العلماء العباد.. علماء الدعوة بنجد نموذجاً
أفضل الأعمال بالإجماع: الصلاة والجهاد والعلم[1]،
وقد يغلب على أصحاب الصلوات والعبادات والقيام بحقوق الله: الانقباضُ عن الإحسان
إلى الناس بالتدريس وقضاء حوائجهم والاحتساب عليهم، كما أن الذين ينهمكون في خلطة
الناس لأجل الدعوة والحسبة ونشر العلم قد يلحقهم الفتور عن العبادات والصلوات، فقد
يتعسّر الجمع بين حقوق الربّ وحقوق العبد، ولذا قال ابن رجب: «والجمع بين القيام
بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جداً، لا يقوى عليه إلا الكُمّل من الأنبياء
والصدّيقين»[2].
ثم إن فتنة هذه الأمة وضلالها إما بسبب عالم فاجر، أو عابد جاهل، وأحسب أن علماء
الدعوة - دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - قد جمعوا هذه الفضائل الثلاث: الصلاة
والجهاد والعلم، فإن من نظر في رسائلهم، وطالع تراجمهم وجد فيها المهام الجسيمة
والأعمال الكبيرة من التدريس والفتيا، والقضاء والحسبة، والجهاد بالسنان والبيان،
ثم إن هذه الواجبات الضخام والوظائف العظام ما كان لهم أن يقيموها لولا أن القوم
أصحاب حظ وافر من لزوم العبادات ودوام المجاهدات، والعزوف عن دار الغرور، والتعلق
بالآخرة، والتهيؤ ليوم البعث والنشور.
وهاك أمثلة عملية على تعبّد أولئك الأخيار، وزهدهم في الفاني واشتغالهم بالباقيات
الصالحات.
فهذا إمام الدعوة - الشيخ محمد بن عبد الوهاب - كثير الذكر لله تعالى، قلّ ما يفتر
من قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وكان إذا جلس للناس
ينتظرونه يعلمون إقباله إليهم قبل أن يروه من كثرة لهجه بالتسبيح والتحميد والتهليل
والتكبير[3].
ووُصف الشيخ عبد العزيز عبد الله الحصين (ت: 1237هـ) بأنه كان عالماً عاملاً،
زاهداً ورعاً، حليماً لا ينتصر لنفسه، محبباً إلى الناس، وليس للدنيا عنده قدر، ولا
يركن إليها ولا يتعاطاها، بل قطع دهره في طلب العلم وبذله[4].
وأما «مفتي الديار النجدية» في وقته العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبو بطين (ت:
1282هـ) فقد وصفه صاحب «السحب الوابلة» بقوله: «كان ساكناً وقوراً، دائم الصمت،
قليل الكلام في كل شيء، كثير العبادة والتهجد، مواظباً على درسيّ وعظٍ بين العصر
وبين العشائين في المسجد الجامع»[5].
أما العلامة عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ (ت: 1339هـ) فقد جمع بين الزهد في
الدنيا، والكرم والسخاء، والإحسان إلى الفقراء والأرامل والأيتام، حتى تراكمت عليه
الديون، فباع عقاره ومواشيه واستدان مبلغاً كبيراً، فلما علم الملك عبد العزيز
بذلك، قال له: «يا شيخ تستدين وأنا موجود؟!»، فقال الشيخ عبد الله: «تدخل على الله،
ثم تدخل على الله، لا تفسد على دينيّ، لا تفسد عليّ ديني»[6].
وأما «وزير المالية» في عصره: الشيخ المحسن: حمد بن فارس (ت: 1345هـ) فقد كان يجلس
في مصلاه لصلاة الفجر يوم الجمعة يتلو القرآن حتى يخرج الإمام لصلاة الجمعة[7].
وعندما نطالع سيرة العلامة عبد الرحمن السعدي (ت: 1376هـ) نجد فيها: أنه كان زاهداً
متعففاً عزيز النفس على قلة ذات يده[8]،
حتى إنه عُيّن مشرفاً على المعهد العلمي بعنيزة، وبراتب شهري قدره ألف ريال، فأبدى
الشيخ السعدي استعداده للإشراف على المعهد حسبةً لوجه الله تعالى، ولا يريد على ذلك
حظاً دنيوياً[9].
وإذا نظرنا في حياة العالم الذي أفنى عمره في جمع فتاوى ابن تيمية في سبع وثلاثين
مجلداً، ثم أعقبه بجمع بفتاوى ورسائل علماء نجد في «الدرر السنية»؛ إنه الشيخ عبد
الرحمن بن قاسم (ت: 1392هـ)، فلقد كان عابداً تقياً، يختم القرآن في كل أسبوع، وأما
في رمضان فإنه يختم عشرين ختمة، حتى في مرض موته كان يقرأ القرآن كاملاً من صدره،
وكان يسكن في بيت متواضع صغير في بلدة العمارية، وزاره الملكُ سعود بن عبد العزيز
في ذلك البيت، وعرض عليه أن يبني له بيتاً غير هذا، فقال الشيخ ابن قاسم: قد بنيتُ
لي داراً أنتظر الرحيل إليها[10].
وأما العلامة عبد الله بن محمد بن حميد (ت: 1402هـ) فقد وصفه ابنه الشيخ صالح
قائلاً: «كان رحمه الله ديّناً ورعاً، صالحاً عفيف النفس، غير متزلف لذي جاه أو
نفوذ، شديد الاحتمال، وكان يربأ بالعلم أن تُنال به حظوة أو يسعى به إلى مرتبة»[11].
ومهما يكن فأحوالهم التعبدية لا تنقضي، ومشاهد زهدهم لا تنتهي، لكن أمراً تحسن
الإشارة إليه في هذا الشأن، وهو أن ذلك التعبد المشروع الذي لازم القوم، والزهد
الذي عمر قلوبهم، والتقى الذي استحوذ على شؤونهم قد أورثهم يقيناً بترك ملامة
الخلق، والإقبال على عبادة الخالق، ومحاسبة النفس، وكما في الأثر - الذي ساقه الشيخ
محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً:
«إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم
على ما لم يؤتك الله»[12].
فهذا العلامة عبد الرحمن بن حسن (ت: 1285هـ) أدرك الدولة السعودية الأولى، وعاين
سقوطها، وتسلّط العساكر التركية والمصرية على بلادهم بالقتل والتخريب والإفساد،
وعلل ذلك السقوط بأنه من: «آثار الذنوب التي حدثت، لما عمّت البلوى فيهم بفتنة
الشهوات، وذلك بأسباب، منها: توفر الدنيا عليهم، وإقبالهم على طلبها، والإسراف
فيها، وتمكن بطانة السوء وكثرتهم، وقربهم من الإمام، فضعف الآمر بالمعروف والناهي
عن المنكر، وقلّ جداً، وكثر عليه الأذى، فوقعت العقوبة بسبب ما وقع من التفريط»[13].
وخاطب العلامةُ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (ت: 1293هـ) الإمامَ فيصل بن تركي
بما كانت عليه الدولة آنذاك من الظهور والصولة زمن شيخ هذه الدعوة - محمد بن عبد
الوهاب - ووزيره العبد الصالح - محمد بن سعود - على حسب تعبير العلامة عبد اللطيف،
ثم أشار إلى سبب انهيار الدولة السعودية الأولى من باب تذكير الإمام فيصل
والاعتبار، فقال: «ثم حدث فيهم من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال
والإرادات، وجرى من العقوبة والتطهير، ما يعرفه الفطن الخبير»[14].
وبالجملة فإن تحقيقهم التوحيد بلوازمه، والقيام بعبادة الله وحده أورثهم تيقظاً
جانبوا به الغفلات، ومنحهم تخوّفاً من عواقب الذنوب، فجافوا به الغمرات والشهوات،
فعندما تطالع «الدرر السنية» تجدّ أنها حافلة بالنصائح العامة للأمة[15]،
ونصائح للراعي وسائر الأئمة، والتذكير للغافل والتعليم للجاهل، فإظهار التناصح صار
ثقافة سائدة وعادة راتبة عندهم، فالعالم وطالب العلم ينصح، كما أن الإمام والأمير
وغيرهم ينصحون.
ومن هذه النصائح العامة ما سطّره الشيخ حمد بن عتيق (ت: 1306هـ) ناصحاً لعموم
المسلمين، حيث استهلّ نصيحته بما يلي:
«الموجب للخط هو النصح لكم، والشفقة عليكم، خوفاً من نزول بأس الله بنا وبكم، وذلك
مما فشا من المنكرات، وجاهر به الخواص والعوام من الموبقات»[16].
وأخيراً فإن التعبّد لله وخشيته يبعث على الصدع بالحق، والإشفاق على الخلق، قال
تعالى: {إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقال سبحانه:
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ
وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}
[الأحزاب: 39].
وهذا ما كان عليه علماء الدعوة بنجد، فقد جهروا بالحق، وزجروا الخلق بعلم ورفق.
وهاك مثالين على ذلك، أحدهما: ما كتبه الشيخ عبد الرحمن بن حسن إلى الإمام عبد الله
بن فيصل بن تركي قائلاً له:
«والله ثم والله إن لم تجعلها أمر دين، وتدعو الناس إلى ما أمرهم الله به، إنْ
تشفّق سكون قرية من قرى نجد وأنت مطلوب، لكن إن تسلط عليك أحد وأنت تأمر بما أمر
الله به ورسوله فالله مع المتقين، فإن كنتَ على هذه الحالة فلا حول ولا قوة إلا
بالله»[17].
والمثال الآخر: ما دوّنه عشرة من علماء الدعوة بنجد في رسالة خاطبوا فيها الملك عبد
العزيز بن عبد الرحمن، فكان مما قالوه:
«ما عذرك يا عبد العزيز عند الله إذا كان المسلمون في كل زمان تظهر عليهم نابغة شر،
ثم تثبط المسلمين عن دفعها، وتقول: هذه مصلحة وسياسة، أما المصلحة والسياسة فلا شك
أنك مقدم فيها، ومسؤول عنها، ونحن ساعدناك فيها».
إلى أن قالوا: «ولكن السياسة الغبية ما تسوغ لك، وافطن لقول الصحابي: فإن عرض بلاء
فافد بمالك دون نفسك، فإن تجاوز البلاء فافد نفسك دون دينك»[18].
وأخيراً إن هذا التعبد لله وحده - وما يتبعه من بيان الحق والنصيحة للخلق - قد حقق
لعلماء الدعوة بنجد مواقف خالدة كان لها أعظم الوقع والأثر على سائر الناس بما في
ذلك الأعداء والخصوم! حتى إن الطاغية إبراهيم باشا لما هدم الدرعية، وأسقط الدولة
السعودية الأولى، ثم انصرف إلى القاهرة، فاستقبله الأزهريون، لم يتلفت إليهم! ثم
قال: العلماء الحقيقيون هم في صحارى نجد؛ لما رأى من إيمانهم وصدقهم[19].
[1] ينظر: منهاج السنة النبوية 6/75.
[2] جامع العلوم والحكم 1/454.
[3]
ينظر:
عنوان المجد لابن بشر
1/180.
[4]
ينظر:
عنوان المجد لابن بشر
1/464،
465.
[5]
السحب الوابلة لابن حميد
2/631.
[6]
الدرر السنية
15/452.
[7]
ينظر:
تذكرة أولي النهى والعرفان لابن عبيد
3/170.
[8]
ينظر:
روضة الناظرين للقاضي
1/223.
[9]
ينظر:
مقال
«الشيخ
عبد الرحمن السعدي»
لعبد الرحمن العدوي، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة س11،
ع
4،
ص205.
[10]
ينظر:
الشيخ عبد الرحمن بن قاسم حيان ومؤلفاته لعبد الملك القاسم ص293،
302.
[11]
ينظر:
الفتاوى والدروس في المسجد الحرام، للشيخ عبد الله بن حميد، ص20.
[12]
رواه أبو نعيم في الحلية
5/106،
والبيهقي في شعب الإيمان
(203).
[13]
الدرر السنية
12/41،
42 =
باختصار.
[14]
الدرر السنية
14/197،
وأكد هذا المعنى ابنه العلامة عبد الله بن عبد اللطيف، ينظر:
الدرر السنية
14/281.
[15]
انظر:
الأجزاء الرابع عشر إلى السادس عشر من الدرر السنية فهي عن
«النصائح».
[16]
الدرر السنية
14/233.
[17]
الدرر السنية
11/48.
[18]
الدرر السنية
9/350،
351 =
باختصار.
[19]
ينظر:
علماء نجد للبسام
1/53.