• - الموافق2025/01/02م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
التحرُّر من الديكتاتورية

لقد احتاج بنو إسرائيل أربعين عامًا كي تزول من نفوسهم آثار التسلُّط الذي تعرَّضوا له، ولك أن تتخيل أبًا يُسْحَب منه طِفْله الرضيع ويُذْبَح أمام عينيه، وهو طائع خانع، ولنا أن نتخيل أُمَّة كاملة تُسام هذا العسف، ولا ترفع رأسًا، ولا تسعى على أقلّ تقدير إلى فر


«هاريت توبمان» امرأة أمريكية مشهورة، وإحدى رموز تحرير العبيد في الولايات المتحدة، وقد تم وضع صورتها على إحدى العُملات؛ تقديرًا لجهودها.

وقد علّقت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، والمرشحة الديمقراطية لرئاسيات عام 2016م هيلاري كلينتون على هذا القرار قائلة عنها: «إنها امرأة وقائدة ومُحارِبَة في سبيل الحرية، لا يُمكنني تصوُّر أيّ خيار للأوراق النقدية من فئة 20 دولارًا أفضل من هاريت توبمان».

«هاريت توبمان» امرأة من أصول إفريقية، لها جهودها في تحرير بني قومها من العبودية، وُلِدَت أَمَةً رقيقةً في الولايات المتحدة، بالقطع عندما جُلِبَ جدُّها من غانا لم يكن عبدًا، لقد وُلِدَ وعاش حُرًّا، إلى أن اختطفه الرجل الأبيض، وحوَّله إلى عبدٍ. لكنَّ الجيل الثاني لم يَعِ من الحياة غير العبودية.

لقد قامت «هاريت توبمان» بجهود عظيمة لتحرير العبيد، أو إن شئت فقل: بإعادتهم إلى حريتهم المسلوبة. لقد استطاعت تحرير أكثر من 700 شخص، كانت تقوم بنقلهم من الولايات الجنوبية إلى الولايات الشمالية؛ حيث تم إلغاء العبودية إبَّان الحرب الأهلية الأمريكية، وذلك عبر طرق وعرة وأساليب سرية كانت تُواجه بها الموت كلّ لحظة.

ومع ذلك عندما سألوها: ما هو أصعب شيء واجهته في نضالها ضد العبودية؟ فكانت الإجابة لافتة إلى حد كبير قالت: «أصعب ما واجهني هو أن أقنع شخصًا أنه ليس عبدًا».

ولو رجعنا إلى الوراء سنجد أن فرعون أذل بني إسرائيل، وتسلَّط عليهم عقودًا طويلة؛ قتَل أبناءَهم واستحيا نساءَهم، لقد سحق كرامتهم سحقًا، ونشَّأ أجيالًا تلو أجيال على طأطأة الرأس وعدم القدرة على رفعها للنظر إلى السماء؛ لذا لما حانت ساعة الحقيقة، ودعاهم موسى عليه السلام- إلى الجهاد في سبيل الله، ودخول الأرض المقدَّسة، لم يكن عجبًا قولهم لنبيهم: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤].

مع أنهم قد رأوا آيات الله والمعجزات رَأْي العين؛ لقد أغرق الله فرعون -الذي تسلَّط عليهم- أمام أعينهم، لقد ذهب الطاغية، ونصَرهم الله عليه بمعجزة من عنده، لكن هيهات! فلِلذِّلة وطأتها على قلوبهم، حَجَبتهم عن الجهاد مع نبيهم، مع وعدهم بالنصر؛ فالذِّلة تجذب صاحبها فيتثاقل إلى الأرض، وأُشْرِب قلبه الدنيا فأحبَّها ورضي بها؛ فأنَّى لهذا أن يُجاهد؟!

لقد احتاج بنو إسرائيل أربعين عامًا كي تزول من نفوسهم آثار التسلُّط الذي تعرَّضوا له، ولك أن تتخيل أبًا يُسْحَب منه طِفْله الرضيع ويُذْبَح أمام عينيه، وهو طائع خانع، ولنا أن نتخيل أُمَّة كاملة تُسام هذا العسف، ولا ترفع رأسًا، ولا تسعى على أقلّ تقدير إلى فرار من تلك الأرض التي يُسامون فيها سوء العذاب.

لقد فرض أتاتورك السفور قهرًا على شعبه، وغيَّر الأذان إلى اللغة التركية، وفرض العلمانية قسرًا، وأذلَّ شعبه أيما إذلال. اليوم زال أتاتورك عن تركيا، لكن لم تزل وصاياه ورؤاه وعلمانيته عن مجتمعه حيَّة بينهم.

قد يهرب الطغاة، أو يهلكون، لكنَّ ثمارهم النَّكِدَة تبقى حيَّة في شعوبهم؛ تراهم كل يوم، بل كل دقيقة، أحياء يتجولون ويمرحون في كل زاوية من زوايا بلادهم، إنهم يعودن ويتكاثرون ونحن لا ندري، نظن أننا تخلَّصنا منهم، لكنَّ الحقيقة أنهم موجودون.

إنَّ العدالة لا تُحقِّق الحرية، ولا القوانين تضمن عدم العودة إلى الظلم، ولا تكفي الدساتير لإشاعة الطمأنينة؛ وإقناع المضطهدين بأنَّ الذلة قد زالت ولن تعود.

كم من شعوبٍ فرحت بالتخلُّص من طُغَاتها، لكنَّها اليوم لو خُيِّرت؛ لاختارت العودة لأحضان الديكتاتور بكامل حريتها! قد يُفسِّر البعض بأنّ أحوال العباد والبلاد قد تسوء بعدهم، وأن الحنين ليس لشخص الديكتاتور نفسه، لكن لبعض من الأمن أو الاستقرار أو رغد من العيش ربما. لكن الوقائع تُنبئ بغير هذا.

ففي تركيا -على سبيل المثال-، ورغم ما حمَله أردوغان من تقدُّم وخير لشعبه، وما حقَّقه من إنجازات، ومع ذلك فهو لم يَبْقَ على سُدَّة كرسي الرئاسة إلا بشقّ الأنفس وبنسبة ضئيلة، ولو افترضنا جدلاً أن كمال أتاتورك قام من قبره وعاد، فنافَس على منصب الرئاسة، ونافَس على نَشْر ظلمه وقهره؛ لعاد الناس إليه.

لذا فالمعركة الأشد الآن هي معركة تحرير الناس من عبودية الطغاة إلى عبودية الله وحده؛ وتحريرهم من الذلة والانكسار لغير الله، إلى الذلة والانكسار لله وحده، وهي أمانة ثقيلة تحتاج إلى جهد جهيد، وبرامج توعوية، وأدوات وأساليب تربوية، وعناية وجهود حثيثة.

وهي -والله- المعركة الأهمّ والأبقى، والانتصار فيها هو الانتصار الحقيقي، وما زوال الطاغية إلا أُولَى مراحل النصر، وليس آخره، وما السياسة والاتفاقات والزيارات والمناورات السياسية هنا وهناك إلا تهيئة لتلك الجهود أن تُؤتِي ثمارها من دون مُعكِّرات أو مُعوِّقات؛ ولذا فهي المعركة الأولى.

إنها مرحلة إزالة الديكتاتورية وملاحقاتها في النفوس والقلوب، والتي قد تحتاج إلى عقود من الزمن، لكنّ الخطر أن تُؤجَّل تلك المواجهة أو يُغفَل عنها؛ فالعبودية لغير لله داء ووباء، ولكلّ عبيد لغير الله طُغَاتهم؛ فإن لم يَجِدُوهم أوْجَدُوهم!

  

أعلى