يبدو أن التاريخ لم ينتهِ بعدُ، وأن إدارة الولايات المتحدة الأمريكية «الحية» التي كانت تُبشِّرنا بالمبادئ والأفكار الليبرالية وحقوق الإنسان والدمقراطية والتجارة الحرة، وتحاول عولمة قِيَمها؛ تحاول اليوم الخروج من جلدها كله جملة واحدة
في العادة تتخلَّص الحية من جلدها بالكامل كل فترة من الزمن، ولا تَحْدث تلك
العملية إلا بعد أن يكون جلدها الجديد قد اكتمل، أو أوشك أن يكون جاهزًا لكي يؤدي
مهمته؛ فيتم التخلص من القديم، في عمليةٍ شاقةٍ ومرهقةٍ بشكل كبير.
الحيّة بطبيعتها ناعمة الملمس، تسير دون أن تُصدر ضوضاء حولها، لذلك فإن عدوّها لا
يشعر بها إلا بعد أن تكون قد اقتربت منه بالقدر الذي لا يمكنه من الفكاك منها.
عندما تُغيِّر الحية جلدها تَضْعف حواسها إلى أقصى درجة، لذلك فهي تنزوي وتحاول
الاختباء. عندما تشاهدها من بعيد تشعر كأنها تحاول الانتحار؛ فهي ترطم نفسها
بالأحجار، وتحتك بشدة بالأشياء الصلبة والخشنة مُحاولةً إحداث شقّ في جلدها القديم.
إنها أوقات ضعف صعبة بالنسبة لها تجعلها أكثر عدوانية.
لكنها فرصة كبيرة لكل أعدائها لكي ينفلتوا من قبضتها، أو يجتمعوا فينالوا من قوتها.
إن مكامن قوة الحية في كونها ملساء ناعمة تلتفّ حول ضحيتها، ثم تعتصرها بالكامل
وتبتلعها كاملة.
بعد الحرب العالمية الثانية خرج الغرب منتشيًا، وتزعَّمت الولايات المتحدة كتلته
المنتصرة، وعليه دشنَّت نظامًا عالميًّا للهيمنة على العالم أجمع، نظام أملس غيَّر
طبيعة الغزو الخَشِن -إلا من حالات قليلة-، إلى نظامٍ يعتصر الشعوب والدول بطريقة
ملساء ناعمة، وينتزع منها أعز ما تملك من قِيَم وأفكار، ويتركها جثة هامدة. ثم
يُدْخِلها بالكامل في جُحْره، وإلا أصبحت أُمَّة مارقة.
«نهاية
التاريخ والإنسان الأخير»؛
كانت أطروحة الفيلسوف السياسي الأمريكي
«فرانسيس
فوكوياما»،
وركيزتها الأساسية أن الديمقراطية الليبرالية بقِيَمها عن الحرية، والفردية،
والمساواة، والسيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشكِّل مرحلة نهاية
التطور الأيديولوجي للإنسان، وبالتالي يجب عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغة
نهائية للحكومة البشرية.
وبغضّ النظر عن كيفية تجلّي هذه المبادئ في مجتمعاتٍ مختلفة؛ أي: انتصارها على صعيد
الأفكار والمبادئ، لعدم وجود بديل يستطيع تحقيق نتائج أفضل، وهو يرى أنه على المدى
البعيد، سوف تتغلب هذه المبادئ.
هذه كانت نظرة الولايات المتحدة إلى نفسها وإلى العالم. لقد وصلنا إلى نهاية
التاريخ، لا يوجد بين البشر مَن يستطيع أن يُقدِّم فكرًا أفضل ولا أرقى مما تقدّمه
الولايات المتحدة؛ لذلك يجب على الجميع أن يخضع لهذه الأفكار، ومَن لم يخضع الآن
فإن تطوره الطبيعي سينتهي به إلى نفس النتيجة؛ لأنه لا أفضل من ذلك في العالم.
لكن يبدو أن التاريخ لم ينتهِ بعدُ، وأن إدارة الولايات المتحدة الأمريكية
«الحية»
التي كانت تُبشِّرنا بالمبادئ والأفكار الليبرالية وحقوق الإنسان والدمقراطية
والتجارة الحرة، وتحاول عولمة قِيَمها؛ تحاول اليوم الخروج من جلدها كله جملة
واحدة.
فهي تحاول اليوم تقليص التزاماتها تجاه المؤسسات الدولية التي صنعتها، وتضييق نطاق
تحالفاتها مع الدول التي نزعت أنيابها قديمًا مقابل ضمان حمايتها. لم تعد تلك
الإدارة الحية تهتم بالإشراف على المسرح العالمي، ولا بنموذج يجب فَرْضه على
الجميع.
لقد قالت كلمتها لأوروبا والشرق الأوسط: إنه يجب أن يهتموا بمصالحهم الإستراتيجية
بدلاً من الاعتماد عليها في أمنهم. ولن تتدخل في حل الصراعات التاريخية لا في
أوروبا الشرقية ولا في غيرها. وأن مصالحها الاقتصادية والتجارية تأتي في المقدمة،
لذلك فلم يَعُد هناك حلفاء، بل الجميع أضحوا مُنافِسين، وعليهم دفع الرسوم
والضرائب.
لقد تخلَّت الإدارة الأمريكية
«الحية»
عن جميع حلفائها العسكريين والسياسيين والاقتصاديين، وهي لحظة تضطرب فيها حواسها،
وتصبح أكثر انعزالية وأشد عدوانية، لكنها اللحظة المُثْلَى لمن أراد من ضحاياها أن
ينفلت منها.
ونحن أضحى الضحايا، وأكثر مَن اعتصرتهم قوتها، واستباحت أرضهم وأموالهم، فأَوْلَى
لنا الخروج من ردغة الذل هذه.
ونحن -والله- أمة تملك كل مقومات الريادة، وقادرة على تحويل انتكاساتها إلى
انتصارات، واللحظة اليوم مُواتية، وساعة الخلاص قريبة، والانتظار خيانة، والاستمرار
في ساحة التبعية إلى حين تآكل منسأتهم وَهن فوق وَهن؛ ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا
تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٩]،
ونحن الأعلون سندًا، والأعلون متنًا، ميراثنا من الله، وعزّنا من الله، وصِلتنا
بالله تعالى.