خواطر عن الأمل
لا أحد يريد أن تُسحبَ الحياة من تحت قدميه كما يُسـحب الحصـير، ولـمَّا يُحـدِث فـي نفسـه ودنيـاه شـيئاً يَسرُّ. لا أحد يريد أن تصيبه الوفاة وهو كما يعلم من نفسه، عاداته هي عاداته، وكسله عن المعالي باقٍ لم ينقضِ، وأخطاؤه ممتدة لم تنقطع، ونفسه العاقة منطلقة في عقوقها لم ترجع. ولذلك نُسلِّي أنفسنا بالأمل، هذه النسمة الباردة المغرية التي تداعبنا وتهمس لنا بقُرْب الخلاص.
ولكننا بعد استنشاق هذا الأمل وسَريان مفعوله بشراييننا، سرعان ما نطرح نَفَساً كريهاً، سمِّه إن شئت (ثنائي أكسيد التشاؤم)، وهو كالدخان الأسود الخبيث يختلف في كل مرة شَكلاً ورائحة إلاَّ أنه - في الأصل - شيء واحد، وجوهره متمثل في سؤال مخيف بارد: (ماذا لو لم يكن ثمة أمل؟ ولا غد أفضل؟).
ومع أن الأمل منهج رائع للحياة، ومغامرة قليلة التكاليف، وملهاة من أحسن الملهيات، ومولِّد للطاقة بلا مصاريف؛ فما هو إلا أن يرد على الخاطر ذلك الوارد الذي لا يحبُّ أحد ذكره... ذلك الدخان الأسود الكئيب، حتى يتزلزل الأمل ويُزحزح عن مكانه! فلا تعرف إن كنتَ في الحقيقة متفائلاً أم - عياذاً بالله - متشائماً! وهذا الضيف الثقيل الذي يحبطنا عن العمل، ويبطئنا ويريد أن نقعد مع القاعدين، لا يأتي من فراغ، وإنما وراءه سنوات طوال كان فيها الواحد يقارع نفسه، ويصارعها علَّه يثنيها عن غيِّها وعصيانها وتصابيها، ويأمل ذلك ويتـمناه ويحاوله ويعمل من أجله ويكسل، ويقوم له ويقعد عن العمل. فما انثنت هذه النفس بعدُ ولا ارعوت، وما كفَّت ولا اكتفت؛ فهل تراه يضمن أنها تنصلح في مستقبل الأيام؟ هل يأمل؟ وماذا إن لم تفعل؟ بل ماذا إن زادت في غيِّها وصارت أسوء وأرذل؟
ولكن علـى هـذا الإنسان - وإن لم يرَ بعدُ نتيجةً تسرُّ - ألَّا يترك حبلَ الأمل، بل عليه أن يزداد به تعلُّقا ويعضَّ عليه بالنواجذ عضاً، لأن المؤمن يعرف أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأن من يعلمِ الله في قلبه خيراً يؤته خيراً، وأنه مهما طال الظلام فالفجر آتٍ، وأن بعد العسر يُسراً. وإلا يفعل فلن يقوى على مواصلة ما بقي من الحياة، وستكفُّ كل قواه عن العمل شيئاً فشيئاً، ثم يُشَلُّ تماماً عن الحركة والتفكير، وقد يكفُّ حتى عن الشهيق والزفير، ثم لا يعود له وجود بين الموجودات. فالأمل إذاً ضرورة خطيرة في حياة المرء، كالهواء أو أشدَّ منه خطورة. ودائماً أبداً نجد الأمل جواباً مقنعاً لأعسر المشكلات وأشنع الورطات... كيف ننجح؟ كيف نتغير؟ كيف نجد عملاً؟ مَن نتزوج؟ كيف نتوب؟ كيف نمضي في الحياة بعد الذي وقع وما يزال؟ بل حتى لكي لا نفقد الأمل في الأمل ذاته... يلزمنا أمل!
والأمل إنما يأتي مع العمل، كما أن الشهية تأتي مع الأكل وتقوى به وتزداد، فحيث كان العمل يكون الأمل، وتقول النفس: هل من مزيد؟ وحيث كان الفراغ يندحر الأمل ويهزل، وتظهر أشباح التشاؤم تكاد تسمع لها زفيراً وهي تَمَيَّز مــن الغيظ!
وإنما نحن كالأطفال آخر الأمر، ترى عقولنا الأعمال اليسيرة في صورة إنجازات خطيرة، فتشتاق لمزيد منها، وكلما نالت المزيد انشرحت منا القلوب، وأُثلجت الصدور، وتغيَّرت كيمياء الدماء التي تجري في العروق، فنكاد نرى الأمل رأي العين ونصافحه، ونسأله عن غيابه فيم كان، وأين كان!
هذا وقد قال ربُّنا وخالقنا في محكم تنزيله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: ١١١].
فلنتفاءل - أخي المسلم - ولنزد في الأمل مع العمل، ولا تعجزنا هذه الحياة ولا تهزمنا و {لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].