إيران في عين العاصفة
ينظر إلى إيران من قبل كثيرين على أنها جزيرة من الاستقرار في محيط يعج بالفوضى
والدول الفاشلة والثورات والإرهاب.. يعتبر مثل هذا التقييم صحيحاً نسبياً إذا ما
تمت مقارنة إيران ببعض دول المنطقة، لكن لا يعدو كونه مجرد خيال إذا ما أخذنا بعين
الاعتبار السياق التاريخي للصراعات داخل إيران نفسها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى
الانعكاسات المدمرة لطموحاتها الخارجية على وضعها الداخلي.
•ولا تختلف هذه المعطيات التاريخية المتعلقة بإيران عن المعطيات القائمة اليوم، لكن
الأجندة الدولية والأخطاء الفادحة للأنظمة الإقليمية أتاحت لها الفرصة لتدارك بعض
التحولات الكبرى فضلاً عن نقل ساحة المعركة من الداخل الإيراني إلى المحيط
الإقليمي. ومن المعروف في هذا المجال أن نقل معارك الداخل إلى الخارج يشيح النظر عن
حالة الضعف الداخلية التي تعتري الأنظمة التي تعتمد على هذا النوع من
الإستراتيجيات، لكنها لا تحل المشكلة الحقيقية بطبيعة الحال.
على الصعيد الداخلي، لطالما طبع التاريخ الإيراني بصراع مرير بين النظام الحاكم
وجموع الشعب، ولا يختلف ذلك عن الوضع الحالي لإيران، وإن كانت أدوات التجاذب
والصراع قد اختلفت، إلا إن اللعبة لا تزال كما هي. فبرغم مدة حكم نظام الملالي
القصيرة نسبياً (منذ العام 1979م)، إلا إن الصراع الداخلي بين الطرفين استمر منذ
مراحل الثورة الأولى ومروراً بتسعينات القرن الماضي وليس انتهاءً بانتفاضة الحركة
الخضراء في العام 2009م.
من الواضح أن الضغط الذي تتعرض له شرائح واسعة من الشعب الإيراني سواء من الناحية
السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية ينفجر بين فترة وأخرى على شكل حركات احتجاج
متعددة، سياسية أو شعبية. لقد استطاع النظام الإيراني حتى الآن قمع جميع هذه
الحركات بفاعلية تامة، وهو أمر ربما كان متوقعاً لدى البعض إذا ما أخذنا بعين
الاعتبار أن النظام بذاته أو بممثليه كان فتياً ويمتلك من القوة والخبرة الثورية ما
يؤهله لإجهاض أي حركات مضادة له.
لكن في المقابل، هناك عوامل عدة تقول إن المعادلة ربما تتغير في القريب العاجل حيث
تتراجع قدرة النظام على التعامل مع مثل هذه الحركات مع مرور الزمن وتتراكم على
الجانب الآخر العوامل التي تؤدي إلى انفجار داخلي ضخم تعجز السلطات الإيرانية على
التعامل معه. من بين هذه العوامل على سبيل المثال لا الحصر هِرم القيادات الأساسية
في البلاد وعلى رأسها المرشد الأعلى وأتباعه في الوقت الذي تزداد فيه نسبة الشباب
في إيران.
من سيخلف الرجل المريض؟
يعاني المرشد الأعلى علي خامنئي من مرض مزمن على ما يقال، كما أنه قد بلغ من العمر
نحو 78 سنة، وهذا يعني أن إيران ستكون مقبلة قريباً على مرحلة انتقال سياسي في غاية
الأهمية ذلك أن طبيعة النظام كانت ولا تزال تعتمد إلى حد كبير على الشخص الذي يحتل
أقوى موقع في البلاد وهو موقع المرشد الأعلى. الصراع على هذا المنصب سيبلغ أوجه،
حيث تخوض العديد من المؤسسات والشخصيات النافذة داخل النظام الإيراني صراعاً خفياً
لتأمين مصالحها المستقبلية.
وفي ظل هذا الصراع المرتقب على السلطة، يحاول المرشد وجماعته التخطيط لانتقال
سياسي منظم يحفظ مسيرة النظام الذي أرساه الخميني بعد الثورة، لكن هناك الكثير من
الخبراء ممن يرون أن مثل هذه المحاولة لن تنجح وأن إيران غير مؤهلة لتحقيق انتقال
سياسي ناجح بسبب الفساد وعدم إيمان الناس بالأيدلوجيا التي يروجها والانقسامات
الداخلية، وأن هذه العوامل تجعل من النظام غير قادر على استيعاب عملية خلافة المرشد
الأعلى في ظل حالة الانقسام وعدم رضا المجتمع.
على المستوى الاجتماعي:
تتكون إيران من عدة قوميات غير منسجمة، ولا تعاني هذه القوميات من اضطهاد على
مستويات مختلفة فحسب، وإنما تتأثر كذلك بالانعكاسات السلبية التي تتركها الكوارث
الإقليمية نظراً لارتباط هذه القوميات بدرجة أو بأخرى بالعديد من الدول المجاورة
لناحية العرق أو اللغة أو الدين. بدأت حالة الاحتجاج لدى بعض هذه القوميات بالتحول
مؤخراً إلى حركات مسلحة، وشهدت الساحة الإيرانية تزايداً للهجمات التي تقودها أحزاب
كردية مسلحة، كما ظهرت جماعات سنية مسلحة، وهذه مؤشرات سلبية على وضع الداخل
الإيراني إذا ما تمت إضافتها إلى حقيقة الوضع الاقتصادي المتردي، فإنها ستكون
بمثابة مرجل قابل للانفجار في أي لحظة.
على الصعيد الإقليمي، هناك حالة غير مسبوقة من العداء الشعبي لإيران نظراً
لسياساتها التخريبية التي يعتبرها كثيرون أساساً لخراب ودمار العديد من دول
المنطقة. لقد استطاعت إيران خلال العقد الماضي السيطرة بشكل مباشر على كل من لبنان
وسوريا والعراق واليمن، وازداد نفوذها غير المباشر في العديد من الدول الأخرى كذلك.
وللمرة الأولى منذ قرون، تتمكن إيران من تحقيق هذا التمدد الجيو-سياسي
والجيو-عسكري. لا شك أن أحد أهم عوامل نجاح إيران في هذا المجال هو التخطيط والعمل
الدؤوب، لكن العامل الأكثر مساعدة لها على تحقيق طموحاتها الإمبريالية في العالم
العربي هو السياسات الساذجة والحمقاء للعديد من دول المنطقة، وافتعال المعارك
البينية العبثية التي تؤدي إلى تبديد الجهد والمال والوقت وإلى تفتيت الجبهة السنية
في المنطقة.
مثل هذه السياسات أعطت إيران مكاسب حقيقية وإستراتيجية بشكل شبه مجاني. وبرغم ذلك،
هناك من يشير إلى أن تكاليف التوسع الإيراني السياسية والمالية والعسكرية ستزداد مع
مرور الوقت بشكل يفوق قدرة النظام الإيراني على تحملها. في هذه الحالة من المنتظر
أن يتحول التوسع الإيراني إلى مشكلة جديدة، لكن مثل هذا الأمر يحتاج بالتأكيد إلى
قيام الآخرين بالتركيز على استهداف إيران بسياسة استنزاف وهذا أمر غير متوفر حالياً
بسبب التخبط الجاري بين الدول الإقليمية، لكنه لن يكون صعب التحقق حال التوصل إلى
اتفاق بهذا الشأن.
هل سينهار الاتفاق النووي؟
على الصعيد الدولي، لا تزال إيران متمسكة بالاتفاق النووي الذي توصلت إليه مع عدد
من دول المجتمع الدولي في عهد إدارة أوباما. هذا الاتفاق سمح لها بالتمدد الإقليمي
وأعطى دفعاً دولياً غير مسبوق لأجندة إيران في المنطقة تحت ذريعة مكافحة الإرهاب أو
ما يحب الإيرانيون تسميته بــ«التكفيريين».
لقد استخدمت إيران هذه الورقة لتعزز من موقعها ودورها على الصعيد الإقليمي ولتحصن
نفسها أيضاً على المستوى الدولي. وحصل النظام الإيراني على مليارات الدولارات من
إدارة أوباما ورفعت عنه العقوبات الاقتصادية وسمحت له بإجراء صفقات دولية، وقد
استغلت طهران هذا الأمر من أجل خلق شبكة علاقات وثيقة مع أوربا بالإضافة إلى تلك
التي تحتفظ بها مع دول مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية وغيرها من الدول.
لكن مع إدارة ترمب، يخشى النظام الإيراني والقيمون على الاتفاق لاسيما رئيس
الجمهورية والطاقم الذي عمل معه من انهياره لاسيما وأن ترمب كان قد قال عدة مرات
سابقاً إنه سيمزق الاتفاق. بالطبع لن يقوم بتمزيق الاتفاق بعد أن أصبح رئيساً لكن
لا شك هناك ضغوط أمريكية متزايدة على الجانب الإيراني إما لدفعه إلى الالتزام به
حرفياً بشكل لا يتيح لطهران التلاعب به والاستفادة منه أو لدفعها ربما للخروج بشكل
مقصود أو غير مقصود عنه وتكون بذلك قد قدمت المسوغات المطلوبة لإنهاء الاتفاق.
مكمن الخوف هنا أن انهيار الاتفاق سيؤدي إلى عزل إيران مرة أخرى عن المجتمع الدولي
وسيؤدي كذلك إلى تآكل المكتسبات التي كانت قد حققتها سابقاً، وسيكون لمثل هذا الأمر
تداعيات داخلية غير محمودة النتائج على الأرجح.
الإدارة الأمريكية الحالية تقوم بتشديد العقوبات الاقتصادية على النظام الإيراني
مرة أخرى، ومستوى الاشتباك الكلامي بين الطرفين عاد إلى مستوى عالٍ كما كان عليه
الأمر سابقاً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى إمكانية وقوع مناوشات عسكرية استعراضية بين
الطرفين لاسيما في الخليج العربي.
هناك مؤشرات متزايدة على أن التركيز على إيران سيزداد من أجل حرمانها من المكاسب
التي حصلت عليها، وأن العامين المقبلين قد يكونا مسرحاً للاشتباك المتزايد والسريع
بين واشنطن وطهران. هناك من يرى أن مثل هذه الظروف الداخلية والإقليمية والدولية إن
تحققت في وقت واحد فستكون ضربة مثالية للنظام الإيراني، وهو ما يستوجب التحضير
لاستغلال اللحظة المناسبة المتمثلة في اندلاع محتمل لحركة احتجاج واسعة ضد النظام
في أي مرحلة من المراحل لاحقاً، أو الاستعداد لسيناريو موت خامنئي المفاجئ الذي من
المحتمل أن يدفع النظام الإيراني إلى درجة الانهيار السياسي، أو الاستعداد لمواجهة
تداعيات فشل الاتفاق النووي وتصعيد الضغط على إيران.
مجمل القول أنه وبرغم ترويج البعض لإيران على أنها جزيرة من الاستقرار والسلام في
محيط ملتهب، إلا إن الحقيقة بعيدة عن ذلك تماماً، فإيران بمثابة قنبلة موقوتة لكن
لطالما ساهمت عوامل داخلية وإقليمية ودولية في تنفيس الضغط المتزايد داخلها قبيل
الوصول إلى درجة الانفجار. ولا يمكن ضمان حصول مثل هذا الأمر بشكل متكرر، وقد كان
نظام الملالي محظوظاً حتى الآن في تفادي الانفجارات الكبرى، وكذلك الأمر فيما يتعلق
باستغلال نقاط ضعفه إقليمياً ودولياً، لكن لا شيء يضمن أنه سيكون محصناً مستقبلاً،
خاصة إذا لم يتغير كلياً.
من المتوقع أن تشهد إيران قريباً صراعاً عنيفاً على أقوى موقع في البلاد وهو موقع
المرشد الأعلى حيث بلغ علي خامنئي من الكبر عتياً (نحو 78 سنة)، ويعاني مرضاً
مزمناً على ما يقال.
للمرة الأولى منذ قرون سيطرت إيران بشكل مباشر على كل من لبنان وسوريا والعراق
واليمن، وكان أهم عوامل نجاحها هو تحالفها مع أمريكا والسياسات الساذجة والحمقاء
للعديد من دول المنطقة.