ويمكن اعتبار طوفان الأقصى المبارك بداية سلسلة من التغيرات الكبيرة تتتالى في تتابع عجيب، حتى إنه حوَّل الدول الكبرى من مُدبِّرة للأحداث إلى وَضْع تجد فيه صعوبة في متابعة الأحداث
الحمد لله قاصم الجبارين، وناصر المستضعفين، يُعِزّ مَن يشاء، ويُذِلّ مَن يشاء، لا
رادّ لحُكمه، ولا خارج عن مشيئته؛ يُنزِل عذابه كما يأتي نصره تحقيقًا لوعده
ووعيده، لا فرق بين أن يكون بعد طول انتظار أم بغتة؛ فسبحان مَن أمره بالكاف
والنون؛ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢]، وهو القائل: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي
الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ
تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦].
يُمْلي للظلمة، ويَمُدّ لهم في طغيانهم قبل أخذهم، ويَبتلي المؤمنين قبل تمكينهم، و﴿لَا
يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣]؛ نعم، كلّ الخلق
مُعرّضون للمساءَلة؛ كما ذكر الطبري في تفسيره للآية، وجميع مَن في السماوات والأرض
من عباده مسؤولون عن أفعالهم، ومُحاسَبون على أعمالهم، وهو الذي يَسألهم عن ذلك،
ويحاسبهم عليه؛ لأنه فوقهم ومَالِكهم، وهم في سلطانه.
وبعدُ: فنحن في هذه الأزمان نَمُرّ بمرحلةٍ تتجلَّى فيها حكمة الله وقدرته في تدبير
الكون، فلا نخال حرب أوكرانيا إلا تقدمة قدَّمها الله للمسلمين بتعميق الخلاف بين
الغرب المسيطر والقوى الصاعدة التي تبحث لها عن مكان، مما سمح بقلب كثير من
المعادلات.
ويمكن اعتبار طوفان الأقصى المبارك بداية سلسلة من التغيرات الكبيرة تتتالى في
تتابع عجيب، حتى إنه حوَّل الدول الكبرى من مُدبِّرة للأحداث إلى وَضْع تجد فيه
صعوبة في متابعة الأحداث، وبالتالي فهي -وخاصةً أمريكا- تحوَّلت إلى وضع الدفاع في
كلّ الملفات المتعلقة بالعالم الإسلامي التي تشابكت خيوطها وتعقَّدت محتوياتها
بصورة سريعة تصعب ملاحقة تفصيلاتها.
وقد أدَّى فشل الوكلاء المحليين في إغلاق ملف فلسطين إلى دخول أمريكا مرغمةً بصورة
مباشرة لحماية كيان اليهود ومناطق نفوذها الأخرى، وكانت النهاية توقيع وقف إطلاق
النار مع الحوثيين، وهذا لا يتطرق إلى ما جاءت أمريكا من أجله، وهو فتح باب المندب،
وإيقاف إسناد غزة، بل تحولت أمريكا من داعم مطلق لعمليات
«نتنياهو»
الجنونية إلى طرفٍ يتفاوض مباشرةً مع حماس، ويتفق معها، ويفرض هذا الاتفاق على ما
تسمى
«إسرائيل»؛
مما يعني تحوُّل هذا الكيان إلى حالةٍ من الضعف بحيث تتولى أمريكا مباشرة إدارة
شؤونه السياسية، وحمايته عسكريًّا، وهو ما يعني نهاية اعتبار التطبيع مع
«إسرائيل»
بوابة العبور لعلاقات وثيقة مع أمريكا.
بل يمكن القول: إن طوفان الأقصى قد جعل بقاء اليهود في فلسطين محلّ تساؤل؛ فشعار
«فلسطين
حرة، من النهر إلى البحر»،
قد عبر المحيطات، وأصبح يُردَّد في أمريكا، ويتردد صداه بقوة؛ فوصية
«إلياس
رودريغيرز»
تُعبِّر عن عمق التغيُّر في الرأي العام ضد الممارسات الشنيعة في فلسطين، والإحساس
بالعار من الموقف الرسمي، والأخطر أنه ذكَر في نهاية وصيته هذا المقطع المُعبِّر عن
تصوره للمشاعر التي تغزو الأمريكيين بقوله:
«يسعدني
أنه يوجد اليوم على الأقل العديد من الأمريكيين الذين يرون أن هذا الإجراء سيكون
واضحًا للغاية بالنسبة لهم، وبطريقة مضحكة إلى حدّ ما، سيكون الشيء الوحيد المعقول
الذي ينبغي عليهم فعله».
نعم، لقد وصل الطوفان إلى أمريكا، ولكنّه أيضًا أسهَم في تسهيل طوفان ثانٍ في بلاد
الشام العزيزة، وبعد شهور من التردُّد، تُسلِّم أمريكا بولادة وضع جديد تتقارب فيه
سوريا مع تركيا، بحيث تتعامل معهما معًا، وتُرسل سفيرًا إلى تركيا ليقوم أيضًا بدور
المبعوث الخاص للرئيس ترامب في سوريا، بل ويعلن على لسانه أن
«سايكس
بيكو»
كان خطأً تاريخيًّا لن نُكرّره.
وهنا لا ننسى تصريح ترامب في أثناء مؤتمره الصحفي مع نتنياهو، بأن على نتنياهو
التسليم بأن أوردغان قد أخذ سوريا، وهو شعور يتعمّق مع حضور أوردغان عن بُعْد لقاء
أحمد الشرع مع ترامب، وكذا لقاء الشرع مع المبعوث الرئاسي الأمريكي في إسطنبول.
وفي المحصلة، فنحن أمام حالة جديدة تُسلِّم فيها أمريكا بانتهاء حقبة
«سايكس
بيكو»،
ولكن البديل الذي كان مطروحًا، وهو تقسيم المنطقة من جديد، وتكوين هلال شيعي ودويلة
كردية قد تحوَّل إلى حُلم بعيد المنال، وأصبح همّ أمريكا الأول هو البقاء في المشهد
السياسي ولو بصورة رمزية، مع الحرص على تعزيز المصالح الاقتصادية، ومن هنا نفهم
القرار الأمريكي المتأخر برفع العقوبات عن سوريا.
ومن المبشرات التي تُفرح المسلم أن الناس أصبحوا يتساءلون، وبصوت مسموع حول الطوفان
الثالث، ومن بعده الرابع؛ فمسار التغيير بات حتميًّا، وكان الحديث عن توقُّع انهيار
الإدارة المشتركة الأمريكية الإيرانية للعراق منطقيًّا، ولكنّه مرتبط أساسًا بتعامل
إيران وأمريكا مع الوضع الجديد في سورية، فالإصرار على العودة للوضع السابق؛ من حيث
تقاسم النفوذ، سيؤدي إلى تسخين الوضع في العراق، ولكن يبدو أن إيران تحاول حماية
نفسها، وأمريكا تتطلع لمستقبل يتقبّل وجودها بصورة ما في المنطقة.
ومن هنا نفهم تضاؤل فرص قيام النصيرية أو الدروز بتحرُّك مؤثر، أما الأكراد فإعلان
حزب العمال الكردستاني إلقاء السلاح وحلّ نفسه، يعني انهيار مشروع كردستان الكبرى،
والدخول في مرحلة جديدة مع انتهاء حكم القومية المتطرّفة في كلٍّ من تركيا وسورية.
ولذا فلسائلٍ أن يسأل: أين الطوفان الثالث؟
والجواب أنه كان متوقعًا بباكستان مع إرهاصات عودة عمران خان وسقوط النظام الذي
فرضته أمريكا، ولكن الحكمة الربانية قضت بطوفان باكستاني غير متوقع غيَّر موازين
القوى في المنطقة، ففي البداية لا يخفى أن الهند وباكستان خاضتا حروبًا متتالية،
منها حرب عام 1947م، للسيطرة على جامو وكشمير، وانتهت باحتلال الهند لثلثي المنطقة،
وسيطرة باكستان على الثلث الباقي، وأسمته كشمير الحرة، وهو مهم جدًّا؛ لأنه يكفل
لباكستان شريطَ حدودٍ إستراتيجيًّا مع الصين.
وقد استمرت الهند باستهداف باكستان، وتمكّنت من فصل باكستان الشرقية، المتمثل
بالبنغال الشرقي، وكوَّنت دولة سُمّيت بنجلادش، تحكمها أحزاب علمانية متطرفة موالية
للهند، ولكنّ دخول الهند في تحالفات غربية لحصار الصين قد عمَّق الخلاف مع الصين
التي بلغ بها الغضب أشدّه مِن قبول الهند لخطة الغرب الطموحة لنقل ثِقَل الإنتاج
الصناعي العالمي من الصين إلى الهند، وهو الذي تُوِّج بإعلان مشروع الممر الاقتصادي
من الهند إلى أوروبا، وهو الذي ترعاه أمريكا، ويمر بـ«إسرائيل».
وهنا نتوقّف عند إحساس الصين بالخطر الذي تصاعَد مع خطط ترامب الاقتصادية التي
تُوصَف بالارتجالية، ولذا أصبح تأديب
«إسرائيل»،
وخنق الهند هدفًا إستراتيجيًّا وحيويًّا للصين التي تبنَّت المشاركة ودعم مشاريع
مضادَّة، على رأسها إغلاق باب المندب، وحصار الهند بإسقاط الحكومة الموالية لها في
بنجلادش، وإعادة
«حَسِينة»
إلى الهند من حيث جاءت.
ولكنّ الأهم تقديم دعم لامحدود لباكستان -العدو التقليدي للهند-، وتعميق التعاون
الإستراتيجي معها، في مقابل ذلك كانت الهند تبتعد عن سياسة عدم الانحياز، وتقترب
أكثر من الغرب، خاصةً مع وصول التيار الهندوسي المتطرف للحكم، وتحالفه المُعلَن مع
«إسرائيل»
ضد العدو المشترك.
ومن هنا نفهم أن إسقاط عمران خان ما هو إلا مرحلة لتفتيت باكستان بتحرُّك مباشر من
الهند، ودعم غربي وإسرائيلي، ولذا فتصريح الرئيس الأمريكي السابق
«جو
بايدن»
حول الخوف من وقوع السلاح النووي لباكستان في أيدٍ غير أمينة؛ يتَّسق مع مطالبة
وزير الدفاع الهندي -بكل وقاحة- بوضع السلاح النووي الباكستاني تحت الرقابة
الدولية!!
ومع توجُّه الهند للسلاح الغربي والإسرائيلي، والقيود الصارمة على استعمال السلاح
الأمريكي لدى باكستان؛ أحسّ الجميع أن الوقت قد حان لإعطاء الهند دورًا
إستراتيجيًّا في المنطقة، يبدأ بتحجيم باكستان التي بقيت -رغم محاولات إضعافها-
متمسكةً بعلاقاتها الإستراتيجية مع كلٍّ من الصين وتركيا.
ولذا فإن الحادثة التي وقعت في كشمير -وقد تكون مفتعلة-، كانت كافية لبدء دوران
عجلة من الأعمال العسكرية والحشد الإعلامي والسياسي ضد باكستان، وكان المزاج العام
أن الهند القوية قادرة على سَحْق باكستان إذا تم تحييد السلاح النووي لدى الطرفين،
ومَن منَع حتى روسيا من استعماله في أوكرانيا سيكون -بزعمهم- قادرًا على منع
باكستان. ولذا فميزان القوة كان في صالح الهند اقتصادًا وجيشًا، ولكنّ المتغيّر
الآن أن العالم يمر بمرحلة صراع إستراتيجي شعاره السعي لعالم متعدد الأقطاب،
وبالتالي فنحن في مرحلة صراع تكتلات مرتبطة بأطراف الصراع الرئيسية؛ فالهند معها
العالم الغربي لحصار الصين، وباكستان معها تركيا التي تعتبر حليفًا تقليديًّا
قديمًا، والصين التي تقاتل للتخلُّص من السيطرة الغربية المطلقة، وتُمثّل لها
باكستان فرصة استثنائية لضرب الهند، وإخراجها من المعادلات الغربية.
وحتى نعرف المزاج الغربي حول هذا الصراع نتتبّع تصريحات نائب الرئيس الأمريكي؛ ففي
البداية أيَّد الهند في محاربتها للإرهاب، وبعد التسخين مع باكستان التقى مع
«السي
إن إن»
ليوصّل رسالة بأن ما يجري بين الهند وباكستان لا يهمّ أمريكا، وهو ما يعني منح
الضوء الأخضر للهند لسحق باكستان، ولكنَّ الصراع الذي بدأ اتضح أنه بين طرف واثق
بتفوُّقه وحلفائه، أما الطرف الآخر فهو يخوض حربًا للبقاء وإثبات الوجود.
ومن هنا وقعت الاشتباكات التي سمحت لباكستان بإثبات تفوقها، وأكَّدت أن حلفاءها
يملكون مصداقية أكثر من العالم الغربي، وتوقفت الاشتباكات بعد تدخُّل سريع من
أمريكا، وانتهت أيضًا بتتويج تحالَف مُعلَن بين الصين ومجموعة من الدول المسلمة
التي أعلنت تأييدها الصريح لباكستان، وهي تركيا وأذربيجان.
وفي الختام، نلاحظ أن هناك عملاً صينيًّا جادًّا لربط باكستان مع أفغانستان التي
بدأت في مرحلة فرض شروطها، والخروج من الحصار الغربي؛ عن طريق تطوير علاقات
اقتصادية مباشرة مع كلٍّ من روسيا والصين، واقتراب باكستان من الاعتراف الكامل
والصريح بطالبان، وهنا يقترب إعلان تحالف لتمثيل العالم الإسلامي في مرحلة تعدُّد
الأقطاب، وهو مطلب روسي صيني مُلِحّ، وهذا ثالثة الأثافي لنهاية النفوذ الغربي
المهيمن على العالم؛ فهل يتقبّل الغرب وجود هذا التحالف؟ ويسمح له بالتمدُّد السلس؟
أم يحاول وضع العراقيل أمامه؟ أو يحاول تكوين تحالف لقطب مضادّ؟
هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة. ولله عاقبة الأمور.