختلف المذاهب. وبه صدرت الفتاوى من الهيئات الإسلامية كالأزهر وغيره، كبدهية لا جدال فيها قبل أن يحدث في الأمة الخلل الفكري أو عمى البصيرة الذي نراه اليوم.

وهذا الواجب يقوم به كلّ مسلم في الأرض، كلٌّ بحسب قدرته، بالنفس أو المال أو اللسان، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «جاهِدُوا المشرِكينَ بأموالِكُم، وأنفسِكُم، وألسنتِكُم»[1].

 ونبدأ بالإجماع المنعقد من قديم على هذا الحكم، ثم نُتْبِع ذلك بالفتاوى المعاصرة إبَّان وقوع هذا العدوان أو الاحتلال.

 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «وَأَمَّا قِتَالُ الدَّفْع فَهُو أَشَدُّ أَنْوَاع دَفْع الصَّائِل عَنْ الْحُرْمَة وَالدِّين، فَوَاجِبٌ إجْمَاعًا؛ فَالْعَدُوُّ الصَّائِلُ الَّذِي يُفْسِدُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا لَا شَيْءَ أَوْجَبَ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ دَفْعِهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ شَرْطٌ، بَلْ يُدْفَعُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ؛ فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ دَفْعِ الصَّائِلِ الظَّالِمِ الْكَافِرِ وَبَيْنَ طَلَبِهِ فِي بِلَادِهِ»[2].

 قال ابن عابدين -الحنفي- رحمه الله: «وفرض عين (أي: الجهاد)، إن هجم العدو على ثغر من ثغور الإسلام، فيصير فرضَ عين على مَن قرب منه، فأما مَن وراءهم ببُعْدٍ من العدو فهو فرض كفاية؛ إذا لم يُحْتَج إليهم، فإن احتِيجَ إليهم بأن عَجَز مَن كان بقرب العدو عن المقاومة مع العدو، أو لم يعجزوا عنها، ولكنهم تكاسلوا، ولم يجاهدوا، فإنه يُفتَرض على مَن يليهم فرض عين كالصلاة والصوم لا يَسَعهم تركُه ثَمَّ، وثُمَّ إلى أن يُفتَرض على جميع أهل الإسلام شرقًا وغربًا على هذا التدريج»[3].

وفي حاشية الدسوقي -المالكي- على شرح الدردير لمختصر خليل: «ويتعيَّن الجهاد بفَجْئِ العدُوّ، قال الدسوقي: أي توجَّه الدفع (بفَجْئ) مفاجأة، على كل أحد، وإن امرأة، أو عبدًا، أو صبيًّا، ويخرجون ولو منعهم الوليّ والزوج وربّ الدَّيْن»[4].

وفي نهاية المحتاج للرملي -الشافعي- شرح المنهاج للنووي: «فإن دخلوا (أي: الكفار) بلدةً لنا، وصار بيننا وبينهم دون مسافة القصر، فيلزم أهلَها الدَّفْعُ، حتى مَن لا جهاد عليهم من فقير وولد وعبد ومدين وامرأة»[5].

وقال ابن قدامة -الحنبلي- في المغني: «ويتعيَّن الجهاد في ثلاثة مواضع:

أحدها: إذا التقى الزحفان وتقابل الصفّان...

الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعيَّن على أهله قتالُهم ودَفْعُهم...

الثالث: إذا استنفر الإمام قومًا لزمهم النفير»[6].‏‏

فإذا ما انتقلنا إلى الفتاوى المعاصرة لمشكلة فلسطين؛ نجد أن كَمّ الفتاوى والبيانات التى صدرت، ولا تزال تصدر من الهيئات الشرعية والعلمية على مستوى العالم الإسلامى، وعلى رأسها الأزهر، ومجمع البحوث الإسلامية، ودور الإفتاء الرسمية وغير الرسمية في شأن الوجوب العيني للجهاد ضد الصهاينة بالأنفس والأموال، وكل وسيلة متاحة؛ يُفيد بحصول الإجماع المعاصر على ذلك، ولم يَشترط أحد منهم ما يشترطه المُخذّلون، من توقُّع الظفر، وإذن ولاة الأمور، وغيرها من الشروط الأخرى، إلا في السنوات الأخيرة، مع ظهور وتنامي التيارات المُخذّلة بفكر جديد وشاذ وغريب على الفقه الإسلامي الموروث عن أساطين الفقهاء وأهل العلم كما سبق بيانه.

ولا يتسع المقام هنا لذِكْر جميعه؛ فقد جُمِعَت في كتب[7]، وإنما نذكر مثالين أو ثلاثة كنماذج:

ففي الأيام الأولى لنكبة عام 1948م نجد شيخ الأزهر والعلماء يدعون إلى الجهاد في سبيل الله لإنقاذ فلسطين والبلاد المُقدّسة من خطر الصهيونية، فكان هذا البيان القوي من علماء الأزهر والذي نقتطف بعض فقراته؛ نظرًا لطوله:

 «إلى أبناء العروبة والإسلام من علماء الجامِع الأزهر الشريف.. هذا بيان للناس وهُدًى وموعِظة للمُتّقين بسم الله الرحمن الرحيم: يا معشر المسلمين.. قُضي الأمر وتألّبت عوامل البغي والطغيان على فلسطين، وفيها المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحَرَمين[8]، ومُنتهى إسراء خاتم النبيين -صلوات الله وسلامه عليه-.

 قُضي الأمر، وتبيّن لكم أن الباطِل مازال في غلوائه، وأن الهوى ما فتئ على العقول مُسيطرًا، وأن الميثاق الذي زعموه سبيلًا للعدل والإنصاف ما هو إلا تنظيم للظلم والإجحاف، ولم يبقَ بعد اليوم صبر على تلكم الهضيمة التي يريدون أن يُرهقونا بها في بلادنا ويجثموا بها على صدورنا، وأن يُمزِّقوا بها أوصال شعوبٍ وحَّد الله بينها في الدين واللغة والشعور...

 يا أبناء العروبة والإسلام: خذوا حذَركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعًا، وإياكم أن يكتب التاريخ أن العرب الأُباة الأماجد قد خرُّوا أمام الظلم ساجدين، وقبلوا الذلّ صاغرين. إنّ الخَطْب جَلَل، وإن هذا اليوم الفصل وما هو بالهزل، فليبذل كل عربي وكل مسلم في أقصى الأرض وأدناها من ذات نفسه وماله ما يَرُدّ عن الحِمى كيد الكائدين وعدوان المُعتدين».

 ويختم البيان بقوله: «فإذا كنتم بإيمانكم قد بعتم لله أنفسكم وأموالكم؛ فها هو ذا وقت البذل والتسليم، وأوفوا بعهد الله يُوفِ بعهدكم، ولْيشهد العالم غضبتكم للكرامة، وذَوْدكم عن الحق، ولتكن غضبتكم هذه على أعداء الحق وأعدائكم لا على المُحتمين بكم ممَّن لهم حقّ المواطن عليكم وحق الاحتماء بكم، فاحذروا أن تعتدوا على أحد منهم؛ إن الله لا يحب المُعتدين، ولْتتجاوب بعدُ الأصداء في كل مشرق ومغرب بالكلمة المُحبَّبة إلى المؤمنين: الجهاد، الجهاد، والله معكم».

التوقيع: الشيخ محمّد مأمون الشناوي شيخ الأزهر، الشيخ محمّد حسنين مخلوف، مفتي الديار المصرية، وعشرات التوقيعات لكبار العلماء[9].

 ولم تكن هذه هي الفتوى الوحيدة للأزهر، بوجوب الجهاد في فلسطين على المسلمين وجوبًا عينيًّا، بل كانت الفتاوى والنداءات والبيانات بالعشرات من الأزهر، ومجمع البحوث الإسلامية، ودور الإفتاء للدول العربية والاسلامية. ونقتطف هنا قرارات وتوصيات مجمع البحوث الإسلامية، في أكثر من مؤتمر من مؤتمراته:

فمنها قرارات وتوصيات المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية، لسنة 1966م:

«بعد الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وفي ختام المؤتمر أوصى بالآتي: تنبيه المسلمين في جميع أقطار الأرض إلى أن العمل الجدي الدائم لإنقاذ فلسطين من أيدي الصهيونيين الباغين الغاصبين هو فرض في عنق كل مسلم ومسلمة، ونُحذّركم من فتنة المروق من الإسلام بالتعاون مع الصهيونيين الغاصبين الذين أخرجوا العرب والمسلمين من ديارهم، والتعاون مع الذين ظاهروا على إخراجهم وتوكيد ما تقرر في المؤتمر الثاني: من دعوة الدول الإسلامية التي اعترفت بإسرائيل إلى سحب اعترافها»[10].

ومنها قرارات وتوصيات المؤتمر الرابع لمجمع البحوث الإسلامية سنة 1968م، وهذه بعضها:

- إن أسباب وجوب القتال والجهاد التي حدَّدها القرآن الكريم قد أصبحت كلها متوافرة في العدوان الإسرائيلي، بما كان من اعتداء على أرض الوطن العربي الإسلامي، وانتهاك لحرمات الدين في أقدس شعائرها وأماكنها، وبما كان من إخراج المسلمين والعرب من ديارهم، وبما كان من قسوة ووحشية في تقتيل المستضعفين من الشيوخ والنساء، ولهذا كله صار الجهاد بالأموال والأنفس فرضًا عينيًّا في عنق كل مسلم، يقوم به على قدر وُسْعه وطاقته، مهما بعُدت الديار.

- يدعو المؤتمر جميع الحكومات الإسلامية إلى أن تقطع كل علاقاتها مع إسرائيل. ويقرر أنّ التعامل مع العدو في أيّ صورة من صور التعامل -أيًّا كانت هذه العلاقة-، طعنة موجّهة للمسلمين جميعًا، ومخالفة لتعاليم الإسلام، قال الله تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: ٢٢]». والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. صدر بالقاهرة بتاريخ 13 من رجب 1388 هجرية، الموافق 6 أكتوبر 1968 ميلادية[11].

هل يُشترط لها إذن السلطان أو وليّ الأمر، والقدرة أو الاستطاعة التي تعني توقُّع الظفر أو الظن الغالب بتحقيق النصر؟

 أما الاستئذان من ولي الأمر، فلا يُشترط لما يلي:

 أولًا: سبق توصيف الجهاد في فلسطين بأنه جهاد دَفْع، ونقلنا كلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه لا يُشترط له شرط: «وَأَمَّا قِتَالُ الدَّفْع فَهُو أَشَدُّ أَنْوَاع دَفْع الصَّائِل عَنْ الْحُرْمَة وَالدِّين، فَوَاجِبٌ إجْمَاعًا؛ فَالْعَدُوُّ الصَّائِلُ الَّذِي يُفْسِدُ الدِّينَ وَالدُّنْيَا لَا شَيْءَ أَوْجَبَ بَعْدَ الْإِيمَانِ مِنْ دَفْعِهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ شَرْطٌ، بَلْ يُدْفَعُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ؛ فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ دَفْعِ الصَّائِلِ الظَّالِمِ الْكَافِرِ وَبَيْنَ طَلَبِهِ فِي بِلَادِهِ»[12]، فيجب هذا النوع من الجهاد دون إذن من أمير أو والدين أو زوج، ... إلخ.

 ثانيًا: لا نُسلِّم بأن المسلمين في قطاع غزة لهم وليّ أمر خارج بلادهم، فلا يوجد خليفة أو سلطان شرعي أو إمام تخضع له جميع بلاد المسلمين، ومِن ثَمَّ صار لكل حاكم ولايته الخاصة على ما تحت يديه، وحماس في قطاع غزة لها الولاية على ما تحت يدها من القطاع، فهي التي تملك الإذن.

 ثالثًا: إن الجهاد المتعيَّن اتسعت دائرته لتشمل جميع المسلمين؛ حيث إنّ المجاهدين في فلسطين لم يصلوا للآن لدفع العدو عنها مع مرور العقود التي بذلوا فيها -ولا يزالون- كل ما يستطيعون في عزة وإباء دون استسلام، وما زالوا عبر عشرات السنين يَقضُّون مضاجع العدو، لكن لم تحصل بذلك الكفاية لإخراج العدو، ومِن ثَمَّ اتسع الجهاد المتعين ليشمل ما وراءَهم من المسلمين حتى شمل جميعهم؛ إما لعدم الكفاية بمن هم أقرب منهم لأرض المعركة أو لتكاسلهم، فعمَّ الوجوب العيني بأحكامه جميع المسلمين على ما تقرَّر تفصيلًا في كلام ابن عابدين -رحمه الله- المنقول في المسألة السابقة، ومن هذه الأحكام: عدم توقُّفه على إذن من أحد، واليًا كان أو غيره، وفي الحديث: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه»[13]، وعند مسلم: «ولا يخذله»[14].

 وبالإضافة لما ذكرناه من النقول عن الفقهاء في المسألة السابقة؛ نُضيف هنا ما نُقِلَ عن الإمام أحمد في «مسائل عبد اللَّه» (٩٥٩):

نقل المروذي عنه: يجب الجهاد بلا إمام إذا صاحوا بالنفير.

ونقل الميموني عنه: لو اختلفوا على رجلين؛ لم يتعطل الغزو والحج[15].

وقال أبو داود: قلت لأحمد: بلاد غلب عليها رجل فنزل البلاد يغزو بأهلها، نغزو معهم؟ قال: نعم[16].

وسئل الإمام مالك عن العدو ينزل بساحل من سواحل المسلمين، أيقاتلهم المسلمون بغير استئمار الوالي؟ فقال: أرى إن كان الوالي قريبًا منهم أن يستأذنوه في قتالهم قبل أن يقاتلوهم، وإن كان بعيدًا لم يتركوهم حتى يقعوا بهم. فقيل له: بل الوالي بعيد منهم. فقال: كيف يصنعون؟ أيدعونهم حتى يقعوا بهم؟ أرى أن يقاتلوهم[17].

وسئل فضيلة الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: هل يجوز الجهاد دون إذن إمام المسلمين؟ وهل هناك حالات يجوز فيها بدون إذن؟

الجواب: لا يجوز الجهاد إلا بإذن الإمام؛ لأنه المُخاطَب بالجهاد، ولأن الخروج بدون إذنه افتيات عليه؛ ولأنه سبب للفوضى والمفاسد التي لا يعلمها إلا الله.

وأما قول السائل: هل هناك حالات يجوز فيها بدون إذن الإمام؟ فنعم، إذا هجم عليهم العدو فيتعين عليهم القتال[18].

وأما توقع الظفر -الانتصار على العدو- أو تحصيل القوة المضاهية لقوة العدو، فلا دليل على اشتراطها، ولا يمكن في الواقع أن ينتظر العدو أهل البلاد عشرات أو مئات السنين حتى يمتلكوا مثل قوته أو حتى نصفها دون أن يكون قد تمكَّن تمامًا من السيطرة الكاملة على بلادهم، وإضعافهم وإذلالهم، كما جرى على الأندلس التي تحوَّلت لإسبانيا.

وقد سبق كلام ابن تيمية -رحمه الله- أنَّ هذا الجهاد المتعيّن لا يُشترط فيه شيءٌ بل يُدْفَع بقدر الإمكان.

ففرق بين الاستطاعة المشروطة في جهاد الطلب حين نطلب الكفار ونغزوهم في بلادهم، وما يلزم لها من توقع الظفر، وبين الاستطاعة في جهاد الدفع للعدو الذي نزل بعقر دارنا، والتي تعني الإعداد بقدر الاستطاعة فحسب؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠]. والمبادرة بالعُدَّة المستطاعة لدفع العدو الصائل، فإنه كلما تباطأنا ازداد تمكنًا ورسوخًا في بلادنا، حتى ينقلب الأمر، فيَعتبر العدو نفسه صاحب الأرض، ويَعتبر أصحاب الأرض الأصليين مشاغبين وإرهابيين ومعتدين، وتنشأ أجيال جديدة في أرجاء العالم لم تشهد بداية العدوان وقد استساغت هذا الوضع المقلوب.

هل يجوز فيها اجتماع أهل السنة مع غيرهم من المخالفين؟

 ابتداءً نقول: لا راية أنصع من راية الجهاد والمجاهدين السُّنة في فلسطين، في أرض الشام المباركة، وفي بقعة من أقدس بقاعها، حول أكناف بيت المقدس؛ دفاعًا عن المسجد الأقصى، وما حوله من الأرض التي باركها الله.

 وبفرض كون بعض المجاهدين -أو من يمثلهم-، متلبسًا ببدعة أو واقعًا في بعض مخالفات لأهل السنة، أو مستعينًا بمن هم كذلك؛ فهذا غير مانع من الجهاد معهم ضد الكافر الصائل المعتدي على مقدسات وبلاد المسلمين؛ لأن مفسدة القتال مع المبتدعة أقل بكثير من مفسدة استيلاء الكفار على بلاد المسلمين.

بل هذا منهج أهل السنة والجماعة، يرون الأمر منوطًا بالسياسة الشرعية التي تهدف لتحصيل أكبر المصلحتين ودفع أكبر المفسدتين، ولهذا يقاتلون الكافر بالمبتدع، ولا يمتنعون عن ذلك إلا في مبتدع يتدين بالكذب والغدر بأهل السنة وخيانتهم، فيُحذِّرون منه لأجل ذلك لا لمجرد مخالفته لأهل السنة في مسألة أو مسائل، بل يُجيز بعض العلماء الاستعانة بالمشركين المأمونين الذين عُرِفَ فيهم حُسن الرأي بالمسلمين[19]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «فإذا تعذّر إقامة الواجبات، من العلم والجهاد وغير ذلك، إلا بمن كان فيه بدعة، مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب؛ كان تحصيل مصلحة الواجب، مع مفسدة مرجوحة معه؛ خيرًا من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل»[20].

وعلى هذا مضى عمل أهل السنة كما في جهادهم مع غيرهم في تحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين الأيوبي، بل أرسل نور الدين زنكي -رحمه الله- الجيوش لحماية مصر من الفرنجة، وكانت تحت حكم العبيدين الضالين قبل أن يُصبح صلاح الدين وزيرًا، ثم آل إليه الأمر، وقد أثنى ابن كثير -رحمه الله- على نور الدين زنكي وعِلْمه بالحديث، وقال: إنه كان عالمًا فقيهًا، وذكر ثناء العلماء عليه[21] وكما في جهادهم وشيخ الإسلام ابن تيمية للتتار مع المماليك الذين سجنوه مرارًا لأجل معتقده السلفي، وكان من كلامه -رحمه الله-: «البلاد التي غلب عليها المعتزلة والرافضة ونحوهم، يكون الأشاعرة فيها هم أهل السنة والجماعة»[22]، فكيف بإخواننا من أهل السنة المجاهدين في فلسطين التي غلب عليها اليهود؟!

وفي عصرنا لما سئل ابن عثيمين -رحمه الله- عن موقف مَن حضر صفّ القتال ضد اليهود والنصارى والمشركين، وكان مَن يُمثّل المسلمين من الفئة الضالة، هل يقاتل معهم؟ فقال -رحمه الله- في إجابته مبينًا قاعدة نفيسة: «يُقاتل، ولو كان مع الفرقة الضالة؛ لأنه يقاتل للإسلام، وليس للفرقة الضالة»[23].

وفي جهاد الأفغان للروس، كان علماء السُّنة يحثّون الشباب على القتال معهم، مع انتشار بعض البدع وأحيانًا الشركيات بين بعضهم، بل كان الشيخ ابن باز -رحمه الله- ينصح الشباب بالذهاب إلى أفغانستان، ومشاركة الأفغان جهادهم، مع تعليمهم السنة وتحذيرهم من البدعة[24].

هل أساء وأخطأ مَن قاموا بعملية طوفان الأقصى بتوريطهم الأمة في تلك الأحداث الدامية، وعلى رأسها عشرات أو مئات الآلاف من القتلى والمصابين؟

أما من قاموا بعملية طوفان الأقصى ولا يزالون، فقد قاموا بما أمرهم الشرع به على أكمل وجه، ملتزمين ببذل ما بوُسْعهم وما في استطاعتهم، فقاموا بفرض العين عن أنفسهم، وبفرض الكفاية عن الأمة الخانعة، لم يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، محسنين متفانين، و﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾ [التوبة: ٩١]. فقد فازوا -إن شاء الله- بالأجر، وباء بالإثم كلّ مَن نكص عن المشاركة في هذا الفرض المتعين -ولا يزال- بما يستطيع من النفس والمال واللسان، وأسوأ منه حالًا وأعظم إثمًا ذلك الشانئ المُخذّل، المُصطفّ مع الكفار والمنافقين.

والمُوفَّق مَن عرف أمر الله، وأبصره، فقام به مبادرًا، والمتفيهقون الجبناء يراقبون فقط، فإذا رأوا انتصارات قالوا: هذا أمر الله، وإذا رأوا شهداء ومصابين، قالوا: هذا مُخالِف لأمر الله، فإذا عادت الانتصارات، قالوا: ثبت لنا أنه أمر الله! وما ذلك إلا لأنهم لا يعرفون أمر الله أصلًا، ولا مبدأ لهم، أو أن مبدأهم الوحيد إيثار السلامة؛ ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [سورة النساء: ٧٨].

ومنهم مَن ينشر صورًا لغزة قبل الحرب يستدرّ بها ندم ضعاف النفوس ليقولوا ﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [سورة آل عمران: ١٥٦]، وليقولوا: أين تلك الأيام الهادئة، والأبراج الشاهقة، والمنتزهات الجميلة؟

ومن قبل قالوا في انتفاضة الحجارة: إن أهل فلسطين وقعوا في فخّ استدرجتهم له «إسرائيل» ليكون مسوغًا للقضاء عليهم، ثم أخزاهم الله وصار أهل فلسطين المجاهدون أكثر قوة وخبرة وعتادًا، وأحسن عيشًا.

فنتائج الحروب لا تظهر على الفور، وقد يتأخر ظهور إيجابياتها، بل لا يراها أعمى البصيرة، وإن ظهرت مبكرًا، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يلفت نظرنا إلى ذلك، فتارةً يقول لمن شكا شدة ما يلقى الصحابة من المشركين: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَن قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ له في الأرْضِ، فيُجْعَلُ فِيهِ، فيُجاءُ بالمِنْشارِ فيُوضَعُ على رَأْسِهِ فيُشَقُّ باثْنَتَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، ويُمْشَطُ بأَمْشاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذَا الأمْرَ، حتّى يَسِيرَ الرّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ، لا يَخافُ إلّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ على غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»[25].

وتارة أخرى يقول للمسلمين في غزوة الخندق، وهو يضرب بالمعول، وقد تألب الأحزاب عليهم، وأصابهم من الجوع والبرد والخوف ما الله به عليم: «اللَّهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ السَّاعَةَ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ الثُّلُثَ الْآخَرَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ أَبْيَضَ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ، وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ! أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا السَّاعَةَ»[26]، حتى كان المنافقون يقولون: لا يستطيع أحدنا أن يخرج للغائط ومحمد يَعِدنا قصور كسرى وقيصر.

ثم من سُنّة الله التي يراها الجميع على مر التاريخ، أن الشعوب لا تُحرِّر بلادها من المعتدِي المحتل إلا بكُلْفَة باهظة، ودماء غزيرة، حتى غير المسلمين علموا ذلك وصبروا عليه، فكم كان من القتل والدمار الذي ذاقته فيتنام حتى تحرَّرت من الأمريكان، وفي بلادنا رأينا كم من الشهداء الذين فقدوا أرواحهم في معارك التحرر من الكفار الغزاة، كما في ليبيا والجزائر.

ثم لا بد قبل الختام من تنبيه مهم لمن ينتقدون طوفان الأقصى بأنه ضيَّع حق المدنيين في الحياة والاستقرار، وهو أن هؤلاء المدنيين يشملهم الوجوب العيني للجهاد بما يستطيعون، ولو بتمسكهم بالبقاء على أرضهم، فحكم الشريعة إذا تعيَّن الجهاد لا يخصّ العسكريين وحدهم، وتقسيم الناس لمدنيين وعسكريين لا يُغيِّر أحكام الدين، ويجب على المدني الذي يتأتى منه القتال أن يتدرّب، إذا وجد لذلك سبيلًا، ويقاتل مع المقاتلين، وإلا لزمه الدفع بما يقدر عليه.

ثم إن إخواننا في فلسطين كانوا يقدمون دماءهم عبر آلاف الضحايا، وبالمجان بعدوان غاشم من عربدات العدو! كما حصل في صبرا وشاتيلا، وما قبلها وما بعدها، فليكن دَفْعها اليوم بمقابل.

والله تعالى أعلم. وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 


 


[1] أخرجه أحمد (١٢٢٦٨)، وأبو داود (٢٥٠٤)، والنسائي (٣٠٩٦). وصححه الألباني في صحيح أبي داود.

[2] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (٥/ ٥٣٨).

[3] حاشية ابن عابدين على الدر المختار (3/ 238).

[4] حاشية الدسوقي (2/ 174).

[5] نهاية المحتاج للرملي (8/ 58).

[6] المغني (8/ 345).

[7] مثل كتاب فتاوى الأزهر في وجوب الجهاد وتحريم التعامل من الكيان الصهيوني، للشيخ جواد رياض، وهذا في دولة واحدة، فكيف لو أردنا جمع فتاوى العلماء في الدول جميعها.

[8] المراد ثالثهما في المنزلة، فلا حرم سوى الحرمين المكي والمدني.

[9] فتاوى الأزهر في وجوب الجهاد وتحريم التعامل مع الكيان الصهيوني: (1948 - 1998م)، جواد رياض، تقديم د. محمد عبد المنعم البري، مركز يافا للدراسات والأبحاث، القاهرة (ص 26).

[10] فتاوى الأزهر في وجوب الجهاد (ص 70).

[11] فتاوى الأزهر في وجوب الجهاد (ص 72).

[12] الفتاوى الكبرى لابن تيمية (٥/ ٥٣٨).

[13] صحيح البخاري (2442).

[14] صحيح مسلم (2564).

[15] كتاب الجامع لعلوم الإمام أحمد في مسائل عبد الله (959).

[16] السابق، باب وجوب الجهاد وعلى من يجب، فصل ما جاء في شروط الجهاد (مسائل الكوسج 2757).

[17] البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل العتبية لأبي الوليد بن رشد (2/ 590).

[18] مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين (25/ 314 -315).

[19] المغني (10/ 446)، كشاف القاع (4/ 1287)، تكملة المجموع شرح المهذب (19/ 280).

[20] مجموع الفتاوى (28/ 212).

[21] البداية والنهاية (12/ 299).

[22] نقض تأسيس التقديس لابن تيمية (2/ 87).

 [23] https://al-fatawa.com/fatwa/127245

[24] ذكر ذلك الشيخ عبد الأخر حماد -حفظه الله- في مقال له على منبر الرأي على شبكة (الإنترنت) بعنوان: مشروعية الاستعانة بأهل البدع إذا اقتضت مصلحة شرعية ذلك.

[25] انظر صحيح البخاري (3612).

[26] أخرجه النسائي (3176) واللفظ له، وأبو داود (4302)، وأحمد (23155) بإسناد حسن، كما ذكره ابن حجر في فتح الباري (7/ 397).

أعلى