• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
كسر قوالب الجاهلية!

كسر قوالب الجاهلية!


الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:

ختم الله - سبحانه وتعالى - النبوة برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فأرسله إلى الناس كافة بمعجزة خالدة، وجعل كتابه مهيمناً على ما قبله، وأمَّتَه ممتدةً متسلسلةً إلى قيام الساعة، وكانت عقيدته مماثلة لمن سبقه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الإيمان وإفراد الله بالحكم والعبادة، بينما وُهِبَت شريعته المختلفة الديمومة والبقاء؛ لأنها ذات منهاج مبين شامل، يمتاز بالثبات، ويُراعي المتغيرات، ويحوي من القواعد والأصول ما يمنحه القدرة على التفاعل والتأثير دون عجز أو جمود.

ومصداقاً لذلك جاء الخطاب القرآني الخالد حاسماً بقول ربنا الحكيم العليم: {إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْـحِسَابِ 19 فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإن تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 19، 20]، ثم أكد الله - عز وجل - حكمَه بعد آيات بقـوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْـخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

وحين شرع النبي الكريم صلى الله عليه وسلم  في دعوته، استقر في نفسه، ووعى - بما وهبه الله من علم وفهم - أنه جاء للعالمين بدين جديد، يستلزم نَقْضَ أسس قائمة، وإسقاطَ هيبات تاريخية، وتصحيحَ مفاهيم متجذرة، وفَرْضَ أحكام جديدة، وتشييدَ بنيان على غير مثال، وفيه مناقضة صريحة لما هو موجود؛ ولم يكن الأمر هيِّناً؛ بَيْد أن قدوتنا وإمامنا قام بالعبء الثقيل فنصح وأدى الأمانة وبلَّغ الديانة، وتسلَّمها مَن بعده منه بيضاء نقية ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

ففي مجال العقيـدة أتى الإسلام بمبدأ الإيمـان النقي من الشوائب، والتوحيد الخالص من الشرك، وهو خلاف ما كانت عليه أمم الأرض قاطبة، فحطم بذلك قوالب الكفر والشرك أو هزَّ أركانها وضعضع بنيانها؛ فباتت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار أو التصدع الواسع، وأصبحت كلمة الله هي العليا في العقول السليمة وفي واقع الحياة بعد ذلك.

وقَدِم النبي صلى الله عليه وسلم  على أمة الفصاحة والبيان بنصٍّ معجزٍ محكمٍ آسرٍ، يخالف أوزان أشعارهم وما أَلِفَته آذانهم في محافلهم ونواديهم من الشعر الموزون المقفى، ومن الخطب المنثورة المسجوعة أو المرسلة، فأصبح الشعر المصقع والخطاب البليغ في مراتب متأخرة أمـام هذا النـص الإلهي الباهـر، وانقلـب الجـن والإنس إلى حال عجزٍ ظاهرٍ حسيرٍ عن أن يأتوا بعشر سور مفتريات ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ونصيراً.

كما سعى النبي الخاتم في مراحل متأخرة من الدعوة المكية إلى تعرية فجور قريش وظلمها وتحريفها لدين إبراهيم عليه السلام، وأبرز نفسه منافساً لها في عقر دارها، وغايته السامية من ذلك إسقاط شرعيتها الدينية، وحرمانها من الفضائل التي حازتها ببركة مكة والكعبة فلم ترعَها حق رعايتها وزادت طغياناً وفجوراً، ونجح الرسول صلى الله عليه وسلم  في إبطال دعوى انفرادها بتقرير شؤون البلد الحرام، وفي ما بعد زعزع مكانتها العسكرية بهزيمة مدوية يوم بدر الكبرى حتى صارت فرقاناً إلى قيام الساعة.

ومع تقدير الرسول صلى الله عليه وسلم  لزعامات قريش وغيرهم، ومعرفته بما جُبل عليه بعضهم أو اكتسبه من شجاعة أو نجدة أو حكمة أو كرم، إلا أنه لم يفوِّت الفرصة لتوضيحِ معايب كبراء مجرمي القوم وتجليةِ حقيقتهم علانية أمام الملأ، فخلع على زعيمٍ قرشيٍّ كبيرٍ لقباً يصف الواقع، ويذيب التبجيلَ الخادعَ الممنوحَ له من قبيلته، فأمسى إلى يومنا وما بعده أباً للجهل بعد أن أراد زبانيته تطويقه بالحكمة وهو أبعد ما يكون عنها.

أما بعد الهجرة النبوية الشريفة إلى المدينة؛ فقد كانت جميع أحكام الرسول صلى الله عليه وسلم  وأقواله وتقريراته تجري في سياق هدم قوالب الكفر والوثنية، وإقامة منهاج الإسلام في جميع الشؤون؛ وهو منهاج رباني لا تتغير أصوله وثوابته؛ وفي وقواعده من الشمول والسعة ما يستوعب مناحي الحياة دون استثناء، وسواء في ذلك جديدها وقديمها.

ففقه الحرب وأحكامه حوى ما لم يعهده عرب أو عجم من قبل، وأصبحت تطبيقاتُ النبي القائد ووصاياه أكملَ ما يمكن أن يوجد على ظهر الأرض في المعارك والقتال، وسارت على هذه الأحكام والآداب حركة الجهاد الشرعي المقدس، وفازت بالصواب والسمو والرحمة، وابتعدت عن الحيف والعدوان والإبادة، وهذا الفقه بريء من أي جنوح من دول وجماعات حادت بتصرفاتها عن الجادة، وجانبت العدل إلى العدوان والتخريب.

ومثله في شؤون العلاقات الدولية مع الجوار القريب والبعيد، ومع المسالم والمحارب، ومع الوثني والكتابي، ومع الأقوياء فمن دونهم؛ إذ ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  إرثاً عملياً متنوعاً فضلاً عن نصوص كثيرة من القرآن والسنة، وهي زاد وضياء للسياسي البصير، وفيها مخارج شرعية آمنة لمن رام الاستسلام لأمر الله وحكمِه، واقتفاءَ طريق النبي الواضح والخلاصَ من معرَّة تقليد الروم والفرس واليونان.

ولم يدع المنهاج النبوي مجال الاقتصاد والمال، فوضع له من الأسس ما يمنع الربا والاحتكارَ وتداولَ المال بين فئة وأكلَه بالباطل، وفتح الباب واسعاً لعقود البيع والإيجار والشراكة والمنافع المتبادلة بلا غرر ولا غش ولا منقصة، وفوق ذلك جعل للمجتمع نصيباً من الأموال في الزكاة والصدقة والوقف، وهو ما لم تعرفه العرب، وما لم يَرُق لليهود أكثرِ البشرِ افتتاناً بالتعاملات المالية المريبة.

كما تواصل صنع الرؤية الإسلامية وإقصاء ما سلف من قوالب الجاهلية وعادات الوثنية في قضايا الأسرة والزواج والطلاق والميراث، وأحكام التبني وتربية الأبناء والإنفاق على الأهل والأولاد وغيرها من مسائل البيوت والأسر، وتهاوت بهذه الأحكام الربانية تخبطات جاهلية، وانكشفت تحريفات أهل الأهواء والزيغ، وتسامت شريعة ربِّ الأرض والسماء فلم ينافسها عُرْفٌ قديمٌ، ولن ينافسها تنظيمٌ حديثٌ مهما أُسبِغ عليه من أوصاف لامعة.

وجاء الإسلام بأحكام الجنايات من حدود وقصاص وتعزيرات، فبعد أن كانت الغلبة في ما مضى للقوي، والـمَنَعَة للشـريف، والحمـاية لصـاحب المال، أضحـى الناس سواسية أمام أحكام الشريعة لا فرق بينهم، فالحق مبذول لصاحبه، والحكم واقع على من يستأهله، فغارت بذلك مظالم فترات الجهل وثاراتها وأحقادها، ولم يخشَ الضَعَفَة تحت ظلال الإسلام من تهميش أو نبذ كالمعهود في المجتمعات الظالمة المظلمة.

كما نقض النبي محمد صلى الله عليه وسلم  مسالك قريش في الحج والعمرة والنصرة، وأدى المناسك كما أمره الله وجعل فعله سُنَّة متبوعة، وأعاد للحج مرجعيته الشرعية البريئة من التحريف والأهواء والمطامع، وخلال فتح مكة طهَّر البيت الحرام من أوثان قريش، ومنع للأبد مظاهر العري بجوار الكعبة، وصارت العبادات سبباً لاجتماع الناس بعد أن كان اجتماع لفيفهم على الزور أو العصبية، وقاومت الشريعة العنصرية، ونزعت من أواصر العِرْق قوَّتها لصالح روابط العقيدة وإخوة الإسلام.

ثم تحرى النبي صلى الله عليه وسلم  مباينة المشركين واليهود في الفطر والصيام والسحور واللباس والهيئة والأذكار والآذان والطهارة والقِبلة حتى أبدى اليهود ضجرهم من هذه الفوارق، واستبان حسدهم للأمة على ما سبقت إليه أو امتازت به، والعجب لا ينقضي من أبناء أمة زهدوا في ما يزيدهم عزَّة، وساروا خلف سنن غيرهم من الأعداء والمناكفين!

ولم يتغاضَ الدين الخاتم عن المناسبات العامة، فأبطل مشاهد الزور واجتماعات المنكرات والمآثم، وشرع للعباد عيدين بعد فطر رمضان، وخلال موسم الحج، ولهما أحكامهما وخصائصهما، وأكرم أمة محمد عليه السلام بيوم الجمعة لتسبق يومي اليهود والنصارى؛ فصاروا بعدنا وأتباعاً لنا مع أن زمنهم قبلنا، وهو مكتسب ضيعته الأجيال اللاحقة بمظاهر تقليد وانهزام ولهاث خلف الآخر والمشتكى لله.

وفي أحاديث النبي عليه السلام، وضمن خطبة الوداع وسائر خُطَبه، تكريس لمبادئَ ومفاهيمَ أنكرتها أو أغفلتها المادية البشرية، ونسيتها الملل المحرفة، وأحجمت عنها الفطر المنتكسة، فرسَّخ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم  أسس العدل والمساواة في الحقوق والواجبات، وربط المفاضلة بالتقوى متجاوزاً الشكل والنَّسَب والمكانة، وأوجب على الأمة الإنكارَ على الظالم والأخذَ على يده، وأعاد لها حريتها المسلوبة بعد تأطيرها بأحكامٍ ومصالحَ شرعيةٍ معتبرةٍ، كما أثنى على أخلاق ورغَّب فيها، وحارب رذائل وحذَّر منها، وكيف لا يكون ذلك وهو الذي أخبر سامعيه أنه بُعث ليتمم مكارم الأخلاق؟

ثم قبض الله نبيَّه بعد أن جاهد فيه، وأبلغ الرسالة على الوجه المطلوب منه بلا زيادة ولا نقصان، حتى اكتمل الدين، وخلت نواحيه من أيِّ ثغرة، فَرَضيَه الله لنا ديناً نعمل وَفْقَ هديه، ونشرف بالدعوة إليه لننقذ البشرية من ضلال الشبهات وجحيم الشهوات، وتلك نعمة جديرة بالحمد والشكر والفرح؛ فمنهجنا ذو صلة وثيقة بالسماء، ويتعالى عن نوازع الأرض وبواعث أهلها ومشاربهم.

فإذا استمرت الأمة محافِظةً على أصول دينها، مفتخرة بأحكامه ومنهاجه ونظرته للحياة الدنيوية والأخروية، فسوف ترضي مولاها، وتستجلب تأييده ونصره. وأما إذا تخاذلتْ واستسلمتْ لمكر أعاديها الذين لا يكفُّون عن تحطيم نماذجها الباسقة المتينة؛ فستكون كالـمُنبَتِّ الذي لم يقطـع أرضاً، ولم يبقِ ظهراً، فصار مسرحاً مستهدفاً، وحمى مستباحاً بلا قيمة ولا مَنَعَة. وواقع التيه الذي نعيشه أصدق شاهد، ولا مخرج إلا بالعودة لمفاهيمنا المستقاة من نبع ديننا الصافي من الكدر، وإجراء نظام حياة الأمة على سننها الراشد، وهديها القويم.

 

 

أعلى