• - الموافق2025/09/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
استشراف  حرب الإبادة في قطاع غزة

المقال يصف انسداد الأفق السياسي مع تصعيد الاحتلال لسياسات التصفية والتهجير في غزة والضفة، مقابل عجز المسار التفاوضي وتراجع فعالية الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، مما يجعل مستقبل الفلسطينيين ضبابيًّا تحت هيمنة اليمين الإسرائيلي المتطرف.


تتسارع التطورات الميدانية والسياسية في المشهد الفلسطيني بوتيرة غير مسبوقة لتفرض ملامح مرحلة شديدة التعقيد تُلقي بظلالها على مستقبل المكون الفلسطيني، لا سيّما مع تكشّف المخططات الإسرائيلية الرامية إلى تصفيته على كافة المستويات، في إطار سياسات الحسم للقضاء على أيّ فرص لإقامة الدولة الفلسطينية.

ففي قطاع غزة، تشرف حرب الإبادة على نهاية عامها الثاني بوَقْع دمويّ وأزمة إنسانية متفاقمة، تسعى دولة الاحتلال إلى تعميقها باستمرار للتنصُّل من كافة المبادرات المطروحة التي باتت بلا معنى أمام هذه المشهد المُعقّد.

وتحاول دولة الاحتلال التهرُّب من أيّ التزامٍ سياسي بخصوص قطاع غزة رغبةً في إبقاء حرب الإبادة قائمة، بما يتوافق مع تطلعات اليمين المتطرف الأيديولوجية، ما يدعم استمرارية ائتلاف نتنياهو، فكثيرًا ما تكرَّر مشهد تعنُّت الأخير أمام المقترحات المتداولة -لا سيّما تلك التي تلقى قبول الطرف الفلسطيني-، عبر الهروب نحو توسيع نطاق العمليات الميدانية في القطاع، بما يزيد من تعقيد المشهد وتغيير المقترحات المطروحة باستمرار، وهو ما عطَّل التوصل إلى اتفاقٍ نهائي يُوقِف الحرب.

وبخلاف ذلك، بدأ السلوك «الإسرائيلي» مُؤخَّرًا يتَّجه نحو خطوات صريحة لوأد مسار التفاوض نهائيًّا دون الحاجة إلى تعطيله، وذلك عبر تجاهل نتنياهو للمقترح المصري المُعدَّل عن مقترح ويتكوف الذي وافق عليه الوفد الفلسطيني المفاوض، رغم عدم توافق الكثير مع سقف شروطهم؛ من خلال الإعلان عن عملية عسكرية مُوسَّعة في مدينة غزة، عدا عن محاولة اغتيال وفد حماس المفاوض في عمق الدوحة -الوسيط الرئيسي- في أثناء الاجتماع لنقاش مقترح ترامب الأخير المنفصل عن كافة المقترحات، وهو ما اعتُبِرَ تصريحًا إسرائيليًّا لا لَبْس فيه بعدم الرغبة في وقف سياسات التصفية تجاه المكوّن الفلسطيني سياسيًّا وديموغرافيًّا. 

وفي المقابل، تستمر حالة دعم الرأي العام العالمي والغربي للقضية الفلسطينية وسرديتها على حساب السردية «الإسرائيلية»، وهو ما كان له ارتدادات على تبلور مسار دولي واسع النطاق للاعتراف بالدولة الفلسطينية، كانت قد ابتدأته المملكة العربية السعودية بمؤتمر الرياض لتنفيذ حلّ الدولتين، وصولًا إلى «إعلان نيويورك» الأخير الذي تحوَّل إلى مشروع وافقت عليه الجمعية العمومية في الأمم المتحدة.

ورغم ذلك، يستمر الطرف «الإسرائيلي» بدعمٍ أمريكي في تجاهل كافة المساعي الإقليمية والدولية، وهو ما يضعنا أمام واقعٍ يستدعي خطواتٍ عملية غير مسبوقة تتجاوز مقترحات التفاوض لتفعيل آليات ضغطٍ بديلة على المستوى الدولي تُوقِف حرب الإبادة، وما يُرافقها من مخططات تهجيرٍ وضمٍّ بحق الشعب الفلسطيني، بما فيها دفع الطرف الأمريكي للضغط على حكومة الاحتلال.

وفي ظل حالة انسداد الأفق التي تفرضها حكومة الاحتلال بشكلٍ ممنهج، تبدو ضبابية القراءة الاستشرافية لتلك التطورات المتسارعة. فعلى على المستوى الميداني؛ لا تعكس المستجدات أيّ انفراجة على المدى القريب، بل إن حالة الصدام التي يحاول اليمين المتطرف فَرْضها على أماكن وجود الفلسطينيين في سياق مخطَّط الحسم؛ تجعل الأوضاع برُمّتها على صفيحٍ ساخن -مُشتعِل بالفعل- مُؤهَّل للانفجار الشامل في أيّ لحظة، لا سيّما وأن جيش الاحتلال بصدد تنفيذ عملية عسكرية واسعة في مدينة غزة، تُعرَف بـ«عربات جدعون2»، وعنوانها الرئيسي فرض التهجير القسري، وهو ما لُوحِظ من حجم القصف الجوي المدروس لاستهداف البنى العمرانية الكبيرة، بما يدفع الغزّيين للنزوح جنوبًا نحو المنطقة الإنسانية في المواصي تمهيدًا للتهجير القسري، وهو ما كشفته تقارير إسرائيلية عديدة بشأن مباحثات مع أطراف ثالثة لاستقبال الفلسطينيين جوًّا وبحرًا وبرًّا، وهو ما يتوافق مع مخطط ترامب «ريفيرا غزة» الذي عاد منذ أسابيع لإثارته مرةً أخرى.

وبالتوازي، تشهد الضفة الغربية هي الأخرى إجراءات غير مسبوقة على مستوى توسيع الاستيطان وسياسات الضم التي يتخللها تهجير ممنهج مستمر منذ سنة ونصف تقريبًا، عدا عن تداول مشروع ضم الضفة الغربية، وتصفية السلطة الفلسطينية، وهو ما بدأت بوادره تتكشَّف يومًا بعد يوم.

وفي هذا السياق، لا يُبْدِي اليمين المتطرف أيّ نية للتراجع عن مخطط الحسم، ما يَشِي بتعميق حالة الصدام المحتمل، لا سيّما وأن نتنياهو يرى في المشهد الحالي فرصة مواتية، لا يُمكن أن تتكرَّر، وبالأخص على مستوى تجاوز الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية التي لطالما شكَّلت العائق الرئيسي أمام تنفيذ تلك المخططات طوال السنوات الماضية.

وأما على مستوى الفرص السياسية خلال الفترة المقبلة، فمع حالة انسداد أُفق الحلول، لا يُتوقَّع أنْ يفرز أيُّ مسار دبلوماسي محتمل مخرجًا على المدى القريب من شأنه إيقاف حرب الإبادة والتصفية، حتى لو مؤقتًا، وهذا ما يبدو عليه المشهد في ظل استمرار الطرفين «الإسرائيلي» والأمريكي في مواجهة المسار الدولي الساعي لتفعيل حلّ الدولتين، وتحشيد الجهود لوقف المخططات «الإسرائيلية»، وهو ما آتَى أُكُله في إيقاف الاعتراف الفرنسي والبريطاني المرتقب بالدولة الفلسطينية؛ متذرّعين بضرورة وجود طرف فلسطيني مُوحَّد.

وفي المقابل، تتآكل مقومات الدولة الفلسطينية بوتيرة غير مسبوقة مع استمرار سياسات التصفية الممنهجة؛ جغرافيًّا بفعل الاستيطان، وديموغرافيًّا بفعل التهجير والقتل الممنهج، وسياسيًّا بفعل إجراءات تصفية السلطة الفلسطينية في الضفة، ورفض وجود أيّ طرفٍ سياسي فلسطيني في إدارة القطاع مستقبلًا، وهو ما استُبْدِل بمخطط التهجير نهائيًّا، ما يضعنا أمام واقعٍ داخلي يُفْقِد مسار الاعتراف الدولي الواسع فعاليته، مع استمرار رفض الاحتلال لأيّ مسار يقود إلى محادثات حلّ الدولتين، وهو ما صرّح به نتنياهو باستمرار.

ومن هنا، تُعدّ التفاعلات الداخلية الإسرائيلية عاملًا رئيسيًّا آخر في تقييم الواقع الفلسطيني ومآلاته على كافة المستويات خلال الفترة المقبلة، لا سيّما وأن معادلة اليمين المتطرف باتت هي التي تتحكم بالتوجهات السياسية والعسكرية الإسرائيلية وفق أجندته الأيديولوجية، والتي لا تقتصر، في جزئياتها، على حسم الصراع مع الفلسطينيين فحسب، بل تتجاوزه إلى محاولة فرض معادلة صدامية مع أطرافٍ إقليمية عديدة، وهو ما بدا جليًّا في الآونة الأخيرة من توسيع نطاق الاستهداف لعمق عدة دولٍ عربية، وهو ما يتبلور نظريًّا فيما صرّح به نتنياهو بشأن مُخطط «إسرائيل الكبرى».

وعليه، فإن كافة المساعي الفلسطينية والإقليمية والدولية الرامية لتحقيق اختراقٍ يُنهي الوضع المُتأزم يصطدم بتلك التفاعلات الإسرائيلية التي تُعدّ المُعَرْقِل الرئيسي لأيّ انفراجاتٍ محتملة. لذا، فإن الضغط الداخلي على المستويين الشعبي والمعارض في المجتمع «الإسرائيلي» يُعدّ المؤثّر الرئيسي على سير تلك التفاعلات بخلاف الضغوط الإقليمية والدولية، وهو ما تُدركه المقاومة، محاولةً التعويل عليه عبر توظيف ملف الأسرى لتوجيه ضغطٍ داخلي مستمر للقبول بأيّ مقترحٍ لوقف إطلاق النار، وهو ما نجح نتنياهو في تجاوز عقبات الضغط الداخلي بتوسيع الحرب إلى مناطق جغرافية أخرى.

وعلى أيّ حال، يبقى المشهد الفلسطيني رهينًا لواقعٍ يتحكَّم في رَسْم ملامحه حكومة الاحتلال ذات التوجه اليميني المتطرف الساعية نحو تنفيذ مخططاتها دون هوادة. وفي المقابل، تفتقد الأطراف الفلسطينية لأيّ أدوات ضغطٍ ميداني وسياسيّ تفرض تحوُّلًا جذريًّا على هذا الواقع، خاصةً مع عدم الامتثال الإسرائيلي للضغوط الدولية المتصاعدة، ما يُلْقِي بظلاله على مستقبل المُكوّن الفلسطيني سياسيًّا وديموغرافيًّا، ويُفرّغ أيّ مناورة فلسطينية داخلية لإنهاء الانقسام كمدخل للحل من مضمونها، لا سيّما وأن التوجُّه الإسرائيلي يذهب نحو واقع دولة واحدة قائمة على الهيمنة الإسرائيلية التي تتحكم في كافة المعادلات الإقليمية والدولية.

وأمام هذا المشهد يواجه الفلسطينيون تحديًا وجوديًّا مزدوجًا يتمثل في الحفاظ على مُكوّنهم الديموغرافي والجغرافي، وبلورة مشروع فلسطيني مُوحَّد لتفعيل ضغط دولي ليس على فقط على حكومة الاحتلال، وإنما على إدارة ترامب؛ نظرًا لوجود توافق أمريكي إسرائيلي على مخطط التصفية.

واستنادًا إلى تلك الوقائع، يترسَّخ المسار الراهن على سيناريو التصفية المُدار بسياسات الحسم عبر توسيع العمليات وترتيبات التهجير القسري ووأد المسار التفاوضي، فيما يبقى مسار التهدئة المشروطة رهين تسييل ملف الأسرى وتصاعد الضغط الداخلي، مع خيارٍ منخفض الاحتمال عالي الأثر لتدخُّل إقليمي يفرض ترتيبات قسرية على الاحتلال؛ وعلى المدى المتوسط.

وعليه، يبقى مستقبل الفلسطينيين ضبابيًّا، غير واضح المعالم، في ضوء الوقائع الميدانية والسياسية التي تفرضها دولة الاحتلال في أماكن وجودهم كسيناريو أمرٍ واقعٍ بات هو المستقبل، ما زاد من حالة اليأس الفلسطيني؛ متأهبين لأيّ أدوات ضَغْط غير تفاوضية تُوظّف زخم الاعتراف الدولي من شأنها تبديد فرص استمرارية السيناريو القائم.

 

أعلى