إن وحدة الشعور ووحدة الفكرة إذًا تُمثِّل مقومات وعوامل فاعلة في إحالة المتفرق إلى مؤتلف في نسيج تعبيري تتماهى فيه أجزاؤه في كلٍّ واحدٍ جامعٍ، هذا الكلّ هو عند أرسطو قصيدة الشِّعر، لكنَّ الوسط الحضاري الإنساني على امتداده الزماني والمكاني توسَّع بهذه الحال
خلَق الله -سبحانه وتعالى- الإنسان، ومَنحه قدرةً على البيان. والبيان في اللغة
يعني الكشف والإظهار والإيضاح. ولا شك في أن هذه القدرة الممنوحة تأخذنا إلى حزمة
من الثنائيات التي تتقارب فيما بينها من حيث الدلالة؛ (المجرد والمادي)، أو (الكامن
والظاهر)، أو (المخبوء والمرئي)؛ ففي داخل هذا الإنسان -بحُكْم صلته الحتمية
بعالمه، وما يحصل فيه-؛ تتكون مشاعر وأفكار لا مجال لإدراكها مِن قِبَل غيره إلا
بهذه العملية؛ ألا وهي
«التعبير».
وإذا توقّفنا أمام الجذر اللغوي لكلمة
«تعبير»،
ألا وهو مادة
«عَبَرَ»؛
نجده يقف بنا من بين ما يقف أمام حالة رحلية تقوم على الحركة والانتقال، هنا
تتبدَّى بجلاء ملامح هذه القدرة التي أعطاها الله للإنسان؛ ألا وهي البيان؛ فإحالة
المجرد الشعوري والذهني الذي يسكن قلب هذا الإنسان وعقله إلى ملموس بالجوارح، يعني
انتقالًا وتحوُّلًا من حالةٍ إلى أخرى.
هذا الانتقال يسترعي تأملاً استقرائيًّا واعيًا للهيئة التي يبدو بها هذا الملموس
في فضاء الاستقبال؛ لذا نجدنا أمام صنفين أثيرين:
- تعبير باللغة.
- تعبير بغير اللغة.
وفي التعبير باللغة تُصادفنا أنماط تنجزها يد الإنسان؛ تختلف من حيث التوجه الفكري
من جهة، ومن حيث الحال بالنظر إلى ثنائية (الحقيقة والمجاز) من جهة ثانية. أما عن
التوجه الفكري فإنها مسألة تتصل بحقول المعرفة الإنسانية المختلفة، من فلسفة
وتاريخ، وعلم اجتماع، وعلم نفس، وغير ذلك.
وأما مسألة الحال على مقياس طرفي ثنائية (الحقيقة والمجاز)؛ فإن التعبير الإنساني
ينفصل موزعًا إلى قسمين صارمين يعتمدان في النظر إليهما على الوقوف أمام الفن بكل
ما تحمله هذه اللفظة من معانٍ قُتِلَتْ بحثًا، ويكون الخارج عن محتواها الدلالي
آخِذًا مكانه على الطرف المقابل منها.
والوقوف عند اللغة؛ بوصفها وعاءً حاملًا لفكر الإنسان ولشعوره، مُجسِّدًا له،
واصلاً به بين الإنسان وعالمه، ومن يشاركونه صفة الإنسانية فيه؛ يدفع باتجاه محاولة
استقراء هذه العملية الملازمة لها؛ ألا وهي (التأليف)؛ حيث إن التأليف لفظة تنطوي
في معناها على الجمع والربط بين الأجزاء المتفرقة، هذا الربط من شأنه المقاربة من
جهة بين عناصر كانت متباعدة في الأصل، ومن جهة ثانية إنشاء موجود لم يكن قائمًا قبل
النهوض بتلك العملية؛ نحن إذًا بصدد إجراء يتأسس في حضوره على:
- جمع وتقريب.
- وإنشاء لجديد.
ويمكن إدراك البُعْد الدلالي لتلك العملية من خلال الوقوف على آية قرآنية، في سياق
مخاطبة ربنا -سبحانه- لنبيه -عليه أفضل الصلاة والسلام-، وإظهار النعمة والفضل
عليه؛ بأن الله جمَع قلوب أهل المدينة من الأوس والخزرج بعدما كان بينهما في
جاهليتهما من صراع وخصومات وسفك دماء؛ فصاروا جماعة واحدة ولُحْمَة واحدة سُمِّيت
بالأنصار؛ قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63].
في ضوء هذا الطرح يمكن القول: إن التعبير الإنساني تأليفٌ، هذه الكلمة تأخذنا
بالدرجة الأولى إلى الشق اللغوي في التعبير. وقد تحدَّث عالم اللغة السويسري الشهير
«فردينان
دي سوسير»
في كتابه
«محاضرات
في علم اللغة العام»
-ضمن مفاهيم ضَبَطها في شكل ثنائيات نُسِبَت إليه؛ بوصفه رائدًا لها- عن عملية
التأليف، وما تنطوي عليه من جمعٍ وإنشاءٍ من خلال هذه الثنائية (محور العلاقات
الاستبدالية، ومحور العلاقات السياقية). وإن الطرف الأول منها يشير إلى المتفرّق
المختلِف الذي يتحرك المُعَبِّر -بكسر الباء وتشديدها- ناحيته، مُنتقيًا وآخِذًا
منه ليقوم بعد هذه المرحلة -أي مرحلة الانتقاء- بترتيب وصياغة من شأنها أن تنشئ ما
كان مُتفرِّقًا إنشاءً جديدًا، يتجلى في الطرف الثاني من تلك الثنائية[1].
ومن الواضح أن هذه الثنائية عند
«دي
سوسير»
وصلتها الوثيقة بالتأليف تُسافر بنا حتمًا إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو وكتابه
«فن
الشعر»؛
الذي في ثناياه نتوقف أمام
«المحاكاة
والوحدة العضوية والموضوعية»؛
فاتصال الذات بعالمها، ونقلها على طريقتها الخاصة ووفق رؤيتها لما فيه نقلًا يأخذنا
في مرحلة تالية إلى هيئة تعبيرية نجد فيها تتابعًا وربطًا بين الأجزاء يُعين ويشجّع
عليه وحدة الحالة الشعورية والذهنية ممثلةً في الفكرة الجامعة لأجزاء النص؛ فمن
المعلوم أن أرسطو جعل تركيزه على فن الشعر، وما يصطبغ به من صبغة قصصية تعتمد على
السرد والتتابع[2].
إن وحدة الشعور ووحدة الفكرة إذًا تُمثِّل مقومات وعوامل فاعلة في إحالة المتفرق
إلى مؤتلف في نسيج تعبيري تتماهى فيه أجزاؤه في كلٍّ واحدٍ جامعٍ، هذا الكلّ هو عند
أرسطو قصيدة الشِّعر، لكنَّ الوسط الحضاري الإنساني على امتداده الزماني والمكاني
توسَّع بهذه الحالة، ولم يتوقَّف بها عند الشعر فحسب، بل تجاوزها إلى موجودات
تعبيرية أخرى غير الشعر وغير الفن بصفة عامة، دون أن ينسى أو ينفصل تمامًا عن أرسطو
وتنظيره لها؛ بوصفه مؤثرًا ومُلهمًا.
لكنّ هذه الوحدة الموضوعية يقابلها مفهوم قام بمعالجته كاتب عربي حاول أن يُنظِّر
لعملية التأليف العربي القديمة، وما تحمله من سمات مميزة لها؛ فالطابع الموسوعي في
الكتابة عند أهل التراث من المفكرين العرب في غالبية ما قدَّموا من مصنّفات، الذي
نلمحه في كتاباتهم التي تتشعَّب فيها الموضوعات والقضايا آخِذةً بزمام القارئ في
حقول معرفية شتَّى دفعت الدكتور عبد الحميد إبراهيم في سلسلةٍ أعدَّها في أجزاء عدة
تحت عنوان:
«الوسطية
العربية: المفهوم والتطبيق»،
مستعينًا بالأدب وبالتاريخ وبالقرآن الكريم إلى تناول هذه القضية التي جعلها
عنوانًا لسلسلته؛ ألا وهي مسألة الوسطية عند العرب، ومُنطلقه في ذلك الشأن قول الله
-تعالى- في سورة البقرة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:
143].
وفي ضوء هذا المفهوم، كما يرى دكتور عبدالحميد إبراهيم، وما ينطوي عليه من حالة
مرنة حاول أن يضع العربي وحضارته وكتاباته في إطار يُميِّزها عن غيرها؛ إذا ما
نظرنا إلى تراث اليونان -على سبيل المثال-، وحديث أرسطو عن الفضيلة؛ كونها تقع
متجمدة بين طرفين متناقضين، أما صاحب كتاب الوسطية العربية فيرى أن العربي وسطيته
لا تعني سكونًا جامدًا بين طرفين، لكنها حركة مرنة نشطة فعَّالة بين المتغايرين
والمتناقضين، هذه الحركة تأخذ من كل شيء بطرف، دون أن تقف منعزلةً مستقلةً نائيةً
بنفسها بعيدًا[3].
إن الوسطية ليست حالة مكانية، لكنها حالة معرفية تجعل من الرؤية وما ينبثق عنها من
معرفة عملية لا تعرف التطرف أو الانغلاق أو الانكفاء على وضعية فكرية رافضةً
معاديةً لغيرها[4]،
ولا شك في أن الرؤية الإسلامية تؤكد ذلك الحال؛ فلا إقصاء للآخر المختلف في معتقده
ولا انعزال؛ ففي الدين الإسلامي نجد قوله -عز وجل-: {لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ} [البقرة: 256]، وقوله: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}
[الرحمن: 10]؛ وإن الله خلق الدنيا، وجعلها وعاءً يسع كل الخلائق دون أن تكون حكرًا
على طائفةٍ بعينها، حتى وإن كانت على الحق الذي يرضاه الله.
ونجد كذلك قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ
كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}
[يونس: 99]، وقوله سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ
ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾
[الحجرات: 13]؛ ومن هنا يَفْهَم البعض من معاني الوسطية في المفهوم الإسلامي:
الحضور مع المُختلِف ومُجاورته، والتعايُش معه؛ دون إقصاء أو تسلُّط أو استحواذ، أو
سَعْي لفرض رؤيتنا عليه جبرًا.
ومن هذه القناعة يمكن الوقوف على هذا المفهوم الذي نظَّر له الدكتور عبدالحميد
إبراهيم؛ بناءً على الكائن في سياقنا الثقافي العربي التراثي؛ ألا وهو مفهوم
«الوحدة
التركيبية»؛
الذي يعني تجاور الأشياء وتمايزها، في نسيج تعبيري واحد جامع بينها جمعًا يقوم على
الانتقاء والترتيب[5]؛
بما يُتيح للمتلقّي في اقترابه منها أن يكون في حالة نشاط رحلي ذهني وشعوري يتنقل
ملتفتًا من نسق فكري إلى آخر. هذا المفهوم الذي يُمثّل سمةً تقف عندها الشخصية
الجمعية العربية من خلال الذوات الفردية المُكوّنة لها، وما قدّمته أقلامها من
أنساق معرفية تحمل في طياتها مصافحة لعلوم شتى دون أن تقصر نفسها على عِلْم بعينه،
كما هو الشأن فيما تلا ذلك من أزمنة في ظل ما صار يُعرَف بالتخصص؛ إذًا فإن الحالة
الموسوعية العربية في التأليف يُفسِّرها ذاك المصطلح الذي وضَعه د. عبدالحميد
إبراهيم في كتابه عن الوسطية العربية؛ ألا وهو مصطلح الوحدة التركيبية.
[1] فردينان دي سوسير، أصول اللسانيات الحديثة وعلم العلامات، ترجمة د. عز الدين
إسماعيل، ص33، 34، 35، طبعة 2000م، المكتبة الأكاديمية، القاهرة.
[2] أرسطوطاليس، فن الشعر، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، ص48، 49، 50، طبعة 1953م، مكتبة
النهضة المصرية، القاهرة.
[3] انظر: د. سيد محمد السيد، عبد الحميد إبراهيم، واسطة المنظومة النقدية، ص12،
13، 14، 15، الطبعة الأولى، 1999م، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
[4] انظر: د. أحمد يحيى علي، الشخصية العربية: الرؤية الوسطية للعالم، مجلة الرافد،
الإصدار الرقمي، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، عدد أبريل، 2022م.
[5] انظر: د. عبد الحميد إبراهيم، موسوعة الوسطية العربية، تطبيقات الوسطية (الكتاب
الثاني)، ص131، 132، 133، طبعة 2005م، دار طيبة، القاهرة.