«رئيسي» القاتل والمقتول

وقد تضاربت السيناريوهات والتحليلات عن أسباب سقوط طائرة رئيس جمهورية إيران: أحد تلك السيناريوهات يقترب بأدلته أكثر إلى كون مقتل رئيسي كان بأيدٍ داخلية، وبتدبير أحد أركان النظام وموافقته، لإبعاده من ساحة التنافس على منصب المرشد الذي يتناوشه المرض


لم يكن مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي حدثًا متوقعًا، بل على العكس فالرجل محسوب على الجناح المحافظ المتشدّد المدعوم من المرشد، وهو رجل دين بالأساس، وجاء مباشرةً من السلطة القضائية إلى الرئاسة.

دخل رئيسي الحوزة الدينية في قم قبل الثورة بفترة وجيزة، وكان حينها في سنّ الخامسة عشرة، وهناك درس العلوم الدينية. وبعد خمسة أعوام فقط كان منصب المدّعي العام لمدينة كرج ينتظره، فعُيِّن به عام 1980م، وكان يبلغ من العمر 20 عامًا فقط، وفي عام 1982م احتفظ بمنصبه السابق، وعُيِّن مِن قِبَل مدّعي عام الثورة آية الله قدوسي، في منصب مدّعي عام مدينة همدان.

بعد فترة من شَغْله منصب المدّعي العام في مدينة همدان، وتحديدًا في عام 1985م، أصبح نائب المدّعي العام في العاصمة طهران، ثم أصبح المدّعي العام في طهران بأمرٍ من رئيس السلطة القضائية آنذاك؛ محمد يزدي.

وهنا كانت فرصته ليصبح أحد أقطاب النظام، ويُثبت ولاءه بالكامل، فلعب رئيسي دورًا في الإعدامات الجماعية للسجناء في صيف 1988م، بإصداره أحكام الإعدام؛ إذ تشكَّلت حينها -بناء على تعليمات المرشد الأول الخميني-، لجنة عُرفت باسم «لجنة الموت»؛ فقد أصدرت اللجنة أحكامًا جماعية بالإعدام ضد مئات السجناء السياسيين؛ في الوقت الذي كان يتطلع كثير من هؤلاء السجناء لإطلاق سراحهم، بعد أن قضوا فترات أحكام سابقة بالسجن.

كانت أحكام الإعدام الصادرة، ضد مئات المعارضين السياسيين دفعةً واحدةً؛ صادمةً بشكل كبير للمجتمع الإيراني، وحتى نُخَبه الدينية والسياسية على السواء، ولم يكن أيّ قاضٍ قادرًا على إصدار هكذا أحكام إلا شخصية ترى الصعود إلى دائرة صُنع القرار والتقرُّب من النخبة السياسية الجديدة الحاكمة في البلاد، أهم من دماء ضحاياه.

لقد أثارت إعدامات عام 1988م حفيظة أقطاب النظام نفسه، وكانت أحد أسباب الصدام بين حسن علي منتظري، والذي كان يشغل وقتها منصب نائب المرشد الأعلى، والخميني نفسه، وأدَّت مع أسباب أخرى إلى إقالته في عام 1989م، ثم عزله من مناصبه، مع فرض الإقامة الجبرية عليه في منزله بمدينة «قم».

وفي عام 2017م، نشر الموقع الرسمي لمنتظري تسجيلًا صوتيًّا يصف فيه الإعدامات الجماعية وقتها بـ«أعظم جريمة في تاريخ الجمهورية الإسلامية»، وكان منتظري قد أدلى بتلك التصريحات أمام أعضاء «لجنة الموت»، ومن ضمنهم إبراهيم رئيسي نفسه.

كان رئيسي هو صاحب أعظم جريمة إنسانية في تاريخ إيران، لكنّها كانت أعظم الروافع له في سُلّم السلطة في نظام الملالي. سكنت أرواح المظلومين القبور، وفُتحت لمظلوميتهم أبواب السماء.

وبعد ما يقارب الثلاثة عقود، ومنذ أيام قلائل، أعلنت السلطات الإيرانية مقتل إبراهيم رئيسي ومرافقيه في حادث سقوط طائرته الرئاسية، وأظهرت لقطات مصوَّرة من موقع الحادث تفحُّم جثته كليًّا.

هذا، وقد تضاربت السيناريوهات والتحليلات عن أسباب سقوط طائرة رئيس جمهورية إيران:

أحد تلك السيناريوهات يقترب بأدلته أكثر إلى كون مقتل رئيسي كان بأيدٍ داخلية، وبتدبير أحد أركان النظام وموافقته، لإبعاده من ساحة التنافس على منصب المرشد الذي يتناوشه المرض.

فقد أعلنت الحكومة الإيرانية أن طائرة الرئيس تعرَّضت لهبوطٍ خَشِن نتيجة سوء الأحوال الجوية، وتعبير «هبوط خشن» يُوحي أن مكانها وطريقة هبوطها معلومان، وإلا كان الأجدر أن يُقال اختفاء طائرة الرئيس مِن على الرادارات.

المفترض أن أجهزة الطائرة وهواتف الرئيس وحُرّاسه مجهَّزة بخاصية التتبُّع، لكنْ لم يتم التعرُّف على مكان سقوط الطائرة لأكثر من 17 ساعة، وتم بمعاونة خارجية.

بالإضافة إلى عدم تعرُّض الطائرتين المرافقتين للرئيس لأيّ إشكاليات مع تعرُّضهما لنفس الحالة الجوية التي أحاطت بالطائرة الرئاسية.

استعانة الدولة بالهلال الأحمر الإيراني للبحث عن الطائرة، في وقتٍ كان يجب عليها الاستعانة بالجيش أو فِرَق الحرس الثوري التي تمتلك القدرة والكفاءة للتعامل مع هكذا أحداث، وهذا ما لم يحدث إلا بعد ست ساعات، وبعد حلول الظلام.

ومع ذلك يبقى هذا أحد السيناريوهات، وتشير تحليلات أخرى إلى تدخُّل خارجي مِن قِبَل الأمريكان أو الإسرائيليين؛ ردًّا على الصواريخ التي أطلقتها إيران تجاه إسرائيل قبلها بأسابيع.

ويبقى السيناريو الثالث أن الطائرة تعرَّضت حقيقةً إلى سوء أحوال جوية أدَّى بها التدمير.

لا يمكن لأحد أن يقطع جازمًا بصحة أحد هذه السيناريوهات، وإن كان تعامل النظام الإيراني وتصريحاته إبَّان وقوع الحادثة يثير الكثير من الشكوك.

لقد كانت هذه هي نهاية إبراهيم رئيسي الشاب ذي العشرين من العمر، الذي دخل إلى السلطة من بوابة القضاء، وصعد فيها فوق أرواح الضحايا الذين حكَم عليهم بالإعدام، حتى وصل لمنصب الرئاسة، ثم سقطت طائرته به أو أُسْقِطَتْ.

كان صعود «رئيسي» متدرجًا وسريعًا، وكان سقوطه قبل وصوله بأمتار إلى ذروة النظام الإيراني؛ منصب المرشد الأعلى في الدولة الإيرانية، مباشرًا وسريعًا أيضًا، كان سقوطًا قويًّا ومُهَشِّمًا للآمال والطموحات بقدر الصعود نفسه.

والحقيقة أن الشخص الذي يبيع نفسه مرة واحدة لن يستطيع أن يشتريها بعد ذلك أبدًا، والإشكالية أنه لن يستطيع أن يتمتع بثمنها. هذا هو درس «رئيسي» لكل البائعين.   

  

أعلى