استعلاء الحضارة الغربية وعنصريتها

وهناك شكل مغاير يتمثل في التمييز المؤسسي تجاه الآخرين؛ لأنهم لا ينتمون إلى نفس المجموعة اللغوية (أي: لا يتكلمون اللغات الأوروبية)، أو ينتمون لنفس الفرقة الاجتماعية الأوروبية أو يقتربون من الطباع النفسية الغربية. فالانطباع الذي يتولد لدى الأوروبي عن البربر


تأسست الحضارة الغربية الحديثة على مبدأ فصل الدين عن الدولة؛ من خلال مواقف عدائية متوارثة منذ القرون الوسطى ضد الكنيسة، فمن الطبيعي أن يكون خطابها علمانيَّ التوجُّه في كثيرٍ من وجوهه. علمًا بأن الخطاب الكنسي المسيحي لم يَغِب تمامًا، سواء لدى المتدينين، أو لدى الخطاب الاستعماري الذي اتخذ التبشير بالنصرانية شعارًا من أجل التوسع والهيمنة.

لقد أسفر الوجه العلماني للحضارة الغربية عن عواقب كارثية، بتراجع الأخلاق، والإمعان في اللذائذ، وتفتت الأسرة، وتخبُّط الإنسان، وافتقاده مرجعية روحية سامية؛ مما استدعى مراجعات نقدية تبدَّت فيما يُسمَّى فِكْر ما بعد العلمانية POST-SECULARISM، والذي طرح أسئلة عن دور الديانات في التاريخ الإنساني والحضاري، سواء كانت ديانات سماوية أو وضعية؛ مناقشًا التنوُّع الهائل للأديان، والنظر في تجذير الدين في التنافس الثقافي والحضاري، مع الأخذ في الحسبان اختلاف أنواع الأديان التاريخية والمعاصرة (سماوية وأرضية)، وإعادة مناقشة مصطلحات مثل: المقدَّس والمُدنَّس، الأرواح، والقوى الخارقة، والآلهة، والله، والنيرفانا، والنفس، والبراهمان... إلخ، والنظر في وصفها، وسبل تقييم أتباعها ما بين جيد، وسيئ، وغير مُبالٍ، ومروّع. وطرح أسئلة مفادها: ما هي الحدود بين المتعالي والمتميز (دينيًّا وأخلاقيًّا)؟ وظروفها البيئية (المكانية) والزمانية. ولماذا تكون الأحداث أو الأشياء أو الأفعال لها صفة القداسة؟ وكيف تبدو القِيَم المتعالية (السامية والمقدسة)، وكيف تُظهر نفسها، وتجعلها معروفة في هذا العالم؟[1].

وهي أسئلة فكرية عامة، تُعبِّر عن حصاد مُرّ للمجتمع الغربي، بعد قرون من إقصاء الدين عن الحياة (بنسبة كبرى)، مما أدَّى إلى تداعيات أخلاقية وقيمية وروحية واجتماعية خطيرة.

فمن مآسي الحضارة، إذا طغى فيها الفكر؛ صارت حضارة تفلسُّف وسَفْسَطَة، وشَغلت البشر عن السعي. وإذا طغى الإنسان بشهواته ورغباته وانحرافاته، وعزف عن القِيَم والأخلاق؛ سقط العنصر البشري الذي تعتمد عليه الحضارة. وإذا تضاءلت الموارد المادية، بجفاف عام، أو فيضان عارم، أو زلزال مدمر؛ سيموت الإنسان، ويتلاشى مُنْجَزه الحضاري. وإذا أقْصَت الدِّين عن الحياة؛ أضحى الإنسان فيها متخبطًا فاقدًا لمرجعية ربانية ثابتة للقِيَم والأخلاق.

والأمر يتم على تفاوت؛ فهناك حضارات اندثرت، وأخرى ضعفت، وثالثة أُقيمت وازدهرت. والحضارة الإسلامية يمكن أن تضعف، ولكنها حتمًا لن تندثر؛ لأنها مرتبطة بكتاب مقدَّس، ومسلم يُطبّق قِيَم القرآن، ويُحقّق خلافته لله بعمران الأرض، وستظل القِيَم فيها مرتبطة بالمرجعية النصية المقدسة، وبها يتجدد إبداع الإنسان وعطاؤه، فخفوت الحضارة أو تراجعها؛ سببه تراجع الإنسان المسلم ذاته، ولا علاقة له بالمرجعية أو بالمنهج.

إن المعالم واجبة التحقق في الفكر المبدع للحضارة متعددة؛ وأهمها: إيجابية الإنسان وحركته، فالفكر السكوني السلبي أو الانعزالي لا يصنع حضارة مهما كانت أخلاقه أو مثاليته. ومن هنا، نؤكد على أن الحضارة الإسلامية استندت إلى فكر رباني سامٍ، يُقدِّم تفسيرًا لعلاقة الإنسان بخالق الكون، ثم بعلاقة الإنسان بالكون، ثم علاقة الإنسان بالإنسان، ضمن منظومة من القِيَم والأخلاق، التي تنعكس في سلوكيات الإنسان وسعيه، وفي عمارته للأـرض[2].

فالبشر يتوزعون في مواضع عديدة بالأرض وأمكنة، منهم من أصابتهم الحضارة، فارتقوا، ومنهم من ظلوا دون التحضُّر، فإذا كانت هناك جماعات بشرية تميل إلى الهمجية، أو لا تزال في أدنى درجات الحضارة، مثل القبائل التي تعيش في الغابات أو الصحاري والقفار، فهذا لا يعني أنها أقرب إلى الحيوانية، وإنما هم بشر، ولكنَّ نصيبهم من التحضُّر قليل؛ وذلك بسبب عوامل عديدة؛ منها: قسوة البيئة الجغرافية، وانعزال هذه الجماعات البشرية، والتي ظلت متمايزة في تواصلها اللساني، وقِيَمها، وتقاليدها، وتدبير أمور معاشها، بعيدًا عن أيّ مجتمع بشري.

وإذا كان الغرب -مثلاً- ينظر إلى الجنس الأسود في إفريقيا، على أنه يعيش حياة بهيمية أقرب إلى التوحش، ويفترض أن هؤلاء الزنوج لا سبيل أمامهم إلى الرقي والتحضر؛ لأنهم جنس همجي متوحش؛ فتلك نظرة أوروبية شديدة العنصرية، تنعت هؤلاء الهمجيين بالبرابرة، وهو ما استوقف الفيلسوف الفرنسي تزفيتان تودوروف، وسعى إلى تفكيك هذا المصطلح، موضحًا أن مفهوم «البربرية» مأخوذ -بدايةً- من التراث اليوناني، ويعني الذين يتجاوزون القوانين الأساسية في الحياة، ويقيمون قطيعةً فعليةً بينهم وبين سائر البشر، فيقتلون دون رأفة، وينتهكون الأعراض متلذذين، غير مُفرّقين بين ذوي أرحامهم وبين غيرهم. وسلوكياتهم أقرب إلى حياة الغابة، بلا رقيب أو حسيب، فهم عادةً يعيشون في عائلات منعزلة، وليس في مساكن مشتركة، فهم أنصار الفوضى والتعسف، لا يعرفون النظام الاجتماعي. كما تقترب من البربرية البلدانُ التي يخضع فيها الناس لاستبداد طاغية، وتنأى عنهم البلدان التي يُعامَل فيها الناس كمواطنين على قدم المساواة، ويشاركون في تسيير أمور بلدهم[3].

 ويضيف تودوروف ملمحًا مهمًّا، يمكن أن نُطلق عليه «النظرة المضادة للحضارة»، ومفادها أن الغرب يتَّخذ من مقاييسه الحضارية حكمًا على الشعوب، ويُعمِّم نظرته على كلّ مَن يخالفه، بأنه بربري، وينسى الغرب أنه يمارس فعلًا بربريًّا، عندما يعامل الآخرين على أنهم لاإنسانيون ووحوش ومتوحشون.

وهناك شكل مغاير يتمثل في التمييز المؤسسي تجاه الآخرين؛ لأنهم لا ينتمون إلى نفس المجموعة اللغوية (أي: لا يتكلمون اللغات الأوروبية)، أو ينتمون لنفس الفرقة الاجتماعية الأوروبية أو يقتربون من الطباع النفسية الغربية. فالانطباع الذي يتولد لدى الأوروبي عن البربرية هو انطباع خادع؛ حيث يلجأ إليه الأوروبي لتشويه صورة الذين لا يروقون له، أو يعتدون عليه، أو من أجل تحويل القوة إلى حق، أو لكي يُموِّه رغبته كأوروبي مستعمر بالتسلط، عن طريق التدخل الإنساني، والنضال من أجل العدالة، فهو يُحافظ على البربرية من أجل الاحتفاظ بهذه المفاهيم العنصرية المرتبطة به[4].

فوصف الآخر في نظر الأوروبي بأنه بربري متوحش، يُشبِع نرجسية الأوروبي المتعالية على بقية شعوب الأرض، ويعلل للجيوش المستعمِرة ما تفعله بهؤلاء البرابرة.

ويفنّد حسين مؤنس ادعاءات الأوروبيين عن الزنوج، ذاكرًا أن الجنس الأسود وُجِد في ظروف جغرافية قاسية؛ أقاليم تغطيها الغابات الكثيفة، وتشتد فيها الحرارة، وتكثر الوحوش والحشرات والحيات مختلفة الأنواع، وغيرها من الحشرات والعناكب السامة، وفي هذه البيئة تكثر الأمراض الفتاكـة الـتـي تـنـقـلـهـا الحـشـرات، وتتسبب فيها أصناف لا حصر لها من الجراثيم؛ التي تتكاثر وتتوطـن فـي هـذه الظروف الجغرافية. يُضاف إلى ذلك أن حرارة الجو لا تُشْعِر الإنسان بالحاجة إلى الملابس، فيُفضِّل العُرْي إلا ما يستر اليسير من جسده. كما أن وفرة الطعام في بيئته الإفريقية ممثلة في الغابات والمراعي وكثرة مياه الأمطار والأنهار؛ لا تُحفِّز الذهن على النشاط بحثًا عنه، فلم يجد الإنسان الزنجي صعوبـة فـي إشباع غرائزه الأساسية، فظلت الغريزة غالبة نـشـيـطـة، فـي حين لـم يـجـد ذهنه ما يدعو إلى تنشيطه وصقل ملكاته ومواهبه. ونظرًا لكثرة أسباب الموت، يترسّخ في النفوس خوف دائم، لذا يلوذ الزنجي البسيط بالسحر والكهانة والخرافات[5].

وهو ما يُفسِّر الحالة التي تعيش عليها بعض القبائل في إفريقيا، في حياة أقرب إلى الطابع البدائي، في الأحراش والغابات، فعقائدهم وثنية، وحياتهم شديدة البساطة. ولكن هذه ليست كل إفريقيا، فهناك شعوب نالت قسطًا كبيرًا من الحضارة، ولها ثقافاتها العميقة، خاصةً التي انتشر فيها الإسلام، وهي التي تقع في شرقي إفريقيا ووسطها وغربها؛ شرقًا في الصومال والسودان، وأيضًا في غربها في السنغال ومالي؛ حيث أقيمت ممالك إسلامية عديدة، شهدت نهضة حضارية وثقافية، قام عليها ملوك نشروا الإسلام، وقهروا الشعوب الوثنية، ودعّموا جهود العلماء والدعاة.

وعلى سبيل المثال، كانت مملكة البولالا الإسلامية في السودان الغربي لها دور ثقافي وديني؛ حيث أصبحت مناطق تشاد وغانا والسنغال ومالي، وما حولها مصدرًا من مصادر الإشعاع للحضارة الإسلامية، وكانت على اتصال دائم بمراكز الثقافة الإسلامية في مصر وطرابلس وفزان[6].

وقد كان الدور الأكبر لانتشار الإسلام عائدًا إلى جهود العلماء والدعاة والتجار الذين وفدوا من شمال إفريقيا (المغرب والجزائر ومصر)، وأقاموا في مدن وواحات في الصحراء الكبرى، في جبل نفوسة وزوارة في ليبيا، ووادي ميزاب في الجزائر، وبعضهم استوطن الممالك الإفريقية المسلمة، وصاهروا أهلها، ونشطوا في نشر الإسلام واللغة العربية[7]، مرتقين بهذه الشعوب.


 


[1] POST-SECULARISM OR LIBERAL-DEMOCRATIC CONSTITUTIONALISM?, Veit Bader, Erasmus Law Review, Erasmus University Rotterdam , Rotterdam, Netherlands, 2012, Volume 5, Issue 1, PP 2-5.

[2] ( الظاهرة الحضارية في القرآن والسنة، د. عبد الحليم عويس، بحث منشور في مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، العدد 21، 1401هـ، ص165، 166.

[3] ) الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات، تزفيتان تودوروف، ترجمة: د. جان ماجد جبور، منشورات هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، ط1، 2009م، ص21، 22.

[4] المرجع السابق، ص24.

[5] الحضارة ومضامينها: دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها، د. حسين مؤنس، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1978م، ص19.

[6] الإسلام وحضارته في إفريقيا: سلطنة البولالا، د. عبد الفتاح مقلد الغنيمي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 1996م، ص79، 80.

[7]  (تاريخ المسلمين في إفريقيا، د. تقي الدين الدوري، د. خولة شاكر الدجيلي، هيئة أبوظبي للثقافة، 2014م، ص243. 

أعلى